صدام جديد بين القضاة والنظام: «قضاة البيان» يعودون إلى المواجهة مع مجلس القضاء الأعلى عادت قضية ما يُعرف إعلامياً ب«قضاة من أجل مصر» و«قضاة البيان» إلى واجهة المشهد القضائي والسياسي في مصر، لتكشف مجدداً عن عمق الأزمة داخل مؤسسة يفترض أنها حارسة العدالة، لكنها باتت –وفق مراقبين– خاضعة لإرادة السلطة التنفيذية منذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013. وتأتي التطورات الأخيرة في ظل تصاعد التوتر بين النظام المصري والقضاة الذين رفضوا الانصياع الكامل للمسار السياسي الذي فرضه عبد الفتاح السيسي، في مقابل صعود قضاة آخرين ارتبط اسمهم بإصدار أحكام إعدام جماعية وقاسية، وُصفت دولياً بأنها تفتقر إلى أبسط معايير المحاكمة العادلة. جذور القضية: بيان ضد الانقلاب وثمنه العزل تعود جذور القضية إلى بيان أصدره عدد من القضاة الشرفاء عقب الانقلاب علي أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، الرئيس الشهيد محمد مرسي، اعتبروا فيه أن ما جرى «إهدارٌ لإرادة ملايين المصريين»، واعتداء صريح على الشرعية الدستورية. ولم يلبث أن جاء الرد سريعاً من السلطة، بقرارات عزل جماعية طاولت القضاة الموقعين على البيان، بدعوى «الاشتغال بالعمل السياسي». ومنذ عام 2016، يخوض القضاة المعزولون معركة قانونية شاقة لاستعادة حقهم في التقاضي، بعد حرمانهم من مناصبهم ومستحقاتهم، في واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل داخل الوسط القضائي المصري. تعطيل غير مسبوق لحق التقاضي عاد الملف إلى الواجهة مجدداً بعد تقدم عدد من القضاة المعزولين بعريضة إلى قلم المحضرين بمحكمة النقض، لإقامة دعوى طعن على حكم عزلهم. إلا أن القلم رفض قيد الدعوى للمرة الثانية، في واقعة أعادت إلى الأذهان ما جرى عام 2016، حين تم رفض القيد بقرار إداري غير معلن. لكن التطور الأخطر –بحسب قانونيين– تمثل في إبلاغ القضاة بأن مجلس القضاء الأعلى نفسه تدخل وقرر رفض قيد دعوى النقض خلال اجتماع رسمي، في سابقة اعتُبرت الأولى من نوعها في تاريخ القضاء المصري، وتنطوي على حرمان مباشر لمواطنين من حقهم الدستوري في اللجوء إلى قاضيهم الطبيعي. دربالة: تجاوز فجّ لاختصاصات القضاء وعلّق نائب رئيس محكمة النقض السابق المستشار محمد ناجي دربالة على الواقعة، مؤكداً أن القضاة لم يجدوا سبيلاً سوى إقامة دعوى جديدة، بعد استنفادهم جميع مسارات التقاضي الممكنة. وقال دربالة إن تدخل مجلس القضاء الأعلى لمنع قيد دعوى النقض يمثل «تجاوزاً فجّاً لاختصاصاته»، مشدداً على أن قبول أو رفض قيد الدعوى مسألة تختص بها المحكمة وحدها، وليس أي جهة إدارية، مهما علا شأنها. وأضاف أن القضاة لجؤوا سابقاً إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في تنازع اختصاص بين حكمين متعارضين: أحدهما صادر عن دائرة طلبات القضاة، حرمهم من حق الطعن، والآخر صادر عن المحكمة الإدارية العليا، أقر بحقهم في إقامة دعوى النقض. وعلى الرغم من أن الدستورية انتهت إلى عدم قبول الدعوى، فإن القاعدة القانونية المستقرة تقضي بأن اللجوء إليها يوقف سريان مواعيد الطعن، وهو ما يمنح القضاة حقهم في العودة لمحكمة النقض. معركة مستمرة داخل قضاء مُسيّس وأمام إغلاق هذا المسار أيضاً، لم يجد «قضاة البيان» بداً من إقامة دعوى جديدة أمام دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة استئناف القاهرة، طعناً على قرار عدم قيد دعوى النقض، حيث قُيدت الدعوى تحت رقم 1500 لسنة 142 قضائية، وحددت لها جلسة 18 يناير/كانون الثاني المقبل. ويرى مراقبون أن القضية لم تعد قانونية فحسب، بل باتت تعبيراً صارخاً عن إعادة هندسة القضاء المصري بما يضمن ولاءه الكامل للنظام، وإقصاء كل من رفضوا الانقلاب أو تمسكوا باستقلال السلطة القضائية، في مقابل ترقية وتمكين قضاة ارتبطت أسماؤهم بأحكام إعدام جماعية ومحاكمات وُصفت بأنها سياسية بامتياز. وبينما تتواصل المعركة في أروقة المحاكم، يبقى السؤال مطروحاً: هل ما زال في مصر قضاء مستقل، أم أن ميزان العدالة بات مرهوناً بالولاء السياسي وحده؟