17 مركزاً منتشرة بالمحافظات ومعهدا الأورام وناصر الأشهر معاناة وآلام وكفاح».. ثلاث كلمات تلخص حال مئات الآلاف من مصابي الأورام بمصر، ممن دفعهم مصيرهم لخوض معركة أمام أكثر الأمراض فتكاً، وبالرغم من وجود مصر في ذيل قائمة الدول المصابة بالسرطان - وفقاً لأحدث تقرير لمنظمة الصحة العالمية - إلا أن الحالات المصابة بالسرطان بكافة أنواعه في زيادة مستمرة كل عام، فمن المتوقع أن ترتفع معدلات الإصابة بالسرطان بمصر إلي ال 3 أضعاف بحلول عام 2050، ليصل المعدل إلي 341 حالة لكل 100 ألف نسمة بدلاً من 113 حالة في الوقت الراهن... وعلي مدار سنوات طويلة سعت كافة الجهات لمحاولة إيجاد منظومة مثلي لعلاج الملايين من المصابين بمختلف الأورام، انتهت ببدء أحد أعضاء لجنة الشئون الصحية بالبرلمان بإعداد مشروع قانون خاص بإنشاء مجلس قومي لعلاج الأورام ليكون المسئول الأول عن تنظيم عمل علاج الأورام في كافة أنحاء الجمهورية، إلا أنه وحتي يجد مريض السرطان رؤية واضحة وخطة متكاملة لعلاجه، فإنه لايزال يقع تحت رحمة »التكلفة المادية» التي تتحكم أولاً وأخيراً في رحلة علاجه، فسواء أجبرته ظروفه للعلاج علي نفقته الخاصة، أو تمكن من الخضوع لمظلة التأمين الصحي أو حتي الحصول علي علاج تابع لنفقة الدولة، فإن »التكلفة المادية» لاتزال العبء الأكبر في كل خطوة من خطوات علاج الأورام بأي شكل من الأشكال السابقة... وفي هذا الملف حاولت »الأخبار» مصاحبة مرضي الأورام في كافة خطوات علاجهم لرصد تكلفة محاولة التخلص من شبح »السرطان». يوجد بمصر نحو 17 معهداً لعلاج مرضي السرطان موزعة علي مختلف المحافظات ما بين أسوان وسوهاج وأسيوط والمنيا، وبالرغم من ضمها لخبرات طبية متميزة إلا أن نقص التجهيزات وتعطل الأجهزة وغيرها من الأسباب دفعت الآلاف من المرضي إلي التوجه للعاصمة، وبالتحديد لكل من معهد الأورام القومي ومعهد ناصر ليكونا الوجهة الأولي للمرضي الباحثين عن رحلة علاج ملائمة، وطوال سنوات ماضية خدمت هذه المعاهد الآلاف من المصريين وداوت آلامهم حتي أصبحت »مجانية العلاج» الوجه الحسن لها، إلا أن هذا الوجه دائماً ما يعكر صفوه »آنين المرضي» علي أعتاب هذه المعاهد، وكأنها ضريبة عليهم دفعها مقابل حصوله علي خدمة مجانية خاصة مع زيادة أعداد المرضي وضعف الدعم المادي والبشري المتاح. كانت بدايتنا بمعهد ناصر للبحوث والعلاج بكورنيش النيل، وبالتحديد مركز الأورام للعلاج الجراحي والكيماوي والإشعاعي، والذي استطعنا الوصول له مباشرة بعد أن قطعنا كافة البوابات الأمنية وأكشاك قطع التذاكر دون أن يستوقفنا أحد للسؤال عن وجهتنا أو تفتيش ما نحمله من حقائب، فوصلنا للساحة الأمامية للمركز في دقائق معدودة لنجد أمامنا مشهداً أشبه ب »محطة مصر»، فالعشرات من الأهالي تفترش المقاعد المرصوصة بساحة المركز، وبجوارهم مجموعة من »حقائب السفر» التي وضعوا عليها »ملابسهم المبللة» لتجففها أشعة الشمس، في مشهد ينم عن طول فترة مكوثهم في نفس المكان، بدأنا في الاقتراب منهم وما أن بدأنا التحدث مع أحدهم حتي تسارع الآخرون في بث شكاواهم. 9 ساعات »كل يوم زيارة بنقعد القعدة دي بال9 ساعات متواصلة وفي الآخر ممكن كمان منشوفش بنتنا» بهذه الجملة لخصت »سعدية بدر» ما تعجبنا من رؤيته عندما اقتربنا منها، وأوضحت قائلة »كل الشنط دي بتوعي أنا وخالاتها جايين من قنا مخصوص عشان نشوفها لكن في أحيان كتير الدكاترة بيرفضوا دخولنا حتي بعد ما ندفع تمن تذاكر الزيارة». وخلال دقائق علمنا أن سعدية ومن معها في انتظار زيارة فتاة لم تتعد ال20 من عمرها مصابة بسرطان الرئة، حجزها الأطباء بالعناية المركزة قبل 3 أيام، وأكدت سعدية أن وصولهم لمعهد ناصر سبقته رحلة معاناة مع أطباء الأورام، وأوضحت قائلة » لما عرفنا أن علاج الأورام بيكلف أوي كدا قررنا نعمل طلب علاج علي نفقة الدولة لكنه طلع بعد ما حالتها كانت اتأخرت أوي لأننا عرفنا متأخر، فدخلت العناية المركزة بعد ما وصلنا المعهد بأسبوع بس ويا عالم هتخرج منه ولا لأ». الجهاز عطلان بعد دقائق بسيطة تركنا الساحة الأمامية للمعهد بعد أن بدأ الطاقم الأمني للمركز ملاحظة تحركنا كثيراً، فاتجهنا مباشرة إلي عيادات الأورام داخل المركز لنجلس وسط العشرات من الأهالي من مختلف المحافظات، جمعتهم ساحة واحدة افترشها بعضهم للنوم في انتظار نتيجة أحد الأشعة، واتخذها البعض الآخر فرصة للتحدث و»الفضفضة»، وهناك قابلنا »رشيد عبد السلام» القادم من بني سويف مع والده مريض سرطان جالس علي كرسي متحرك في إحدي زوايا قاعة الانتظار، لاحظنا علي رشيد مظاهر الإنزعاج وعندما سألناه أوضح أن الموظفين بالدور العلوي أكدوا له أن جهاز الأشعة المقطعية »عطلان» وقاموا بإعطائه عنوان أحد مراكز الأشعة بمنطقة فيصل للتوجه لها، وهنا قال غاضباً »إزاي أتحرك بوالدي العاجز في بلد غريبة عليا، وإزاي عايزين أدفع تمن الأشعة هو مش معهد ناصر حكومي والمفروض كل حاجة ببلاش». تركناه وصعدنا للدور العلوي وبالتحديد بجانب قسم »أورام الأطفال» وأمام المكتب الخاص بمدير المركز، جلسنا قليلاً بعد أن طلبنا مقابلة المدير وحينها وجدنا إحدي الموظفات تتصل بعدد من المرضي لتبلغهم أن جهاز الأشعة عطلان وعليهم التوجه لمركز - حددت لهم اسمه - بمنطقة فيصل، دقائق بسيطة ودخلنا للمدير والذي تحفظ علي الحديث معنا وأرسلنا للمدير المباشر لمعهد ناصر، فعدنا مرة أخري لساحة عيادات الأورام لنستمع للمرضي. نقص العلاج من ضمن الجالسين بساحة العيادات وجدنا سيدة اتخذت من جانب الساحة متكئاً لها لتحاول الارتياح من مشقة اليوم، اقتربنا منها وحادثناها فقالت لنا » اكتشفت من كام سنة إن عندي ورم في السرطان، والدكتور قاللي فوراً تعملي عملية استئصال، ومن هنا بدأت في إجراءات العلاج علي نفقة الدولة لكن الورق اتأخر والدكتور حذرني من التأخير وخطورته عليا، ونصحني اعملها علي حسابي وفعلا عملتها علي حسابي في وقتها». وأضافت ميرفت السيد من سكان القناطر الخيرية أنها عقب ذلك بدأت بعد ذلك رحلة العلاج الكيماوي والإشعاع بالمعهد وتأتي للمتابعة ولإجراء التحاليل حتي أصبح الجميع من العاملين والأطباء علي معرفة بها. إلا أن ذلك لم يمنع أن يشغل بالها عدم توفر الحقنة التي اعتادت علي صرفها فأوضحت قائلة »بقالي سنين بتعالج لكن نقص الدوا من المعهد دا محصلش إلا في الفترة الأخيرة، ومن ساعتها وأنا بدور عليه بره وطبعاً بدفع أنا تمنه من جيبي، دا غير أن فعلا الوقت اللي بقيت بقضيه هنا طال جدا ووصل ل6 ساعات متواصلة عشان بس نتيجة التحاليل أعرفها». تركناها بعد أن بدأ أيضاً فرد الأمن بملاحظتنا فتحركنا سريعاً كعادتنا، متجهين لمكتب مدير معهد ناصر، والذي انتظرنا خارج مكتبه قرابة النصف ساعة، لتبلغنا مديرة مكتبه أن علينا التوجه للمتحدث الرسمي لوزارة الصحة إذا أردنا التحدث بأي موضوع. معهد الأورام ومن داخل ساحة مبني معهد الأورام تكرر نفس المشهد مرة أخري، إلا أن الأجواء كانت أكثر زحاماً، فالمعهد يستقبل نحو 200 ألف مريض سنوياً يعتمدون علي ما توفره التبرعات لتلقي علاجهم، وطوال الأعوام الماضية حاولت إدارة المعهد توفير أفضل خدمة للمرضي حتي تمكنت من بناء مبني جديد تكلف نحو 25 مليون جنيه تم توفيرها من أموال التبرعات بشكل أساسي، إلا أن التبرعات لم تعد تستطيع تحمل تقديم المزيد للمرضي، فمن بين المارة رأينا »ح.د» ابن لسيدة تبلغ من العمر 55 عاماً مصابة بسرطان المخ، وجدناه جالساً ليتحاور مع أحد أفراد الأمن، وبيده مجموعة من الأوراق التي تثبت حاجة والدته لإجراء الأشعة بشكل فوري، اقتربنا منه لنتعرف علي قصته فأكد أنه ينتظر دوره علي القائمة في المعهد لإجراء الأشعة لوالدته لكن الطبيب أكد له أن الأشعة عاجلة وضرورية، لذا يرغب في تقديم طلب لمدير المعهد لتوفير ثمن الأشعة له من التبرعات لإجرائها بأحد مراكز الأشعة الخارجية. وتكرر مشهد نقص الأدوية معنا فشكت »نفيسة محمد» من عدم توفر بعض الأصناف في الصيدلية الخاصة بالمعهد، وأكدت أنها ليست المرة الأولي الذي تفشل خلالها في الحصول علي العلاج فتضطر لشرائه من الخارج علي حسابها الخاص. عجز بالميزانية وأكد الدكتور طارق خيري أستاذ جراحة الأورام ومدير مستشفيات المعهد القومي للأورام، أن الميزانية المخصصة للمعهد عادة لا تكفي سوي 25% من متطلبات المرضي، لذا يتم الاعتماد بشكل كبير علي التبرعات. وأضاف خيري أنه بالرغم من ذلك فإن التبرعات أيضاً لم تعد خلال الفترة الأخيرة تغطي احتياجات المعهد وبالتحديد بعد تعويم الجنيه وارتفاع تكلفة كافة السلع والخدمات والأجهزة والمستلزمات.