بعثة مصر للطيران تعقد اجتماعًا تنسيقيًا بجدة استعدادًا لعودة حجاج بيت الله    العدوان على غزة، موقف عمال ميناء مارسيليا يكشف عورة الإدارة الأمريكية    قراركم مخالف، رد رسمي من الزمالك على اتحاد الكرة بشأن عقد زيزو    مدبولي يطلق رسميا خدمات الجيل الخامس في مصر    انضمام ماجد المصري لفريق أبطال الجزء الثاني من فيلم السلم والتعبان    صور أقمار اصطناعية تظهر قاذفات روسية مدمرة بعد هجوم أوكراني بالمسيرات    فيفا يخفض أسعار تذاكر افتتاح كأس العالم للأندية بين الأهلي وإنتر ميامى    أمريكا أبلغت إسرائيل أنها ستستخدم الفيتو ضد مشروع قرار يدعو لوقف إطلاق النار بغزة    نقابة بميناء فرنسى ترفض تحميل حاوية عسكرية متجهة لإسرائيل وتؤكد : لن نشارك بالمجازر المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني    وفد الأقباط الإنجيليين يقدم التهنئة لمحافظ أسوان بمناسبة عيد الأضحى    لبحث سبل التعاون.. نقيب المحامين يلتقي رئيس جامعة جنوب الوادي    مفتي الجمهورية: فلسطين في قلب الضمير الإسلامي والقدس جوهر القضية    طرح البوستر الدعائي ل فيلم "آخر رجل في العالم".. صورة    الإفتاء: صلاة الجمعة يوم العيد الأكمل ويجوز أداؤها ظهراً في هذه الحالة    تكبيرات العيد تتصدر البحث مع اقتراب عيد الأضحى المبارك    الصحة العالمية تقدم نصائح مهمة للحجاج قبل الوقوف على عرفات    «شوفوا وأمِّنوا».. صلاح عبدالله يوجه رسالة لجمهوره بمشهد من مسلسل «حرب الجبالي»    التعليم العالي: «القومي لعلوم البحار» يطلق مبادرة «شواطئ بلا مخلفات بلاستيكية»    عاجل- عودة إنستاباي بعد عطل فنى مؤقت وتوقف التحويلات    يوم التروية يتصدر التريند وبداية مناسك الحج تفتح باب الدعاء    اورنچ مصر تُعلن عن الإطلاق الرسمي لخدمات الجيل الخامس (5G) في السوق المصري    أول رد من الأوقاف بشأن ندب الأئمة.. ماذا قالت؟    كريم محمود عبد العزيز يحيي ذكرى ميلاد والده برسالة مؤثرة    «إحلالٌ.. نعم! إغلاقٌ.. لا!»    مصرع طالب جامعي بطلق ناري في مشاجرة بين عائلتين بقنا    يوم التروية فى الحرم المكى.. دموع ودعاء وتكبير يلامس السماء (صور)    الرقابة المالية تتقدم بمقترحات بشأن المعاملات الضريبية على الأنواع المختلفة لصناديق الاستثمار    منتخب شباب اليد يتوجه إلي بولندا فجر 17 يونيو لخوض بطولة العالم    الوداد المغربى يستعجل رد الزمالك على عرض صلاح مصدق    حريات الصحفيين تطالب بالإفراج عن 22 صحفيا معتقلا بمناسبة عيد الأضحى    أهم أخبار الكويت اليوم الأربعاء.. الأمير يهنئ المواطنين والمقيمين بعيد الأضحى    محمد بن رمضان يعيد أمجاد هانيبال مع الأهلي.. من هو وما قصته؟    قرار عاجل من الزمالك بفسخ عقده لاعبه مقابل 20 ألف دولار    بعد اهتمام برشلونة والنصر.. ليفربول يحسم موقفه من بيع نجم الفريق    القاهرة تستضيف النسخة الرابعة من المؤتمر والمعرض الطبي الإفريقي «صحة إفريقياAfrica Health ExCon»    المفوضية الأوروبية تعطي بلغاريا الضوء الأخضر لاستخدام اليورو    صعب عليهم نسيان الماضي.. 5 أبراج لا يمكنها «تموڤ أون» بسهولة    محمد رمضان يقترب من الانتهاء من تصوير «أسد»    اتفاق تعاون بين «مصر للمعلوماتية» و« لانكستر» البريطانية    سيراميكا كليوباترا يفتح الخزائن لضم «الشحات وعبد القادر»    بعد نشرأخبار كاذبة.. مها الصغير تتقدم ببلاغ رسمي ل«الأعلى للإعلام »    برسالة باكية.. الشيخ يسري عزام يودع جامع عمرو بن العاص بعد قرار الأوقاف بنقله    خُطْبَةُ عِيدِ الأَضْحَى المُبَارَكِ 1446ه    نجم الزمالك السابق: وسط الملعب كلمة السر في مواجهة بيراميدز    رئيس هيئة الاعتماد يعلن نجاح 17 منشأة صحية فى الحصول على اعتماد "جهار"    جامعة القاهرة ترفع درجة الاستعداد القصوى والطوارئ بجميع مستشفياتها    وزيرة خارجية لاتفيا: سنعمل في مجلس الأمن لتعزيز الأمن العالمي وحماية النظام الدولي    تقرير: زوارق إسرائيلية تخطف صيادا من المياه الإقليمية بجنوب لبنان    الصحة: 58 مركزًا لإجراء فحوصات المقبلين على الزواج خلال فترة إجازة عيد الأضحى المبارك    رئيس الوزراء: إزالة تداعيات ما حدث بالإسكندرية تمت فى أقل وقت ممكن    مدبولي: الإعلان عن إطلاق المنصة الرقمية لإصدار التراخيص خلال مؤتمر صحفي    الإسكندرية ترفع حالة الطوارئ بشبكات الصرف الصحي استعدادًا لصلاة عيد الأضحى    مسلم يطرح أغنية جديدة بعنوان "سوء اختيار" من ألبومه الجديد    مد فترة التشطيبات.. مستند جديد يفجر مفاجأة في واقعة قصر ثقافة الطفل بالأقصر    أول تحرك من «الطفولة والأمومة» بعد تداول فيديو لخطبة طفلين على «السوشيال»    البابا تواضروس الثاني يهنئ فضيلة الإمام الأكبر بعيد الأضحى المبارك    مسابقة لشغل 9354 وظيفة معلم مساعد مادة «اللغة الإنجليزية»    رابط نتيجة الشهادة الإعدادية الأزهرية 2025.. الاستعلام برقم الجلوس عبر بوابة الأزهر فور اعتمادها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في عيد الأم الجالسات على أرض كورنيش النيل: حكايات أمهات ينتظرن الأمل أمام معهد الأورام
نشر في الأهالي يوم 24 - 03 - 2021

أمام مبنى المعهد القومي للأورام الذى بني في ستينيات القرن الماضي، وبدأ عمله عام 1969 قرب نهر النيل تجلس الكثير من السيدات، تلمحهن بسهولة دون عناء إذا ما مررت من المكان، أو إذا كنت أحد ركاب سيارة ملاكي أو أجرة في طريق الكورنيش، يجلسن على الرصيف المقابل، بعضهن يفترشن قطعة قماش أو كرتونة، وبعضهن يجلسن أمام مبنى المعهد مباشرة على رخام السلالم إذا ما ازدحمت العيادات بالداخل، كثيرات منهن يحملن ملامح ريفية، وأخريات لا تظهر ملامحهن جيدا، قد ترى إحدى السيدات تحمل ابنها أيًا كان عمره على ظهرها، وهو لا يستطيع السير بعد تلقي جرعات العلاج الكيماوي، عقب خروجها من المعهد دون أى مساعدة، وعن طيب خاطر.
رحلة تلك السيدات التي رصدتها "الأهالي" في يوم عيد الأم، لم تكن رحلة شاقة فقط في الحضور، بل شاقة فيما يحملنه داخلهن من قلق وفزع وحتى الأمل نفسه أحيانًا.
من المفترض أنهن الآن في المنزل يجهزن لاحتفال يليق بهن ويينتظرن الهدايا، لكن اليوم يختلف مع تلك الوجوه، رحلتهن لا تبدأ من هذا المشهد، قد تكون بدأت بالفعل منذ فجر اليوم أو قبله، حين يستيقظن ويجهزن تفاصيل صاحبتهن حتى الكورنيش، يرتبن يومهن القائم على الرضا بما حدث والأمل في الوقت، يضعن أمام أعينهن مراحل المجيء والانتظار والأبواب "عيادات خارجية، تلقي العلاج الكمياوي، نقل الدم، ثم العودة وتداعيات ما حدث".
جميعهن لا يرفضن الحديث والفضفضة، إحداهن أخبرتني: "كفاية إني فضفضت معاكي"، يقذفن في وجوه الجميع استحالة التحمل في حالة تأمل ما يروي، لكنهن يعاودن الحكاية على طريقة محمود درويش "نربي الأمل".
هنا بعض الحكايات للجالسات أمام المعهد القومي للأورام، مانحات الجميع معادلات للصبر والتحمل والقوة والمثابرة، الممزوجة بالدموع ونبرات الصوت التي توقر في القلب عظمة الأمهات الصانعات كل هذا الحب.
السرطان:
وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، السرطان هو ثاني سبب رئيس للوفاة في العالم، والالتهابات المسببة للسرطان مثل التهاب الكبد وفيروس الورم الحليمي البشري مسؤولة عن نسبة تصل إلى 25% من حالات السرطان في البلدان المنخفضة الدخل ومتوسطة الدخل، ويمكن الحد من وفياته في حالة الكشف المبكر، فيما يتطلب كل نوع منه نظامًا علاجيًا خاصًا، يشمل أسلوبًا واحدًا أو أكثر من أساليب العلاج مثل الجراحة والعلاج الإشعاعي والعلاج الكيميائي.
فاطمة: "الرحلة دي صعبة على أي أم"
فاطمة، سيدة ثلاثينية جميلة الملامح، ترتدي الكمامة وتحمل طفلا صغيرًا لا يزيد عمره على أربع سنوات، تعبر الشارع للوقوف ناحية النيل أمام المعهد من أجل التقاط أنفاسها بعد خروجها من مبنى المعهد حين وجدت أن الزحام في الداخل لا يمنحها أنفاسًا هادئة، وحتى يأتي ميعاد دورها في الكشف.
فاطمة تزور المعهد مرتين في الأسبوع بطفلها، حيث تقطع الطريق من المنوفية لتلقي جرعات الكيماوي، بعد أن اكتشتفت إصابة ابنها بسرطان الدم منذ شهر يوليو الماضي، وهو الاكتشاف الذي جاء بالصدفة أثناء إجراء تحاليل من أجل عملية اللحمية، الصدمة كما تروي فاطمة أصابتها بفقد النطق لفترة لكنها لم تجد بدًا من التماسك لعلاج ابنها.
تستقل فاطمة تاكسي إلى موقف عبود، ومنه إلى المنوفية ومن هناك تستقل سيارتين حتى تصل قريتها "البتانون"، لديها طفل آخر يبلغ من العمر 9 سنوات، وهو بصحة جيدة. تصف رحلتها: "رحلة صعبة أوي على أي أم"، سواء رحلتها الشاقة من بيتها إلى المعهد وما تلاقيه أو رحلتها في علاج ابنها، وأحيانا إصابة الطفل بعد أن يتلقى جرعات الكيماوي وتعود به إلى المنزل، بارتفاع درجات الحرارة فتضطر للعودة مرة أخرى فورًا، لأن الأطباء ينبهون على الأهالي ألا يتلقى أي أدوية الا بعلم المعهد وأطبائه.
لا تتحكم فاطمة في دموعها وهي تتحدث: " شعري نزل زيه، أتعب زيه"، تستيقظ في الرابعة فجرا أيام المجيء الى المعهد، ولا أحد يصاحبها لأن زوجها مريض بالضغط المرتفع، وحين صاحبها في الأيام الأولى من مرض طفلها كان يعود مرهقًا ومريضًا، فخشيت عليه وفضلت أن تتحمل هي الرحلة وحدها.
تحدّث نفسها دائمًا أنها ترضى بالقضاء والقدر وتحول بينها وبين السخط، تبكي كثيرا حين أردد " كل سنة وإنتي أم عظيمة"، وتتذكر والدتها التي نسيت أن تهنئها بعيد الأم، بعدما تحولت من شخص يضحك كثيرًا ومنتبه إلى شخص حزين: "أقول لابني مش إنت المقصود بالمحنة دي، أنا المقصودة، الابتلاء ده ليه أنا"، ثم تعود وتقول: "إذا أحب الله عبدا ابتلاه، ربنا بيقولي أنا بحبك أقوله يارب لأ؟".
"أي أم لم تعش تلك المحنة لن تشعر بي، وكل أم فيها لابد أن تكمل المشواروليس لديها خيار، في انتظار أمل الشفاء، وتثق في الله: "اللي زرع في الأول نخاع شوكي قادر يزرع في الآخر، اللى نجا يونس في بطن الحوت قادر ينجي ابني"، فاطمة الحاصلة على معهد فني صناعي، لا تجد عزاء لها سوى قراءة القرآن خصوصًا في منتصف الليل، حين توقظه للحصول على علاجه: "ياابني اللى جاب لك التعب قادر يشفيك من عنده".
وهيبة: "مش هاسيبه لآخر لحظة وبشيله عادي"
"وهيبة"، سيدة تنتزع الانتباه من الواقفين أمام معهد الأورام، ومن بعض الجالسين في سياراتهم المارون بالمكان، حيث تحمل رجلًا على ظهرها وهي تحكم إمساكه في هدوء شخص يقوم بأمر اعتيادي لا يأبه من نظرات أحد، تسير في اتجاه سور مجرى العيون بعد الخروج من المعهد، أذهب إليها لأحدثها، معتقدة أن تلك السيدة الصغيرة في السن قد تكون زوجة أو أم، لكنها تخبرني أنها أخت "أحمد" البالغ من العمر 26 عامًا، والمصاب بضمور في المخ وسرطان في الدم، وأنها ذاهبة لشراء كيس دم ب800 جنيه طلبه المعهد لنقله لأخيها.
تأتي وهيبة أحيانًا يوميا وأحيانا ثلاث مرات في الأسبوع، والدتها في البيت لا تقوى على المجيء بابنها المريض، فتترك وهيبة أولادها مع أمها وتأتي بأخيها، مستقلة " توك توك"، تعمل في تنظيف سلالم العمارات، وتسكن في "عزبة خير الله".
تخبرني أن الكثير من الجيران والمعارف ينصحونهم بترك أحمد في البيت، وتلقي العلاج البسيط؛ لأن حالته ميئوس منها، إلا أنها ترفض هذه النصيحة القاسية، وتخبر الجميع بكل إصرار: "مش هاسيب أخويا لآخر لحظة".
"أم محمد": "إحنا عالم أرياف نعرف معني الأمل في الزرع"
أقترب من سيدة عشرينية ذات ملامح جميلة وعيون ملونة، إلا أنها تعاني من بعض البثور في الوجه البشوش، أعلم فيما بعد أنه طفح مرتبط بنفسيتها، تأتي من المنصورية ب"محمد" ابنها البالغ من العمر 9 سنوات، تبدو ملامحهما وحالتهما متماسكين إلى حد كبير بخلاف الكثير من الحالات، يعاني ابنها من سرطان في الغدد، لديها ابن وابنة أخريين، زوجها يزرع أراضي الجيران بمقابل مادي بسيط يساعدهم على المعيشة، اعتادت رحلتها من المنصورية لمعهد الأورام منذ 2018، تحفظ أيام المجيء عن ظهر قلب" الأربعاء والأحد"، وتنفق 80 جنيهًا في اليوم مواصلات، تدبرها قبل أى احتياجات أخرى، "ربنا بيسهل كل حاجة"، هكذا تطلق معادلتها في وجهي وهي تبتسم: "أنا كده كده مسلماها لله" .
وحين أسألها هل تلقيت تعليمًا؟ ترد: "مش لازم أكون متعلمة عشان أسلمها لله"، تبتسم في وجه ابنها، ويساعدها عمرها الصغير في تكوين صداقة معه، ومداعبته كثيرًا، تسعد بخبر إمكانية زرع نخاع شوكي لابنها، كما أخبرها الأطباء بمعهد الأورام: "إحنا عالم أرياف نعرف معنى الأمل في الزرع، مصر ما بتبعدش على حبيب".
تنتظر دورها في الكشف والمتابعة داخل المبنى، تؤكد أنها كأم لطفل مريض بالسرطان، تحتاج دعوات بالقوة: "أنا ممكن آكل طقة أو آكلها بملح لكن نفسي ربنا يشفي لي محمد بس"، تتركني وتعدل الكمامة الخاصة بها وتمسك بيد ابنها، وتعود إلى المبنى لعلهم نادوا الاسم، وتخبرني أن ابنها في الصباح هنأها بعيد الأم، مرددة: " زي ما تكون برشامة قوة عشان باقي اليوم".
معادلات الحاجة سعدية في الصبر:"
الحاجة سعدية عبدالله سيدة خمسينية تأتي من المنيا من بلدة "العوينات" مرة في الأسبوع، مع ابنتها البالغة 18 عاما، والتي أصيبت منذ سنوات بورم خبيث في الكُلية اليسرى، ثم فضّل الأطباء إزالة الكُلية، ولكن عاد إليها المرض مرة أخرى لنفس المكان، لديها خمسة أولاد، إحدى بناتها متزوجة ولديها طفل، والدهم تركهم وتزوج من أخرى.
الحاجة سعدية تفضل أن تروي ما تصادفه في حياتها من حكايات ليس لها علاقة بالمنطق المعتاد قدر ما يرتبط بالقدر الذى يقدر معاناتها، ترويه لنا أو ترويه لنفسها لتؤكد شيئا ما بداخلها، المهم أنها تمنحنا حكاية ملهمة للجميع.
تتذكر حين احتاجت نظارة طبية نتيجة ضعف في العين، منذ أن علمت بمرض ابنتها، وأخبرها طبيب العيون "وراثة ضعف النظر ومهما تجري مفيش فايدة"، لكنها لم تستطع عمل النظارة رغم احتفاظها بالكشف والمقاسات، وفي إحدى مرات قدومها للمعهد مع ابنتها سقطت في الشارع مرتين، فلاحظها أحد الأشخاص وذهب إليها متسائلًا عن عدم رؤيتها للطريق، فأخبرته أنها تحتاج نظارة، لكنها لم تأت بها بعد، وعندما أخبرته بأنها محجوزة مع ابنتها في المعهد لخمسة أيام، طلب منها الكشف الخاص بالنظر، وذهب وعاد بعد يوم بالنظارة، ومنحها وجبة غداء ليومها الطويل بالمعهد هي وابنتها، ولم يخبرها حتى باسمه، لتنهي حكايتها بحكمتها: "ربنا مع الغلبان".
الحاجة سعدية تنتظر ابنتها في الخارج، وحين تصاب بالإعياء نتيجة ما تتلقاه من علاج ينادونها لتدخل معها الحمام، أو تناولها المياه، وتستغرق رحلة الجرعات خمس ساعات في اليوم، ينتظرها في الخارج السائق الذى يعيدها وابنتها إلى قريتها بالمنيا، وتمنحه ما تستطيع دفعه وتؤجل باقي مستحقاته "لحين ميسرة"، يتحملها السائق أحيانًا وأحيانًا أخرى يطالب بالفلوس "يتمنجز" -على حد وصفها- في إشارة لنفاد صبره.
ليس لديها معاش لأن زوجها لم يطلقها بعد، وتخشي طلب الطلاق حتى لا يأخذ منها البيت المكون من طابق واحد به ثلاث غرف، زوجها موظف " نظامي" ويحب نفسه كثيرًا، كما تقول.
"أحمد ربنا.. بيرزقني ياست" ثم تعاود إلقاء حكاية جديدة لي عن زواج ابنتها الكبرى، حين عجزت عن تجهيزها: " ولا عندي فتلة في إبرة"، فما كان من أحد الجيران إلا عرض نصيحه بالذهاب لجمعية خيرية، وصاحبتني ابنتي العروسة وسألني عما أريده، و"عطاني تلاجة وغسالة وبوتاجاز"، وحمّلهم على " تروسيكل"، إضافة لألف جنيه لشراء ما أرادت من كعك وبسكويت: "وربنا دبرها من عنده وروحتّها مش ناقصة حاجة".
تعود الحاجة سعدية إلى ابنتها المريضة وتخبرني: "العيا ده ما ينفعش تجيبي علاج من برة، لازم اللى انتي مواضبة عنده بس، لازم تجيبيها المعهد أى وقت تتعب فيه حتى لو ماحيلتكيش حاجة، ورجعت أكتر من مرة وقت نزيف ووقت سخونية". تخبرني على قدر ما فهمته من تفاصيل المرض بما يحدث لابنتها في حالة الكيماوي: "لابد من دم قبلها يتم نقله لها لتحمل الكيماوي".
حين أختتم حديثي معها بأنها أم عظيمة وأهنئها بعيد الأم وأسالها هل تذكرك أحد اليوم؟ ترد قائلة: "اللى هايقولي مين ما الحبيبة عيانة أهي"، لكنها تعود وتمنحني وهى تنظر في عيناي قلادة صبر قائلة: "أنا متوكلة على ربنا ومتأكدة من جبره، ومش ببكي قدام بنتي عشان ماتحزنش".
"أم نورا": "أنا العيانة مش هي"
"نورا" سيدة ثلاثينية دخلت لتلقي جرعتها وفقا للجدول، وتركت والدتها جالسة والتي طلبت مني قراءة تاريخ صلاحية إحدى علب العصير، وحين أخبرتها اطمأنت وأعادتها إلى شنطتها مبتسمة وقائلة: "خليها لابن نورا".
سألتها عن نورا وعلمت أنها ابنتها المصابة بالسرطان في اللوز ثم الغدة ثم المعدة متنقلا في جسدها، وهي ابنتها الوحيدة، متزوجة ولديها ثلاثة أطفال، وتسكن معها في إمبابة، تستقل الأتوبيس للمجيء هنا مرتين في الأسبوع، علمتها حتى الثانوية لكنها لا تعمل الآن، تؤكد في محاولة لوصف إحساسها: "أنا العيانة مش هي"؟
تساعدها في تربية أبنائها، فالأم حريصة على أولادها، ولا تذهبهم إلى المدرسة خوفا من الإصابة بفيروس كورونا، لكنها تعطيهم دروس خصوصية.
"بنتي أميرة أوي وعينيها خضراء بس التعب بهدلها"، هكذا تتحدث عن نورا الأم الجالسة في انتظار الأيام أمام المعهد، حين انتشرت الكورونا قررن أن يأتين في المواعيد الخاصة بالعلاج، لكنهن حين يعدن إلى المنزل يخلعن الملابس وينظفن أجسامهن جيدًا، ويتركون باقي المعادلة على الله، على حد وصفها.
أماني بائعة الشاي أمام المعهد: "حياتي في عرض رهان من العابرين"
"يومي يبدأ من الثالثة فجرًا"، هكذا تتحدث أماني الشابة الثلاثينية المجاورة للنيل أمام معهد الأورام القومي، والتي فضلت أن تأتي يوميا لبيع الشاي والقهوة لزائري المعهد، المنتظرين للأمل خلال مصاحبتهم لذويهم ممن يتلقون العلاج بالداخل.
عمرها 31 عاما، تعيش في منطقة الجيارة، زوجها لا يعمل منذ أن أصيب في حادث سيارة قبل ثلاث سنوات، ولم يعد يستطيع المشي بشكل معتاد وأصيب بعرج، ومن وقتها وهي تعمل أمام المعهد لإيجاد قوت يومهم. أماني في عرض "رهان" كما تصف حياتها، تنتظر من يمر بها يمنحها أى منحة: "لحمة، فلوس بطانية، أكل".
تعاني أماني من البلطجية أحيانا حين يضايقونها، فلا تجد بُدا من "ترضية تصل إلى عشرة جنيهات أو يزيد"، تنهي عملها في الثالثة عصرًا وتعود إلى المنزل لعمل غداء لابنتيها وزوجها الذي يرافقها أحيانا يوميًا، ويجلس قرب النيل أسفل الكورنيش، وتفخر بمساعدته لها حين "يغير لها أنبوبة، أو يحضر مياه الشاي والقهوة والتنظيف".
تفتقد بلدها الأصلي، محافظة بني سويف، لكنها لا تذهب هناك إلا لزيارة قبر والدتها أحيانا، تتحدث عن مرضى معهد الأورام وزائريه من زبائنها أنها تحبهم، وتترك الأمر لله في أي احتياطات أو إجراءات احترازية تخص الكورونا أو غيرها، لا ترتدي كمامة أبدا لا هي ولا ابنتيها، لكنها تظن أن الله الحامي، تنتظر بين الحين والآخر في المواسم ما يأتيها به الحظ في سيارة تقف لها تمنحها ما تحتاجه: "شابة صغيرة امبارح وقفت وإديتني خمسين جنيه وقالت لي كل سنة وإنتي طيبة".
حصيلة يوم أماني من العائد المادي للشاي والقهوة على الكورنيش تتجاوز أحيانا 100 جنيه ، وأحيانا أخرى لا تتعدى 50 جنيها، لكنها تكفي لدفع ايجار الغرفة المؤجرة في الجيارة والتي تحتاج 300 جنيه في الشهر، وهو مبلغ زهيد بالنسبة للإيجارات التي تسمع عنها أماني، وتتحدث عنها باندهاش وهي توسع حدقة عينيها.
إجازتها يوم الجمعة لغسل الملابس، وتنظيف البيت والاستعداد لأسبوع جديد من العمل الشاق والمجازفة بجوار النيل، وبالقرب من معهد الأورام، تمنح أماني نفسها معادلة خاصة في الصبر والرضا، حين تخبرني أنها ترى الكثير من الحالات الموجعة يوميا وتحمد الله، ترى القلق والمعاناة من أهالي المرضى كل مرة يأتيها أحدهم يطلب منها الشاي أو القهوة أو أحد المشروبات الساخنة، والتي تضعها أحيانا في أكواب كرتونية من أجل الزبائن، الذين أصبحوا يرفضون الأكواب الزجاجية منذ انتشار فيروس كورونا.
إيمان البالغة من العمر عاما واحدا، وعبير البالغة من العمر ثلاث سنوات رفيقات أماني في المشهد، الصغيرة تضعها داخل صندوق بلاستيكي حتى لا تتحرك كثيرًا في مكان يفصلها سنتيمترات عن طريق سيارات سريع، والأخرى تجري هنا وهناك أسفل الكورنيش قرب النيل، ويراقبها والدها الجالس هو الآخر قريبًا من زوجته.
تتمني أماني أن تعلم ابنتيها، حتى لا ينتظرهن نفس مصيرها، تفكر في العيد المقبل: "عايزة أفرح ولادي بهدمة جديدة"، تعترف أنها تعيش على رهان لحظة عابرة، لكنها ليس لها أي حيلة سوى ذلك، خاصة وأنها غير متعلمة، ولا تجد مساعدًا لها، تفتخر بأنها لا تفعل شيئًا مشينًا، وفضلت أن تعمل وتصنع أدواتها لإعداد الشاي والقهوة، من خلال موقد صغير بأضلع حديدية، تضع فوقه أواني معدنية للمياه الساخنة وأواني أخري أصغر للقهوة، وفي الجانب " جرادل" بلاستيكية أحدها به صابون وكلور وآخر مياه للشطف، وحين تسمع عن تطعيمات للأطفال تسير بالقرب من سور مجرى العيون القريب من المعهد، وتدخل الوحدة الصحية لتحصل ابنتاها على التطعيمات وتعود إلى مكانها.
في عيد الأم الجالسات على أرض كورنيش النيل:
حكايات أمهات ينتظرن الأمل أمام معهد الأورام
تحقيق نسمة تليمة:
أمام مبنى المعهد القومي للأورام الذى بني في ستينيات القرن الماضي، وبدأ عمله عام 1969 قرب نهر النيل تجلس الكثير من السيدات، تلمحهن بسهولة دون عناء إذا ما مررت من المكان، أو إذا كنت أحد ركاب سيارة ملاكي أو أجرة في طريق الكورنيش، يجلسن على الرصيف المقابل، بعضهن يفترشن قطعة قماش أو كرتونة، وبعضهن يجلسن أمام مبنى المعهد مباشرة على رخام السلالم إذا ما ازدحمت العيادات بالداخل، كثيرات منهن يحملن ملامح ريفية، وأخريات لا تظهر ملامحهن جيدا، قد ترى إحدى السيدات تحمل ابنها أيًا كان عمره على ظهرها، وهو لا يستطيع السير بعد تلقي جرعات العلاج الكيماوي، عقب خروجها من المعهد دون أى مساعدة، وعن طيب خاطر.
رحلة تلك السيدات التي رصدتها "الأهالي" في يوم عيد الأم، لم تكن رحلة شاقة فقط في الحضور، بل شاقة فيما يحملنه داخلهن من قلق وفزع وحتى الأمل نفسه أحيانًا.
من المفترض أنهن الآن في المنزل يجهزن لاحتفال يليق بهن ويينتظرن الهدايا، لكن اليوم يختلف مع تلك الوجوه، رحلتهن لا تبدأ من هذا المشهد، قد تكون بدأت بالفعل منذ فجر اليوم أو قبله، حين يستيقظن ويجهزن تفاصيل صاحبتهن حتى الكورنيش، يرتبن يومهن القائم على الرضا بما حدث والأمل في الوقت، يضعن أمام أعينهن مراحل المجيء والانتظار والأبواب "عيادات خارجية، تلقي العلاج الكمياوي، نقل الدم، ثم العودة وتداعيات ما حدث".
جميعهن لا يرفضن الحديث والفضفضة، إحداهن أخبرتني: "كفاية إني فضفضت معاكي"، يقذفن في وجوه الجميع استحالة التحمل في حالة تأمل ما يروي، لكنهن يعاودن الحكاية على طريقة محمود درويش "نربي الأمل".
هنا بعض الحكايات للجالسات أمام المعهد القومي للأورام، مانحات الجميع معادلات للصبر والتحمل والقوة والمثابرة، الممزوجة بالدموع ونبرات الصوت التي توقر في القلب عظمة الأمهات الصانعات كل هذا الحب.
السرطان:
وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، السرطان هو ثاني سبب رئيس للوفاة في العالم، والالتهابات المسببة للسرطان مثل التهاب الكبد وفيروس الورم الحليمي البشري مسؤولة عن نسبة تصل إلى 25% من حالات السرطان في البلدان المنخفضة الدخل ومتوسطة الدخل، ويمكن الحد من وفياته في حالة الكشف المبكر، فيما يتطلب كل نوع منه نظامًا علاجيًا خاصًا، يشمل أسلوبًا واحدًا أو أكثر من أساليب العلاج مثل الجراحة والعلاج الإشعاعي والعلاج الكيميائي.
فاطمة: "الرحلة دي صعبة على أي أم"
فاطمة، سيدة ثلاثينية جميلة الملامح، ترتدي الكمامة وتحمل طفلا صغيرًا لا يزيد عمره على أربع سنوات، تعبر الشارع للوقوف ناحية النيل أمام المعهد من أجل التقاط أنفاسها بعد خروجها من مبنى المعهد حين وجدت أن الزحام في الداخل لا يمنحها أنفاسًا هادئة، وحتى يأتي ميعاد دورها في الكشف.
فاطمة تزور المعهد مرتين في الأسبوع بطفلها، حيث تقطع الطريق من المنوفية لتلقي جرعات الكيماوي، بعد أن اكتشتفت إصابة ابنها بسرطان الدم منذ شهر يوليو الماضي، وهو الاكتشاف الذي جاء بالصدفة أثناء إجراء تحاليل من أجل عملية اللحمية، الصدمة كما تروي فاطمة أصابتها بفقد النطق لفترة لكنها لم تجد بدًا من التماسك لعلاج ابنها.
تستقل فاطمة تاكسي إلى موقف عبود، ومنه إلى المنوفية ومن هناك تستقل سيارتين حتى تصل قريتها "البتانون"، لديها طفل آخر يبلغ من العمر 9 سنوات، وهو بصحة جيدة. تصف رحلتها: "رحلة صعبة أوي على أي أم"، سواء رحلتها الشاقة من بيتها إلى المعهد وما تلاقيه أو رحلتها في علاج ابنها، وأحيانا إصابة الطفل بعد أن يتلقى جرعات الكيماوي وتعود به إلى المنزل، بارتفاع درجات الحرارة فتضطر للعودة مرة أخرى فورًا، لأن الأطباء ينبهون على الأهالي ألا يتلقى أي أدوية الا بعلم المعهد وأطبائه.
لا تتحكم فاطمة في دموعها وهي تتحدث: " شعري نزل زيه، أتعب زيه"، تستيقظ في الرابعة فجرا أيام المجيء الى المعهد، ولا أحد يصاحبها لأن زوجها مريض بالضغط المرتفع، وحين صاحبها في الأيام الأولى من مرض طفلها كان يعود مرهقًا ومريضًا، فخشيت عليه وفضلت أن تتحمل هي الرحلة وحدها.
تحدّث نفسها دائمًا أنها ترضى بالقضاء والقدر وتحول بينها وبين السخط، تبكي كثيرا حين أردد " كل سنة وإنتي أم عظيمة"، وتتذكر والدتها التي نسيت أن تهنئها بعيد الأم، بعدما تحولت من شخص يضحك كثيرًا ومنتبه إلى شخص حزين: "أقول لابني مش إنت المقصود بالمحنة دي، أنا المقصودة، الابتلاء ده ليه أنا"، ثم تعود وتقول: "إذا أحب الله عبدا ابتلاه، ربنا بيقولي أنا بحبك أقوله يارب لأ؟".
"أي أم لم تعش تلك المحنة لن تشعر بي، وكل أم فيها لابد أن تكمل المشواروليس لديها خيار، في انتظار أمل الشفاء، وتثق في الله: "اللي زرع في الأول نخاع شوكي قادر يزرع في الآخر، اللى نجا يونس في بطن الحوت قادر ينجي ابني"، فاطمة الحاصلة على معهد فني صناعي، لا تجد عزاء لها سوى قراءة القرآن خصوصًا في منتصف الليل، حين توقظه للحصول على علاجه: "ياابني اللى جاب لك التعب قادر يشفيك من عنده".
وهيبة: "مش هاسيبه لآخر لحظة وبشيله عادي"
"وهيبة"، سيدة تنتزع الانتباه من الواقفين أمام معهد الأورام، ومن بعض الجالسين في سياراتهم المارون بالمكان، حيث تحمل رجلًا على ظهرها وهي تحكم إمساكه في هدوء شخص يقوم بأمر اعتيادي لا يأبه من نظرات أحد، تسير في اتجاه سور مجرى العيون بعد الخروج من المعهد، أذهب إليها لأحدثها، معتقدة أن تلك السيدة الصغيرة في السن قد تكون زوجة أو أم، لكنها تخبرني أنها أخت "أحمد" البالغ من العمر 26 عامًا، والمصاب بضمور في المخ وسرطان في الدم، وأنها ذاهبة لشراء كيس دم ب800 جنيه طلبه المعهد لنقله لأخيها.
تأتي وهيبة أحيانًا يوميا وأحيانا ثلاث مرات في الأسبوع، والدتها في البيت لا تقوى على المجيء بابنها المريض، فتترك وهيبة أولادها مع أمها وتأتي بأخيها، مستقلة " توك توك"، تعمل في تنظيف سلالم العمارات، وتسكن في "عزبة خير الله".
تخبرني أن الكثير من الجيران والمعارف ينصحونهم بترك أحمد في البيت، وتلقي العلاج البسيط؛ لأن حالته ميئوس منها، إلا أنها ترفض هذه النصيحة القاسية، وتخبر الجميع بكل إصرار: "مش هاسيب أخويا لآخر لحظة".
"أم محمد": "إحنا عالم أرياف نعرف معني الأمل في الزرع"
أقترب من سيدة عشرينية ذات ملامح جميلة وعيون ملونة، إلا أنها تعاني من بعض البثور في الوجه البشوش، أعلم فيما بعد أنه طفح مرتبط بنفسيتها، تأتي من المنصورية ب"محمد" ابنها البالغ من العمر 9 سنوات، تبدو ملامحهما وحالتهما متماسكين إلى حد كبير بخلاف الكثير من الحالات، يعاني ابنها من سرطان في الغدد، لديها ابن وابنة أخريين، زوجها يزرع أراضي الجيران بمقابل مادي بسيط يساعدهم على المعيشة، اعتادت رحلتها من المنصورية لمعهد الأورام منذ 2018، تحفظ أيام المجيء عن ظهر قلب" الأربعاء والأحد"، وتنفق 80 جنيهًا في اليوم مواصلات، تدبرها قبل أى احتياجات أخرى، "ربنا بيسهل كل حاجة"، هكذا تطلق معادلتها في وجهي وهي تبتسم: "أنا كده كده مسلماها لله" .
وحين أسألها هل تلقيت تعليمًا؟ ترد: "مش لازم أكون متعلمة عشان أسلمها لله"، تبتسم في وجه ابنها، ويساعدها عمرها الصغير في تكوين صداقة معه، ومداعبته كثيرًا، تسعد بخبر إمكانية زرع نخاع شوكي لابنها، كما أخبرها الأطباء بمعهد الأورام: "إحنا عالم أرياف نعرف معنى الأمل في الزرع، مصر ما بتبعدش على حبيب".
تنتظر دورها في الكشف والمتابعة داخل المبنى، تؤكد أنها كأم لطفل مريض بالسرطان، تحتاج دعوات بالقوة: "أنا ممكن آكل طقة أو آكلها بملح لكن نفسي ربنا يشفي لي محمد بس"، تتركني وتعدل الكمامة الخاصة بها وتمسك بيد ابنها، وتعود إلى المبنى لعلهم نادوا الاسم، وتخبرني أن ابنها في الصباح هنأها بعيد الأم، مرددة: " زي ما تكون برشامة قوة عشان باقي اليوم".
معادلات الحاجة سعدية في الصبر:"
الحاجة سعدية عبدالله سيدة خمسينية تأتي من المنيا من بلدة "العوينات" مرة في الأسبوع، مع ابنتها البالغة 18 عاما، والتي أصيبت منذ سنوات بورم خبيث في الكُلية اليسرى، ثم فضّل الأطباء إزالة الكُلية، ولكن عاد إليها المرض مرة أخرى لنفس المكان، لديها خمسة أولاد، إحدى بناتها متزوجة ولديها طفل، والدهم تركهم وتزوج من أخرى.
الحاجة سعدية تفضل أن تروي ما تصادفه في حياتها من حكايات ليس لها علاقة بالمنطق المعتاد قدر ما يرتبط بالقدر الذى يقدر معاناتها، ترويه لنا أو ترويه لنفسها لتؤكد شيئا ما بداخلها، المهم أنها تمنحنا حكاية ملهمة للجميع.
تتذكر حين احتاجت نظارة طبية نتيجة ضعف في العين، منذ أن علمت بمرض ابنتها، وأخبرها طبيب العيون "وراثة ضعف النظر ومهما تجري مفيش فايدة"، لكنها لم تستطع عمل النظارة رغم احتفاظها بالكشف والمقاسات، وفي إحدى مرات قدومها للمعهد مع ابنتها سقطت في الشارع مرتين، فلاحظها أحد الأشخاص وذهب إليها متسائلًا عن عدم رؤيتها للطريق، فأخبرته أنها تحتاج نظارة، لكنها لم تأت بها بعد، وعندما أخبرته بأنها محجوزة مع ابنتها في المعهد لخمسة أيام، طلب منها الكشف الخاص بالنظر، وذهب وعاد بعد يوم بالنظارة، ومنحها وجبة غداء ليومها الطويل بالمعهد هي وابنتها، ولم يخبرها حتى باسمه، لتنهي حكايتها بحكمتها: "ربنا مع الغلبان".
الحاجة سعدية تنتظر ابنتها في الخارج، وحين تصاب بالإعياء نتيجة ما تتلقاه من علاج ينادونها لتدخل معها الحمام، أو تناولها المياه، وتستغرق رحلة الجرعات خمس ساعات في اليوم، ينتظرها في الخارج السائق الذى يعيدها وابنتها إلى قريتها بالمنيا، وتمنحه ما تستطيع دفعه وتؤجل باقي مستحقاته "لحين ميسرة"، يتحملها السائق أحيانًا وأحيانًا أخرى يطالب بالفلوس "يتمنجز" -على حد وصفها- في إشارة لنفاد صبره.
ليس لديها معاش لأن زوجها لم يطلقها بعد، وتخشي طلب الطلاق حتى لا يأخذ منها البيت المكون من طابق واحد به ثلاث غرف، زوجها موظف " نظامي" ويحب نفسه كثيرًا، كما تقول.
"أحمد ربنا.. بيرزقني ياست" ثم تعاود إلقاء حكاية جديدة لي عن زواج ابنتها الكبرى، حين عجزت عن تجهيزها: " ولا عندي فتلة في إبرة"، فما كان من أحد الجيران إلا عرض نصيحه بالذهاب لجمعية خيرية، وصاحبتني ابنتي العروسة وسألني عما أريده، و"عطاني تلاجة وغسالة وبوتاجاز"، وحمّلهم على " تروسيكل"، إضافة لألف جنيه لشراء ما أرادت من كعك وبسكويت: "وربنا دبرها من عنده وروحتّها مش ناقصة حاجة".
تعود الحاجة سعدية إلى ابنتها المريضة وتخبرني: "العيا ده ما ينفعش تجيبي علاج من برة، لازم اللى انتي مواضبة عنده بس، لازم تجيبيها المعهد أى وقت تتعب فيه حتى لو ماحيلتكيش حاجة، ورجعت أكتر من مرة وقت نزيف ووقت سخونية". تخبرني على قدر ما فهمته من تفاصيل المرض بما يحدث لابنتها في حالة الكيماوي: "لابد من دم قبلها يتم نقله لها لتحمل الكيماوي".
حين أختتم حديثي معها بأنها أم عظيمة وأهنئها بعيد الأم وأسالها هل تذكرك أحد اليوم؟ ترد قائلة: "اللى هايقولي مين ما الحبيبة عيانة أهي"، لكنها تعود وتمنحني وهى تنظر في عيناي قلادة صبر قائلة: "أنا متوكلة على ربنا ومتأكدة من جبره، ومش ببكي قدام بنتي عشان ماتحزنش".
"أم نورا": "أنا العيانة مش هي"
"نورا" سيدة ثلاثينية دخلت لتلقي جرعتها وفقا للجدول، وتركت والدتها جالسة والتي طلبت مني قراءة تاريخ صلاحية إحدى علب العصير، وحين أخبرتها اطمأنت وأعادتها إلى شنطتها مبتسمة وقائلة: "خليها لابن نورا".
سألتها عن نورا وعلمت أنها ابنتها المصابة بالسرطان في اللوز ثم الغدة ثم المعدة متنقلا في جسدها، وهي ابنتها الوحيدة، متزوجة ولديها ثلاثة أطفال، وتسكن معها في إمبابة، تستقل الأتوبيس للمجيء هنا مرتين في الأسبوع، علمتها حتى الثانوية لكنها لا تعمل الآن، تؤكد في محاولة لوصف إحساسها: "أنا العيانة مش هي"؟
تساعدها في تربية أبنائها، فالأم حريصة على أولادها، ولا تذهبهم إلى المدرسة خوفا من الإصابة بفيروس كورونا، لكنها تعطيهم دروس خصوصية.
"بنتي أميرة أوي وعينيها خضراء بس التعب بهدلها"، هكذا تتحدث عن نورا الأم الجالسة في انتظار الأيام أمام المعهد، حين انتشرت الكورونا قررن أن يأتين في المواعيد الخاصة بالعلاج، لكنهن حين يعدن إلى المنزل يخلعن الملابس وينظفن أجسامهن جيدًا، ويتركون باقي المعادلة على الله، على حد وصفها.
أماني بائعة الشاي أمام المعهد: "حياتي في عرض رهان من العابرين"
"يومي يبدأ من الثالثة فجرًا"، هكذا تتحدث أماني الشابة الثلاثينية المجاورة للنيل أمام معهد الأورام القومي، والتي فضلت أن تأتي يوميا لبيع الشاي والقهوة لزائري المعهد، المنتظرين للأمل خلال مصاحبتهم لذويهم ممن يتلقون العلاج بالداخل.
عمرها 31 عاما، تعيش في منطقة الجيارة، زوجها لا يعمل منذ أن أصيب في حادث سيارة قبل ثلاث سنوات، ولم يعد يستطيع المشي بشكل معتاد وأصيب بعرج، ومن وقتها وهي تعمل أمام المعهد لإيجاد قوت يومهم. أماني في عرض "رهان" كما تصف حياتها، تنتظر من يمر بها يمنحها أى منحة: "لحمة، فلوس بطانية، أكل".
تعاني أماني من البلطجية أحيانا حين يضايقونها، فلا تجد بُدا من "ترضية تصل إلى عشرة جنيهات أو يزيد"، تنهي عملها في الثالثة عصرًا وتعود إلى المنزل لعمل غداء لابنتيها وزوجها الذي يرافقها أحيانا يوميًا، ويجلس قرب النيل أسفل الكورنيش، وتفخر بمساعدته لها حين "يغير لها أنبوبة، أو يحضر مياه الشاي والقهوة والتنظيف".
تفتقد بلدها الأصلي، محافظة بني سويف، لكنها لا تذهب هناك إلا لزيارة قبر والدتها أحيانا، تتحدث عن مرضى معهد الأورام وزائريه من زبائنها أنها تحبهم، وتترك الأمر لله في أي احتياطات أو إجراءات احترازية تخص الكورونا أو غيرها، لا ترتدي كمامة أبدا لا هي ولا ابنتيها، لكنها تظن أن الله الحامي، تنتظر بين الحين والآخر في المواسم ما يأتيها به الحظ في سيارة تقف لها تمنحها ما تحتاجه: "شابة صغيرة امبارح وقفت وإديتني خمسين جنيه وقالت لي كل سنة وإنتي طيبة".
حصيلة يوم أماني من العائد المادي للشاي والقهوة على الكورنيش تتجاوز أحيانا 100 جنيه ، وأحيانا أخرى لا تتعدى 50 جنيها، لكنها تكفي لدفع ايجار الغرفة المؤجرة في الجيارة والتي تحتاج 300 جنيه في الشهر، وهو مبلغ زهيد بالنسبة للإيجارات التي تسمع عنها أماني، وتتحدث عنها باندهاش وهي توسع حدقة عينيها.
إجازتها يوم الجمعة لغسل الملابس، وتنظيف البيت والاستعداد لأسبوع جديد من العمل الشاق والمجازفة بجوار النيل، وبالقرب من معهد الأورام، تمنح أماني نفسها معادلة خاصة في الصبر والرضا، حين تخبرني أنها ترى الكثير من الحالات الموجعة يوميا وتحمد الله، ترى القلق والمعاناة من أهالي المرضى كل مرة يأتيها أحدهم يطلب منها الشاي أو القهوة أو أحد المشروبات الساخنة، والتي تضعها أحيانا في أكواب كرتونية من أجل الزبائن، الذين أصبحوا يرفضون الأكواب الزجاجية منذ انتشار فيروس كورونا.
إيمان البالغة من العمر عاما واحدا، وعبير البالغة من العمر ثلاث سنوات رفيقات أماني في المشهد، الصغيرة تضعها داخل صندوق بلاستيكي حتى لا تتحرك كثيرًا في مكان يفصلها سنتيمترات عن طريق سيارات سريع، والأخرى تجري هنا وهناك أسفل الكورنيش قرب النيل، ويراقبها والدها الجالس هو الآخر قريبًا من زوجته.
تتمني أماني أن تعلم ابنتيها، حتى لا ينتظرهن نفس مصيرها، تفكر في العيد المقبل: "عايزة أفرح ولادي بهدمة جديدة"، تعترف أنها تعيش على رهان لحظة عابرة، لكنها ليس لها أي حيلة سوى ذلك، خاصة وأنها غير متعلمة، ولا تجد مساعدًا لها، تفتخر بأنها لا تفعل شيئًا مشينًا، وفضلت أن تعمل وتصنع أدواتها لإعداد الشاي والقهوة، من خلال موقد صغير بأضلع حديدية، تضع فوقه أواني معدنية للمياه الساخنة وأواني أخري أصغر للقهوة، وفي الجانب " جرادل" بلاستيكية أحدها به صابون وكلور وآخر مياه للشطف، وحين تسمع عن تطعيمات للأطفال تسير بالقرب من سور مجرى العيون القريب من المعهد، وتدخل الوحدة الصحية لتحصل ابنتاها على التطعيمات وتعود إلى مكانها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.