رقمان قياسيان ينتظران صلاح أمام توتنام    سعر الدينار الكويتي اليوم الأحد 5-5-2024 مقابل الجنيه في البنك الأهلي بالتزامن مع إجازة عيد القيامة والعمال    وزير المالية: 3.5 مليار جنيه لدعم الكهرباء وشركات المياه و657 مليون ل«المزارعين»    وزيرة إسرائيلية تهاجم أمريكا: لا تستحق صفة صديق    استعدادا لشم النسيم ..رفع درجة الاستعداد بالمستشفيات الجامعية    الاتحاد يواصل تدريباته استعدادًا لمواجهة الأهلي.. وأتوبيسات مجانية للجماهير    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في حادثي سير منفصلين بالشرقية    الإسكان: 98 قرارًا لاعتماد التصميم العمراني والتخطيط ل 4232 فدانًا بالمدن الجديدة    «الري»: انطلاق المرحلة الثانية من برنامج تعزيز التكيف مع التغيرات المناخية في الساحل الشمالي والدلتا    الإسكان تنظم ورش عمل حول تطبيق قانون التصالح في مخالفات البناء    استقرار ملحوظ في سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه المصري اليوم    العمل: توفير 14 ألف وظيفة لذوي الهمم.. و3400 فرصة جديدة ب55 شركة    ماكرون يطالب بفتح مجال التفاوض مع روسيا للوصول لحل آمن لجميع الأطراف    مسؤول أممي: تهديد قضاة «الجنائية الدولية» انتهاك صارخ لاستقلالية المحكمة    أوكرانيا تسقط 23 طائرة مسيرة روسية خلال الليل    رئيس الوزراء الياباني: ليس هناك خطط لحل البرلمان    قصف مدفعي إسرائيلي على الحدود اللبنانية    يصل إلى 50 شهاباً في السماء.. «الجمعية الفلكية» تعلن موعد ذروة «إيتا الدلويات 2024» (تفاصيل)    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    اتحاد القبائل العربية: نقف صفًا واحدًا خلف القيادة السياسية والقوات المسلحة «مدينة السيسي» هدية جديدة من الرئيس لأرض الفيروز    فيديو.. شعبة بيض المائدة: نترقب مزيدا من انخفاض الأسعار في شهر أكتوبر    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    كرة طائرة - مريم متولي: غير صحيح طلبي العودة ل الأهلي بل إدارتهم من تواصلت معنا    «شوبير» يكشف حقيقة رفض الشناوي المشاركة مع الأهلي    شوبير يكشف مفاجأة حول أول الراحلين عن الأهلي بنهاية الموسم    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الأحد في الأسواق (موقع رسمي)    الزراعة: حديقة الأسماك تستعد لاستقبال المواطنين في عيد شم النسيم    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    حدائق القاهرة: زيادة منافذ بيع التذاكر لعدم تكدس المواطنيين أمام بوابات الحدائق وإلغاء إجازات العاملين    التصريح بدفن شخص لقي مصرعه متأثرا بإصابته في حادث بالشرقية    السيطرة على حريق التهم مخزن قطن داخل منزل في الشرقية    وفاة كهربائي صعقه التيار بسوهاج    نجل الطبلاوي: والدي كان يوصينا بحفظ القرآن واتباع سنة النبي محمد (فيديو)    يعود لعصر الفراعنة.. خبير آثار: «شم النسيم» أقدم عيد شعبي في مصر    تامر حسني يدعم شابا ويرتدي تي شيرت من صنعه خلال حفله بالعين السخنة    سرب الوطنية والكرامة    الكاتبة فاطمة المعدول تتعرض لأزمة صحية وتعلن خضوعها لعملية جراحية    حكيم ومحمد عدوية اليوم في حفل ليالي مصر أحتفالا بأعياد الربيع    رئيس «الرعاية الصحية» يبحث تعزيز التعاون مع ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة    صحة الإسماعيلية تنظم مسابقات وتقدم الهدايا للأطفال خلال الاحتفال بعيد القيامة (صور)    أخبار الأهلي: تحرك جديد من اتحاد الكرة في أزمة الشيبي والشحات    وزير شئون المجالس النيابية يحضر قداس عيد القيامة المجيد ..صور    إنقاذ العالقين فوق أسطح المباني في البرازيل بسبب الفيضانات|فيديو    كريم فهمي: مكنتش متخيل أن أمي ممكن تتزوج مرة تانية    مخاوف في أمريكا.. ظهور أعراض وباء مميت على مزارع بولاية تكساس    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في عيد الأم الجالسات على أرض كورنيش النيل:حكايات أمهات ينتظرن الأمل أمام معهد الأورام
نشر في الأهالي يوم 24 - 03 - 2021


تحقيق: نسمة تليمة
أمام مبني المعهد القومي للأورام الذى بني في ستينيات القرن الماضي، وبدأ عمله عام 1969 بالقرب من نهر النيل يجلس الكثير من السيدات، تلمحهم بسهولة ودون عناء إذا ما مررت من المكان، أو إذا كنت أحد ركاب سيارة ملاكي أو أجرة في طريق الكورنيش، يجلسن على الرصيف المقابل، بعضهن يفترشن قطعة قماش أو كرتونة، وبعضهن يجلسن أمام مبني المعهد مباشرة على رخام السلالم إذا ما ازدحمت العيادات بالداخل، كثيرات منهن يحملن ملامح ريفية، وأخريات لا تظهر ملامحهن جيدا، قد تري إحدي السيدات تحمل ابنها أيا كان عمره على ظهرها وهو لا يستطيع السير بعد تلقي جرعات العلاج الكيماوي بعد خروجها من المعهد دون أى مساعدة وعن طيب خاطر.
رحلة تلك السيدات التي رصدتها" الأهالي" في يوم عيد الأم، لم تكن رحلة شاقة فقط في الحضور بل شاقة فيما يحملنه داخلهن من قلق وفزع وحتى الأمل نفسه أحيانا.
من المفترض أنهن الآن في المنزل يجهزن لاحتفال يليق بهن وينتظرن الهدايا، ولكن اليوم يختلف مع تلك الوجوه، رحلتهن لا تبدأ من هذا المشهد، قد تكون بدأت بالفعل منذ فجر اليوم أو قبله حين يستيقظن ويجهزن تفاصيل صاحبتهن حتى الكورنيش، يرتبن يومهن القائم على الرضا بما حدث والأمل في الوقت، يضعن أمام أعينهن مراحل المجىء والانتظار والأبواب " عيادات خارجية، تلقي العلاج الكمياوي، نقل الدم، ثم العودة وتداعيات ما حدث".
جميعهن لا يرفضن الحديث والفضفضة، إحداهن أخبرتني" كفاية اني فضفضت معاكي" يقذفن في وجوه الجميع استحالة التحمل في حالة تأمل ما يروي، لكنهن يعاودن الحكاية على طريقة محمود درويش" نربي الأمل"
هنا بعض الحكايات للجالسات أمام المعهد القومي للأورام مانحات الجميع معادلات للصبر والتحمل والقوة والمثابرة الممزوجة بالدموع ونبرات الصوت التي توقر في القلب عظمة الأمهات الصانعات كل هذا الحب.
السرطان
وفقا لتقارير منظمة الصحة العالمية السرطان ثاني سبب رئيس للوفاة في العالم والالتهابات المسببة للسرطان مثل التهاب الكبد وفيروس الورم الحليمي البشري مسئولة عن نسبة تصل الى 25% من حالات السرطان في البلدان المنخفضة الدخل ومتوسطة الدخل، ويمكن الحد من وفياته في حالة الكشف المبكر، وأن أنواعه كل منها يتطلب نظاما علاجيا خاصا يشمل أسلوبا واحدا أو أكثر من أساليب العلاج مثل الجراحة والعلاج الاشعاعي والعلاج الكيميائى .
فاطمة : " الرحلة دي صعبة على أى أم "
فاطمة، سيدة ثلاثينية جميلة الملامح، ترتدي الكمامة وتحمل طفلا صغيرا لا يزيد عمره عن أربع سنوات، تعبر الشارع للوقوف ناحية النيل أمام المعهد من أجل التقاط أنفاسها بعد خروجها من مبني المعهد حين وجدت أن الزحام فى الداخل لا يمنحها أنفاسا هادئة، وحتى يأتي ميعاد دورها فى الكشف.
فاطمة تزور المعهد مرتين فى الأسبوع بطفلها حيث تقطع الطريق من المنوفية لتلقي جرعات الكيماوي بعد أن اكتشتفت إصابة ابنها بسرطان الدم منذ شهر يوليو الماضي، وهو الاكتشاف الذى جاء بالصدفة أثناء اجراء تحاليل من أجل عملية اللحمية، الصدمة كما تروي فاطمة إصابتها بفقد النطق لفترة لكنها لم تجد بدا من التماسك لعلاج ابنها .
تستقل فاطمة تاكسي إلى موقف عبود ومن عبود إلى المنوفية ومن هناك تستقل سيارتين حتى تصل إلى قريتها " البتنون" لديها طفل أخر يبلغ من العمر 9 سنوات، وهو بصحة جيدة، تصف رحلتها " رحلة صعبة أوي على أى أم" سواء رحلتها الشاقة من بيتها الى المعهد وما تلاقيه أو رحلتها فى علاج ابنها وأحيانا الطفل بعد أن يتلقي جرعات الكيماوي وتعود به الى المنزل يصاب بارتفاع درجات الحرارة فتضطر إلى العودة مرة أخري فورا لأن الأطباء ينبهون على الأهالي ألا يتلق أي أدوية الا بعلم المعهد وأطبائه، لا تتحكم فاطمة فى دموعها وهي تتحدث، " أن شعري نزل زيه، أتعب زيه" تستيقظ فى الرابعة فجرا أيام المجىء الى المعهد، ولا أحد يصاحبها لأن زوجها مريض ضغط عالى وحين صاحبها فى الأيام الأولي من مرض طفلها كان يعود مرهقا ومريضا فخشيت عليه وفضلت أن تتحمل هى الرحلة.
تحدث نفسها دائما أنها ترضى بالقضاء والقدر وتحول بينها وبين السخط، تبكي كثيرا حين أردد " كل سنة وانتي أم عظيمة" وتتذكر والدتها التي نسيت أن تهنئها بعيد الأم، وأنها تحولت من شخص يضحك كثيرا ومنتبها الى شخص حزين، " أقول لإبني مش انت المقصود بالمحنة دي أنا المقصودة الابتلاء ده ليه أنا" ثم تعود وتقول " اذا أحب الله عبدا ابتلاه ربنا بيقولي أنا بحبك أقوله يارب لأ؟"
"أي أم لم تعش تلك المحنة لن تشعر بي، وكل أم فيها لابد أن تكمل المشوار وليس لديها خيار، فى انتظار أمل الشفاء، وتثق فى الله " اللى زرع فى الأول نخاع شوكي قادر يزرع فى الأخر، اللى نجا يونس فى بطن الحوت قادر ينجي إبني"، فاطمة الحاصلة على معهد فني صناعي، لا تجد عزاء لها سوي قراءة القرآن خاصة فى منتصف الليل حين توقظه للحصول على علاجه "ياابني اللى جابلك التعب قادر يشفيك من عنده".
وهيبة : "مش هاسيبه لأخر لحظة وبشيله عادي"
" وهيبة" سيدة تنتزع الانتباه من الواقفين أمام معهد الأورام ومن بعض الجالسين فى سياراتهم المارين بالمكان حيث تحمل رجلا على ظهرها وهى تحكم امساكه فى هدوء شخص يقوم بأمر اعتيادي لا يأبه من نظرات أحد، تسير فى اتجاه سور مجري العيون بعد الخروج من المعهد، أذهب اليها لأحدثها، معتقدة ان تلك السيدة الصغيرة فى السن قد تكون زوجة أو أم، لكنها تخبرني أنها أخت " احمد" البالغ من العمر 26 عاما والمصاب بضمور فى المخ وسرطان فى الدم، وأنها ذاهبه الى شراء كيس دم ب800 جنيه طلبه المعهد لنقله إلى أخيها.
تأتي وهيبة أحيانا يوميا وأحيانا ثلاث مرات فى الاسبوع، والدتها فى البيت لا تقوي على المجىء بابنها المريض، فتترك وهيبة أولادها معها وتأتي بأخيها، عن طريق " توكتوك" تعمل فى تنظيف سلالم العمارات، وتسكن فى " عزبة خير الله".
تخبرني أن الكثير من الجيران والمعارف ينصحونهم بترك أحمد فى البيت وتلقي العلاج البسيط لأن حالته ميئوس منها إلا أنها ترفض هذه النصيحة القاسية وتخبر الجميع " مش هاسيب أخويا لأخر لحظة".
"أم محمد" : " احنا عالم أرياف نعرف معني الأمل فى الزرع"
أقترب من سيدة عشرينية ذات ملامح جميلة وعيون ملونة إلا أنها تعاني من بعض البثور فى الوجه البشوش أعلم فيما بعد أنه طفح مرتبط بنفسيتها، تأتى من المنصورية " بمحمد" ابنها البالغ من العمر تسع سنوات، تبدو ملامحهم وحالتهم متماسكين الى حد كبير بخلاف الكثير من الحالات، يعاني ابنها من سرطان فى الغدد، لديها ابن وابنة أخرين، زوجها يزرع أراضي الجيران بمقابل مادي بسيط يساعدهم على المعيشة، اعتادت رحلتها من المنصورية الى معهد الأورام منذ 2018، تحفظ أيام المجىء عن ظهر قلب" الأربع والأحد" وتنفق 80 جنيها فى اليوم مواصلات، وتدبرهم قبل أى احتياجات أخري، " ربنا بيسهل كل حاجة" هكذا تطلق معادلتها فى وجهي وهي تبتسم، " أنا كدة كدة مسلمينها لله" .
وحين أسالها هل تلقت تعليما؟ ترد" مش لازم أكون متعلمة عشان أسلمها لله" تبتسم فى وجه ابنها، ويساعدها عمرها الصغير فى تكوين صداقة معه، ومداعبته كثيرا، تسعد بخبر امكانية زرع نخاع شوكي لابنها، كما أخبرها الأطباء بمعهد الأورام، " احنا عالم أرياف نعرف معني الأمل فى الزرع" " مصر مابتبعدش على حبيب"
تنتظر دورها فى الكشف والمتابعة داخل المبني، تؤكد لى أنها كأم لطفل مريض بالسرطان، تحتاج الى دعوات بالقوة، " انا ممكن أكل طقة أو أكلها بملح لكن نفسي يشفي لي محمد بس"، تتركني وتعدل الكمامة الخاصة بها وتمسك بيد ابنها وتعود الى المبني لعلهم نادوا الإسم وتخبرني أن ابنها فى الصباح هنأها بعيد الأم مرددة " زي ما تكون برشامة قوة عشان باقي اليوم".
معادلات الحاجة سعدية فى الصبر
الحاجة سعدية عبد الله سيدة خمسينية تأتى من المنيا من بلدة " العوينات" مرة فى الأسبوع مع ابنتها البالغة من العمر 18 عاما، والتي أصيبت منذ سنوات بورم خبيث فى الكلية الشمال، ثم فضل الأطباء إزالة الكلية، ولكن عاد اليها المرض مرة أخري الى نفس المكان، لديها خمسة أولاد إحدى بناتها زوجتها ولديها طفل، والدهم تركهم وتزوج من أخري.
الحاجة سعدية تفضل أن تروي ما تصادفه فى حياتها من حكايات ليس لها علاقة بالمنطق المعتاد قدر ما يرتبط بالقدر الذى يقدر معاناتها، ترويه لنا أو ترويه لنفسها لتؤكد شيئا ما بداخلها، المهم أنها تمنحنا حكاية ملهمة للجميع.
تتذكر أنها حين احتاجت الى نضارة طبية نتيجة ضعف فى العين منذ أن علمت بمرض ابنتها وأخبرها طبيب العيون" وراثة ضعف النظر ومهما تجري مفيش فايدة" ولكنها لم تستطع عمل النضارة رغم احتفاظها بالكشف والمقاسات، وفى أحد المرات التي جاءتها من أجل تلقي ابنتها جرعات الكيماوي بمعهد الأورام وقعت فى الشارع مرتين فلاحظها أحد الأشخاص وذهب اليها متسائلا عن عدم رؤيتها للطريق فأخبرته أنها تحتاج الى نضارة ولكنها لم تأت بها بعد، سألها الى متي تتواجد فأخبرته أنها محجوزة بابنتها خمسة ايام، فما كان من الرجل الذى لا يعرفها إلا أنه طلب منها الكشف الخاص بالنظر وذهب وعاد بعد يوم بالنضارة كما منحها غداء ليومها الطويل بالمعهد هي وابنتها، ولم يخبرها حتى باسمه وتنهي الحكاية بحكمتها" ربنا مع الغلبان".
الحاجة سعدية تنتظر ابنتها فى الخارج وحين تصاب بالاعياء نتيجة ما تتلقاه من علاج ينادونها لتدخل معها الحمام، أو تناولها المياه، وتستغرق رحلة الجرعات خمس ساعات فى اليوم، ينتظرها فى الخارج السائق الذى يعيدها وابنتها الى قريتها بالمنيا، وتمنحه ما تستطيع دفعه وتؤجل باقي مستحقاته " لحين ميسرة" يتحملها السائق أحيانا وأحيانا أخري يطالب بالفلوس " يتمنجز" على حد وصفها فى اشارة لفقد صبره.
ليس لديها معاش لأن زوجها لم يطلقها بعد وتخشي طلب الطلاق حتي لا يأخذ منها البيت المكون من دور واحد به ثلاث غرف، زوجها موظف " نظامي" ويحب نفسه كثيرا كما تقول.
"أحمد ربنا بيرزقني ياست" ثم تعاود القاء حكاية جديدة لي عن زواج ابنتها الكبري، حين عجزت عن تجهيزها " ولا عندي فتلة فى إبرة" فما كان من أحد الجيران إلا عرض نصيحه بالذهاب الى جمعية خيرية وصاحبتني أبنتي العروسة وسألني عما أريده و"عطاني تلاجة وغسالة وبوتاجاز" وحملهم على " ترويسكل" كما أهداني ألف جنيه لشراء ما أرادت من كعك وبسكويت " وربنا دبرها من عنده وروحتّها مش ناقصة حاجة"
تعود الحاجة سعدية الى ابنتها المريضة وتخبرني:" العيا ده ما ينفعش تجيبي علاج من بره لازم اللى انتي مواضبة عنده بس، لازم تيجيبيها المعهد أى وقت تتعب فيه حتى لو ماحيلتكيش حاجة، ورجعت أكتر من مرة وقت نزيف ووقت سخونية" تخبرني على قدر ما فهمته من تفاصيل المرض بما يحدث لابنتها فى حالة الكيماوي لابد من دم قبلها يتم نقله لها لتحمل الكيماوي.
حين أختتم حديثي معها انها أم عظيمة وأهنئها بعيد الأم وأسالها هل تذكرك أحد اليوم؟ ترد قائلة: " اللى هايقولي مين ما الحبيبة عيانة أهي"، لكنها تعود وتمنحني وهى تنظر فى عيناي قلادة صبر قائلة" انا متوكلة على ربنا ومتأكدة من جبره، ومش ببكى قدام بنتي عشان ماتحزنش".
" أم نورا" : " أنا العيانة مش هي".
" نورا" سيدة ثلاثينية دخلت لتلقي جرعتها وفقا للجدول وتركت والدتها جالسة والتي طلبت مني قراءة تاريخ صلاحية أحد علب العصير وحين أخبرتها اطمئنت وأعادتها الى شنطتها مبتسمة وقائلة" خليها لأبن نورا" .
سألتها عن نورا وعلمت أنها ابنتها المصابة بالسرطان فى اللوز ثم الغدة ثم المعدة متنقلا فى جسدها، وهي ابنتها الوحيدة متزوجة ولديها ثلاث أطفال، وتسكن معها فى إمبابه، تستقل أتوبيس للمجىء هنا يومان فى الاسبوع، علمتها حتى الثانوية لكنها لا تعمل الآن، تؤكد لى فى محاولة لوصف إحساسها" أنا العيانة مش هي"؟
تساعدها فى تربية أبنائها، فالأم حريصة على أولادها ولا تذهبهم الى المدرسة خوفا من الكورونا لكنها تعطيهم دروس خصوصية، " بنتي أميرة أوي وعينيها خضرا بس التعب بهدلها" هكذا تتحدث عن نورا الأم الجالسة فى انتظار الأيام أمام المعهد، حين انتشرت الكورونا قررن أن يأتين فى المواعيد الخاصة بالعلاج لكنهن حين يعدن الى المنزل يخلعن الملابس وينظفن أجسامهن جيدا ويتركون باقي المعادلة على الله على حد وصفها.
أماني بائعة الشاي أمام المعهد: "حياتي فى عرض رهان من العابرين "
"يومي يبدأ من الثالثة فجرا" هكذا تتحدث أماني الشابة الثلاثينية المجاورة للنيل أمام معهد الأورام القومي، والتي فضلت أن تأت يوميا لبيع الشاي والقهوة لزائري المعهد والمنتظرين للأمل خلال مصاحبتهم لذويهم ممن يتلقون العلاج بالداخل.
عمرها 31عاما، تعيش فى منظقة الجيارة، زوجها لا يعمل منذ أن أصيب فى حادث سيارة منذ ثلاث سنوات ولم يعد يستطيع المشي بشكل معتاد واصيب بعرج، ومن وقتها وهي تعمل أمام معهد الأورام لايجاد قوت يومهم، أماني فى عرض " رهان " كما تصف حياتها، تنتظر من يمر بها يمنحها أى منحة" لحمة، فلوس بطانية، أكل".. تعاني من البلطجية أحيانا حين يضايقونها فلا تجد بُدا من " ترضية تصل الى عشر جنيهات أو يزيد" تنهي عملها فى الثالثة عصرا وتعود الى المنزل لعمل غداء لأبنتيها وزوجها الذى يرافقها أحيانا يوميا ويجلس بالقرب من النيل أسفل الكورنيش، وتفخر بمساعدته لها حين " يغير لها أنبوبة، احضار مية الشاي والقهوة والتنضيف"
تفتقد بلدها الأصلية بني سويف ولكنها لا تذهب اليها الا لزيارة قبر والدتها أحيانا، تتحدث عن مرضي معهد الأورام وزائريه من زبائنها أنها تحبهم، وتترك الأمر لله فى أي احتياطات أو اجراءات أحترازية تخص الكورونا أو غيرها، لا ترتدي كمامة أبدا لا هي ولا ابنتيها، لكنها تظن أن الله الحامي، تنتظر بين الحين والأخر فى المواسم ما يأتيها به الحظ فى سيارة تقف لها تمنحها ما تحتاجه" شابة صغيرة امبارح وقفت وادتني خمسين جنيه وقالت لي كل سنة وانتي طيبة".
حصيلة يوم أماني من العائد المادي للشاي والقهوة على الكورنيش تصل أحيانا الى 100 جنيه أو يزيد، وأحيانا أخري لا تتعدي 50 جنيها، لكنها تكفي لدفع ايجار الغرفة المؤجرة فى الجيارة والتي تصل الى 300 جنيه فى الشهر، وهو مبلغ زهيد بالنسبة للإيجارات التي تسمع عنها أماني وتتحدث عنها باندهاش وهي توسع حدقة عيناها، أجازتها يوم الجمعة لغسل الملابس، وتنظيف البيت والاستعداد لأسبوع جديد من العمل الشاق والمجازفة بجوار النيل، وبالقرب من معهد الأورام، أماني تمنح نفسها معادلة خاصة فى الصبر والرضا حين تخبرني أنها تري الكثير من الحالات الموجعة يوميا وتحمد الله، تري القلق والمعاناة من أهالي المرضي كل مرة يأتيها أحدهم يطلب منها الشاي أو القهوة أو أحد المشروبات الساخنة، والتي تضعها أحيانا فى أكواب كرتونية من أجل الزبائن التي أصبحت ترفض الأكواب الزجاجية منذ انتشار الكورونا.
إيمان البالغة من العمر عام واحد وعبير البالغة من العمر ثلاث سنوات رفيقات أمانى في المشهد، الصغيرة تضعها اخل صندوق بلاستيكي حتى لا تتحرك كثيرا فى مكان يفصلها عن طريق سيارات سريع سنتيمترات، والأخري تجري هنا وهناك أسفل الكورنيش بالقرب من النيل، ويراقبها والدها الجالس هو الأخر القريب من زوجته.
تتمني أماني أن تعلم ابناءها حتى لا ينتظرهن نفس مصير الأم، تفكر فى العيد القادم" عايزة أفرح ولادي بهدمة جديدة" تعترف أنها تعيش على رهان لحظة عابرة لكنها ليس لها أي حيلة سوى ذلك، خاصة وأنها غير متعلمة، ولا تجد مساعدا لها، تفتخر بأنها لا تفعل شيئا مشينا، وفضلت أن تعمل وتصنع ما تعلمه بأكواب الشاي والقهوة والتي تعدها من خلال موقد صغير بأضلع حديدية تضع فوقه أواني معدنية للمياه الساخنة وأواني أخري أصغر للقهوة، وفي الجانب " جرادل" بلاستيكية أحداها به صابون وكلور وأخر بها مياه للشطف، وحين تسمع عن تطعيمات للأطفال تسير بالقرب من سور مجري العيون القريب من المعهد وتدخل الى الوحدة الصحية ليحصلن البنات على التطعيمات وتعود الى مكانها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.