محاولات تركية لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر، فى خطوة يعتبرها الرئيس التركى رجب أردوغان محاولة للهروب من الضغوط الدولية خاصة من جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد صعود جو بايدن إلى الحكم والتهديد بفرض عقوبات جديدة على تركيا. تصريحات أردوغان بشأن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع مصر قابلها رد مصري حاسم، فقد أكد مصدر رسمي لوكالة أنباء الشرق الأوسط بأنه "ليس هناك ما يمكن أن يطلق عليه توصيف "استئناف الاتصالات الدبلوماسية"، بين القاهرةوأنقرة، مضيفا أن "البعثتين الدبلوماسيتين المصرية والتركية موجودتان على مستوى القائم بالأعمال، واللتين تتواصلان مع دولة الاعتماد وفقاً للأعراف الدبلوماسية المتبعة". وتابع المصدر أن "الارتقاء بمستوى العلاقة بين البلدين يتطلب مراعاة الأطر القانونية والدبلوماسية التي تحكم العلاقات بين الدول على أساس احترام مبدأ السيادة ومقتضيات الأمن القومي العربي". وأضاف أن مصر تتوقع من أي دولة تتطلع إلى إقامة علاقات طبيعية معها أن تلتزم بقواعد القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار وأن تكف عن محاولات التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، مشدداً في الوقت نفسه على أهمية الصلات القوية التي تربط البلدين. ويأتي ذلك بعد تصريحات الرئيس التركي الجمعة الماضية بأن" التعاون بين بلاده ومصر في مجالات الاستخبارات والدبلوماسية والاقتصاد مستمر. وأضاف أردوغان "عملية تعاوننا مع مصر في مجالات المخابرات والدبلوماسية والاقتصاد مستمرة بالفعل. لا توجد مشكلة في هذا".وشدد على أن "الصداقة بين الشعبين المصري والتركي، أكبر من العلاقات بين الشعبين المصري واليوناني". وجاءت تصريحات أردوغان التي نقلتها وكالة "الأناضول" الرسمية التركية بعد ساعات من حديث وزير خارجيته، مولود جاوويش أوغلو، عن بدء أنقرة اتصالات دبلوماسية مع القاهرة.وتابع جاويش أوغلو: "لدينا اتصالات مع مصر على مستوى الاستخبارات أو وزارة الخارجية".وقال وزير الخارجية التركي إن استئناف العلاقات سيتم بخطوات صغيرة وفق استراتيجية معينة. وهذه التصريحات التركية هي بمثابة انقلاب في الموقف التركي تجاه الدولة المصرية, بعد أن كانت سياسة تركيا تجاه مصر تتسم بالعدائية منذ اندلاع ثورة 30 يونيو والإطاحة بحكم جماعة الإخوان, حيث مثلت تلك الأخيرة ركناً أساسياً في السياسة الخارجية التركية طوال الفترة الماضية. ما السر وراء هذا التراجع الكبير للموقف العدائي التركي من مصر منذ ثورة 30 يونيو وعزل الرئيس محمد مرسي؟ في البداية يجب الإشارة إلى أن طوال فترة الخلاف بين تركيا ومصر, كان هناك أصوات من داخل تركيا تذهب إلى أن سلوك أردوغان العدائي تجاه مصر كان سلوكاً خاطئاً ومدفوعا بتصورات أيدولوجية قاصرة, حسب تعبير جيم جوردينيز القائد العسكري المتقاعد, والذي أضاف أن مصر لم تسع للعداء مع تركيا, حيث كانت سياستها التي تسعي لحصار تركيا "رد فعل علي التوجه التركي الخاطيء الداعم للإخوان ". يرجع الكثير من المراقبين والمحللين الغربيين هذا التراجع التركي تجاه مصر إلى حالة العزلة التي تعاني منها تركيا الآن بعد بزوغ تطورات عديدة علي الساحة العالمية. تركياوالولاياتالمتحدة أولها التغير في الموقف الأمريكي, فالرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن وصف أردوغان أثناء حملته الرئاسية بأنه "أوتوقراطي" أو حاكم متسبد, وقد سبق أن قدم وعوداً قاطعة لأعضاء الحزب الديمقراطي بأنه سيعمل علي دعم المعارضة التركية في مواجهة أردوغان "سأعمل علي أن يدفع ثمن ما اقترفه من انتهاكات", متحدثاً عن موجه الاعتقالات الواسعة للمعارضين التي شهدتها تركيا في الآونة الأخيرة. والمسألة الخلافية الأهم بين البلدين ظهرت إلى السطح مع اتمام تركيا صفقة شراء منظومة "S-400" الروسية أثناء فترة ولاية ترامب, وهي خطوة شكلت تمرداً تركياً صريحاً علي منظومة حلف الناتو المعادية لروسيا التي لاطالما كانت تركيا طرفاً رئيسياً فيها. وكانت خطوة شراء المنظومة الصاروخية متبوعة بالاعتداء العسكري علي أكراد سوريا الذين تعتبرهم الولاياتالمتحدة حليفاً مهماً لها في المنطقة. كما لم تكن دوائر السياسة الأمريكية راضية عن سلوك تركيا العدواني تجاه قبرص واليونان فيما يتعلق بغاز البحر المتوسط. وهي جميعها ملفات تحدث عنها بايدن أثناء حملته الانتخابية وتوعد النظام التركي معلقاً عليها. من المرجح أن يلجأً بايدن لفرض العقوبات علي تركيا, وهو الأمر الذي من شأنه أن يضعف الاقتصاد التركي المأزوم بالفعل, ففي واقعة احتجاز القس الأمريكي من قبل تركيا في أغسطس من عام 2018، هدد ترامب بفرض عقوبات على تركيا بسبب احتجازها قسًا أمريكيًا، وهو التهديد الذي أرسل الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها مقابل الدولار على الإطلاق، وزاد من أزمتها الاقتصادية المتفاقمة. والآن، مع انخفاض عملتها إلى مستويات قياسية، وتفاقم التضخم المرتفع والبطالة بسبب جائحة فيروس كورونا، فإن أي اشتباكات مع الولاياتالمتحدة تخاطر بفرض عقوبات تكون أكثر خطورة على الاقتصاد التركي، وهو ما سوف يضعف موقف السلطة الحاكمة في تركيا لأبعد الحدود. ومن المتوقع أيضاً أن يذهب بايدن للاعتراف بمذبحة الأرمن التي اقترفها العثمانيون, وهي نقطة حرجة وشائكة بالنسبة للوضع التركي الراهن, خصوصاً بعد تدخلات تركيا في مواجهة أرمينيا العام الماضي. تحدث بايدن مباشرة عن نيته "للتخلص" من أردوغان وإيجاد بدائل له, وهو الأمر الذي سيعزز موقف المعارضة التركية الساعية للاطاحة بأردوغان. تركيا ومنتدي غاز شرق المتوسط كانت أحد المؤشرات علي العزلة التركية هي نجاح منتدي غاز شرق البحر المتوسط الذي تأسس بمبادرة من مصر وقبرص واليونان وانضمت إليه كل من فلسطين والأردن وإسرائيل, كما أعلنت فرنسا نيتها الانضمام لهذا التحالف وشاركت فيه الولاياتالمتحدة بالفعل كعضو مراقب. وهو الكيان الذي تشكل علي خلفية محاولات تركيا الحصول علي حصص خارج حقوقها المقررة قانوناً في غاز البحر المتوسط علي حساب اليونان وقبرص وفي مواجهة مشروع مصر لأن تصبح أحد مصادر الطاقة في المنطقة, وهو الأمر الذي دفع مصر وشركاءها لإقامة كيان اقتصادي مُنظم يضمن استمرارية المشروعات المزمع عقدها ويشكل أساساً للتحالف الواسع بين الأطراف المشاركة. وهو الأمر الذي يُخرج تركيا من معادلة الطاقة في المحيط الأورو-متوسطي بالكامل. فحصول هذا المنتدي علي الدعم الفرنسي يعبر عن مدى التأثير الذي قد يمارسه علي ملف الطاقة في المنطقة. وبما إن مصر هي الطرف الأصيل فيه, من الطبيعي أن يحاول أردوغان تصحيح أخطائه. وبالنسبة لفرنسا, فالعلاقات التركية الفرنسية ليست في أفضل أحوالها, فقائمة الخلافات تطول, بداية من ملف غاز المتوسط (حيث تدافع فرنسا عن مصالح قبرص واليونان) مروراً من موقف تركيا الداعم للجماعات الارهابية في سوريا والعراق الذي أشار الرئيس الفرنسي إليه في أكثر من مناسبة, باعتباره توجها خطيرا وتخريبيا للأمن للعالمي, و انتهاء بالسلوك التحريضي الذي سلكته تركيا تجاه فرنسا عقب واقعة ذبح المدرس الفرنسي من قبل المتطرفين, فلقد اتهمت تركيا الجانب الفرنسي بمعادة الدين الإسلامي علي خلفية قانون مكافحة النزعات الانفصالية في فرنسا, وركز الإعلام التركي عبر تصريحات مسئولين أتراك, في مقدتهم أردوغان نفسه, علي مهاجمة فرنسا بشكل أثار حفيظة الفرنسيين ودفع العلاقات إلى الحالة الأكثر حرجاً. الدعم القطري أما علي صعيد العلاقات التركية العربية, كانت قطر هي الحليف الرئيسي لتركيا في المنطقة العربية بعد أن دُفعت للتحالف مع الجانب التركي نتيجة لخلافها مع مصر ودول الخليج, وهو الأمر الذي استفادت منه تركيا اقتصادياً, حيث دعمت قطر الليرة التركية في فترة الأزمة الاقتصادية السابقة, والتي قلت حدتها ولكنها لم تنته حتي الآن. وبعد انتهاء هذا الخلاف, لن تعود قطر في حاجة لتقديم الامتيازات التي حصلت عليها تركيا جراء الأزمة ومقابل تخفيف الحصار الذي فُرض علي قطر. فإذا عادت علاقة قطر مع الدول العربية إلى وضعها الطبيعي, تصبح تركيا معزولة عربياً, وهو ما يدفعها نحو محاولة استعادة العلاقات مع الخليج ومصر حتي ولو رضخت للشروط العربية. حصار مصر فشل عملياً حاولت تركيا أن تلعب دوراً في إبعاد السودان عن الموقف المصري فيما يتعلق بقضية سد النهضة الأثيوبي, ولكن دفعت تطورت الأحداث (التعنت الأثيوبي تجاه خطوات ملء السد والنزاع المسلح الذي نشب بين السودان وأثيوبيا علي منطقة الفشقة) دُفعت السودان نحو التعاون مع مصر في مواجهة أثيوبيا, وما نشهده حالياً من زيارات عسكرية ودبلوماسية متبادلة بين البلدين هو دليل واضح علي أن السياسة المصرية تجاه الملف نجحت في احتواء الخلافات مع السودان, وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى حسم النزاع لصالح الجانب المصري. كما كان رهان تركيا علي حركة الإخوان المسلمين حول العالم هو أحد الأسباب التي جعلت التقارب التركي السوداني أمراً غير محبذ بالنسبة للحكومة الانتقالية في السودان, والتي تشكلت نتيجة ثورة الشعب السوداني علي نظام البشير المنتمي إلى الإخوان. وفيما يتعلق بالملف الليبي, ورغم الشكوك حول علاقة الحكومة الليبية الجديدة المُعترف بها دولياً مع تركيا, حيث أعلن رئيس الحكومة الليبية المكلف عبدالحميد الدبيبة أن الاتفاقيات المبرمة بين حكومة الوفاق وتركيا لا تزال قائمة. رغم ذلك, لا يعني هذا أن الحكومة الجديدة في ليبيا تدين بالولاء الكامل لتركيا كما كان الحال مع الحكومة السابقة برئاسة فايز السراج. فهذه الحكومة هي حكومة توافقية تمثل أطراف الصراع في ليبيا, وهي بالتالي لن تُقدم علي أي خطوات من شأنها أن تعزز طرفاً إقليمياً في مواجهة الآخر, وهو الأمر الذي قد يهدد الاتفاق بين الأطراف المُشكلة للحكومة, وأحد المؤشرات الهامة علي ذلك هو زيارة الدبيبي للقاهرة لمقابلة الرئيس السيسي في أولي زيارات رئيس الحكومة للخارج وإعلانه عن وجود اتفاق بين الحكومتين علي المسار الانتقالي في ليبيا. كل هذه التطورات ترجح رأي كثير من الخبراء الغربيين الذي يفسر السلوك التركي الجديد باعتباره نتجية لعزلة تركيا عن محيطها الأقليمي والدولي, فلكي يستعد أردوغان للتهديد القادم من الولاياتالمتحدة, عليه أن ينهي الحرب المفتوحة علي جميع الجبهات الذي أقدم عليها طوال الفترة السابقة, وأولى هذه الجبهات تتمثل في الخلاف مع الدولة المصرية ذات الثقل الاقليمي والدولي المعتبر.