تأكدت ولاية جديدة للرئيس شي جين بينغ كرئيس للصين، بعد مؤتمر سياسي استمر أسبوع حصل فيه شي ورفاقه من قادة الحزب الشيوعي على دعم ممثلي العضوية الحزبية من مختلف أرجاء الصين. شهد المؤتمر ال20 للحزب، وهو الحدث الأهم بالنسبة للحزب الشيوعي الصيني الحاكم، تجمع نحو 2400 مندوب في بكين لإجراء تعديلات كبيرة وتغييرات دستورية قبل اختتامه الرسمي يوم السبت الماضي. تم الكشف عن أسماء سبعة قادة من الموالين الرئيسيين لشي كأعضاء في أقوى هيئة سياسية في الصين، اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، وهم يسيرون على خشبة المسرح بترتيب مواقعهم التنظيمية. وفي إطار فعاليات المؤتمر, ألقى الرئيس الصيني ملخصًا لتقرير العمل الموجه لأعضاء المؤتمر ليصوتوا عليه بالموافقة أو الرفض, لمدة ساعة و45 دقيقة. رسم التقرير خارطة طريق للتنمية ليس فقط للدولة الصينية, لكن لكل دول الجنوب حول العالم. كان هذا التقرير تتويجًا لجهد جماعي معقد استمر لعدة أشهر, انتهي بصدور النص النهائى الذي ساهم الرئيس شي في تأليف وتحرير الجزء الأكبر منه. ويمكن إجمال التقرير أن الخطة الرئيسية للحزب الشيوعي الصيني تنقسم إلى شقين: وضع اللمسات الأخيرة على" التحديث الاشتراكي "من عام 2020 إلى عام 2035 ؛ وبناء الصين – من خلال التحديث السلمي – كدولة اشتراكية حديثة" مزدهرة وقوية وديمقراطية ومتقدمة ثقافيًا ومتناغمة " على طول الطريق حتى عام 2049، حتى الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية. قال شي "من الآن فصاعدًا، صارت المهمة المحورية للحزب الشيوعي الصيني هي الاتحاد مع أبناء الشعب بمختلف قومياته في كل البلاد وقيادته لإنجاز بناء دولة اشتراكية حديثة قوية على نحو شامل، ودفع النهضة العظيمة للأمة الصينية على نحو شامل عبر التحديث الصيني النمط". وأشار إلى أن "الحزب انطلق نحو عصر جديد من الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وتخلص من الفقر المدقع، وأكمل بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، وبالتالي تم إكمال الهدف المئوي الأول، واصفًا الأحداث الرئيسية الثلاثة بأنها "انتصار تاريخي". التحديث السلمي المفهوم المركزي الوارد في هذا التقرير هو "التحديث السلمي"-وكيفية تحقيقه. قال شي " يحتوي مفهومنا عن التحديث السلمي على عناصر مشتركة لتصور شامل يصلح في جميع البلدان". يقوم التحديث السلمي على نظام نظري, يتسق مع الطابع الكونفشيوسي للثقافة الصينية, والنهج الماركسي للحزب الشيوعي الصيني. لم ينف شي حقيقة وجود مسارات جيواقتصادية مختلفة نحو التحديث بما يتسق مع الوضع التاريخي لكل مجتمع. لكن يقدم الطرح الصيني والتجربة الصينية قطعًا مع التصورات الغربية التي تفترض وجود طريق واحد للتنمية نحو التحديث, لذلك فإن ما تطرحه الصين عبر مفهوم التحديث السلمي هو بمثابة اتجاه يمكن أن تستفيد منه الدول النامية. ما تقترحه الصين يتردد صداه في جميع أنحاء الجنوب العالمي, فبكين هي أكبر شريك تجاري لما لا يقل عن 140 دولة، وهو ما يمكنها بسهولة من طرح وتجسيد مفاهيم مثل التنمية الاقتصادية عالية الجودة والاعتماد على الذات في العلوم والتكنولوجيا. شدد التقرير على هدف ضروري للصين يلزم تحقيقه من الآن فصاعدًا: تسريع الاعتماد على الذات في التكنولوجيا بحيث لا تستطيع القوة العالمية المهيمنة أن تتمكن من عرقلة التكنولوجيا الصينية، خاصة في مجال تصنيع أشباه الموصلات. فالصين تعاني من التضييق الغربي في هذا المجال, كل ذلك بهدف عرقلة عملية تطوير استقلالها التكنولوجي وريادتها الصناعية. لذلك ستحتاج الصين إلى الانخراط في مشروع وطني لإنتاج أشباه الموصلات. وهذه الحاجة هي جزء من ما يصفه التقرير بأنه "إستراتيجية تنموية جديدة"، مدفوعة بالتحدي الهائل المتمثل في تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي. ستعمل الصين على تعزيز القطاع العام، لتشكل الشركات الحكومية نظاما وطنيا لتطوير الابتكار التكنولوجي. حصون صغيرة وفي السياسة الخارجية, يحدد التقرير بوضوح: الصين تقف في مواجهة أي شكل من أشكال التحكم أحادي القطب بمصير العالم, كما ستقف في مواجهة أي تكتلات أو مجموعات تُشكل لمواجهة أي دولة بعينها, مثل الناتو وأوكوس. وهذا الطرح هو جزء من رؤية الصين لمستقبل العالم, حيث يشير التقرير إلى إعادة صياغة النظام العالمي, الذي يتسم بعدم العدالة بالنسبة للدولة النامية. لكن تواجه الصين مشكلة, فمع اعتقادها, على لسان شي, بضرورة الحفاظ على النظام الدولي "وفي القلب منه منظمة الأممالمتحدة", تظل مشكلة سيطرة الغرب على نظام اتخاذ القرار داخل الأممالمتحدة قائمة. بهذا الصدد من المفيد الانتباه لبعض الخبراء الغربيين القليلين من من لديهم معرفة بالصين. يعتقد مارتن جاك, الباحث في قسم الدراسات الدولية في جامعة كمبريدج, وأحد مؤلفي أفضل الكتب عن التنمية في الصين باللغة الإنجليزية, أن تحديث الصين في ظل نظام عالمي يسيطر عليه الغرب هو بمثابة معجزة, تحسب أولًا وقبل أي شيء للحزب الشيوعي الصيني : " كان ذلك تتويجًا لجهود الحزب الشيوعي الصيني, لم يكن هناك فرصة للتنمية والتحديث دون الحزب الشيوعي الذي أدار عملية مخططة في هذا الاتجاه". فمن خلال تقديمها مسارًا مغايرًا لنموذج التنمية المتمركز حول الغرب، جمعت بكين الأدوات اللازمة لتكون قادرة على مساعدة دول الجنوب حول العالم, سواء بالشراكة التنموية أو بمجرد تقديم النموذج المغاير. ويرى جيفري ساكس، مدير مركز التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، أن الصين "ستصبح قوة تكنولوجية رائدة. أملًا أن تصبح الصين رائدة في تقديم نموج اقتصادي لتحقيق الاستدامة….. سيتناقض ذلك مع النموذج الأمريكي" المختل وظيفيًا " الذي يتحول إلى مزيد من الحمائية في الأعمال والاستثمار". ويرى ميخائيل ديلاجين، نائب رئيس لجنة مجلس الدوما الروسي للسياسة الاقتصادية، أن الركيزة الرئيسية لنجاح التجربة الصينية تكمن في قدرة الحزب الشيوعي على تكيف الماركسية في القرن ال19 وتجربتها في القرن ال20 مع المتطلبات الجديدة". وهذه هي القيمة التي تضيفها الصين كنموذج موجه نحو المصلحة الوطنية وليس السياسات الحصرية التي تخدم مصالح رأس المال العالمي. الحزام والطريق تضمن التقرير إلقاء الضوء على المفهوم الشامل للسياسة الخارجية الصينية: مبادرة الحزام والطريق وممرات التجارة / الربط عبر أوراسيا وأفريقيا. كان الأمر متروكًا للمتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية "وانغ ون بين" لتوضيح إلى أين تتجه مبادرة الحزام والطريق: "تتجاوز مبادرة الحزام والطريق العقلية القديمة للألعاب الجيوسياسية، لتخلق نموذجًا جديدًا للتعاون الدولي. فهي لا تقودها مجموعة حصرية تستثني المشاركين الآخرين, ولكنها منصة تعاون مفتوحة وشاملة. هي ليست نتاج جهد الصين فقط، بل سيمفونية تؤديها جميع الدول المشاركة". ترتبط مبادرة الحزام والطريق في المفهوم الصيني بمفهوم "الانفتاح" على العالم. ومن المهم أيضًا أن نتذكر أن مبادرة الحزام والطريق أطلقها شي قبل تسع سنوات-في آسيا الوسطى (أستانا) ثم جنوب شرق آسيا (جاكرتا). وقد استفادت بكين من أخطائها، وتواصل صقل مبادرة الحزام والطريق بالتشاور مع الشركاء – من باكستان وسريلانكا وماليزيا إلى العديد من الدول الأفريقية. ولا عجب أنه بحلول أغسطس من هذا العام، وصلت تجارة الصين مع الدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق إلى 12 تريليون دولار، وتجاوز الاستثمار المباشر غير المالي في تلك الدول قيمة 140 مليار دولار. "اليوم, يوجد في شرق إفريقيا وكمبوديا طرق سريعة، ولدى كازاخستان موانئ برية للتصدير، ولدى جزر المالديف أول جسر عبر البحر، وأصبحت لاوس دولة متصلة بالعالم بعد أن كانت حبيسة" يقول وانغ. "حتى في ظل التحديات الخطيرة, من كوفيد إلى العقوبات الاقتصادية وانهيار سلاسل التوريد, يستمر التبادل التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي في الارتفاع; سكة حديد الصين-لاوس وجسر بيليساك في كرواتيا مفتوحان للأعمال; والعمل على سكة حديد جاكرتا-باندونغ عالية السرعة والسكك الحديدية بين الصين وتايلاند مستمر". تعزيز القوة العسكرية ولم تخلُ كلمة الرئيس الصيني من التأكيد على حاجة الصين إلى المضي قدمًا في تعزير قوتها العسكرية، إذ تعهد بتسريع "عملية تحديث العقيدة العسكرية للجيش بما يشمل تنظيمه وعتاده وأفراده". وقال إنه من المهم تطوير مجموعة من "التدابير الأمنية" في الصين في كلمة رددها أكثر من خمسين مرة في خطابه, داعيًا إلى تعزيز أسس الأمن القومي في الصين مع تحسين أنظمة الإنذار المبكر وضمان إمدادات الغذاء ومصادر الطاقة. بدوره، يرى ديفيد باندورسكي، المدير المشارك في مشروع "تشاينا ميديا بروجيكت" البحثي في جامعة هونغ كونغ، أن عبارة الأمن القومي كانت الأبرز في خطاب الرئيس الصيني. مضيفًا, إن الامر يعد بمثابة "استمرار لما رأيناه في عهد شي. يمكن الافتراض على نحو دقيق أن الكلام موجه للولايات المتحدة، لكن مع التعبير عن مخاوف داخلية حيال أمن التجربة التنموية في الصين." غموض في مسألة تايوان "إعادة التوحيد الكامل للوطن الأم يجب أن يحدث" هكذا تحدث الرئيس شي مشيرًا إلى قضية تايوان, لكن وصف المراقبون هذا التعبير بأنه كان خجولًا وغامضًا تجاه قضية تحتل أهمية كبرى حول العالم. بدوره، قال وين تي سونغ، المتخصص والمحاضر في شئون تايوان بالجامعة الوطنية الأسترالية، إن خطاب شي اتسم بنبرة أقل تصادمية عما كان يُتوقع. وأضاف أن الرئيس الصيني تحدث عن "إعادة التوحيد الكامل للوطن الأم وأنه يجب أن يحدث، لكنه كان غامضًا حيال كيفية تحقيق هذا". وقال إن بعض المراقبين في تايوان كانوا يخشون أن يضع شي "إستراتيجيات جديدة محددة لحل مشكلة تايوان"، مضيفًا "خطاب شي كان يحمل في طياته رغبة أكبر في الاستمرارية بدلًا من إحداث التغيير، فضلًا عن أنه تحدث عن رغبة حزم في معارضة استقلال تايوان، لكنه لم يتحدث عن خطط أو نوايا أو إطار زمني لتحقيق هذا". الحفاظ على الحزب منيعًا لا يقهر وفي لقائه مع الصحافة والإعلام بقاعة الشعب الكبرى قال شي:"لا يمكن لحزب سياسي أن يصبح منيعًا إلا إذا ظل ملتزمًا بالإصلاح الذاتي، على الرغم من أنه كان له ماض مجيد". وقال شي إن مسارات البناء والتهدئة التي اتُخذت في العهد الماضي، وخاصة في العقد الأول من العصر الجديد، جعلت الحزب الشيوعي الصيني أقوى وأكثر ديناميكية. كما حث شي أعضاء الحزب الشيوعي الصيني على البقاء في حالة تأهب قصوى متيقظين وحكيمين في مواجهة التحديات والاختبارات الجديدة في الرحلة المقبلة. وعلق تشانغ شوهوا، مدير معهد العلوم السياسية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعي: "في مواجهة بيئة دولية معقدة بشكل متزايد، خاصة في ظل تدهور الأنظمة السياسية الغربية وفي حين لم تعد العديد من الدول الغربية قادرة على انتخاب قادة ذوي أداء مهني، يؤكد الحزب الشيوعي الصيني على قيادته قوية، ويظهر قدرته على التنظيم والعمل الموحد والقدرة على التنفيذ". وختم شي حديثه في المؤتمر الصحفي قائلًا" يجب أن نتأكد من أن حزبنا البالغ من العمر قرن، وهو الأكبر في العالم، سيصبح أكثر نشاطًا من أي وقت مضى من خلال الإصلاح الذاتي والانضباط الداخلي, وأنه سيظل العمود الفقري القوي الذي يمكن للشعب الصيني الاعتماد عليه في جميع الأوقات