وقعت الحكومة الانتقالية فى السودان بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال, إعلان مبادئ ينص على فصل الدين عن الدولة في البلاد, في خطوة تسرع وضع اتفاقات السلام الموقعة في جوبا موضع التنفيذ، وسط معارضة القوى الإسلامية وخلافات داخل مجلس السيادة السودانى. قضية فصل الدين عن الدولة من القضايا المثيرة للجدل والنقاش في دولة محافظة كالسودان, حتى برغم تعددها الإثنى والقبلى, ولم ينقطع الحديث عن الدولة العلمانية في السودان, منذ اعتماد الوثيقة الدستورية التي تقدمت بها قوى الحرية والتغيير بعد الإطاحة بحكم البشير، ومازالت البلاد تعيش سجالاً كبيراً بشأن هوية الدولة, وهل هي مدنية أم دينية أم علمانية؟! ونصت الوثيقة الدستورية التي تكونت الحكومة السيادي بموجبها على أن " السودان جمهورية مستقلة ذات سيادة، مدنية، ديمقراطية، تعددية، لا مركزية، تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة, بدون تمييز بسبب الدين والعرق والنوع والوضع الاجتماعي". ومنذ 21 أغسطس قبل الماضي، يشهد السودان، فترة انتقالية تستمر 39 شهراً تنتهي بإجراء انتخابات، ويتقاسم السلطة خلالها كل من المجلس العسكري، وقوى " إعلان الحرية والتغيير"، قائدة الحراك الشعبي. واعتمد واضعو وثيقة الإعلان الدستوري التى قدمتها قوى إعلان الحرية والتغيير للمجلس العسكري, في بعض بنودها على دستور 2005 الانتقالي, الذي طبق خلال الفترة الانتقالية بعد التوقيع على اتفاقية السلام بين شمال وجنوب السودان، ولكنهم حذفوا بندا نصه " تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدرا للتشريعات التي تسن على المستوى القومي وتطبق على ولايات شمال السودان, رغم أن الدساتير في السودان نصت على مدى نحو خمسين عاما على حاكمية الشريعة الإسلامية، آخرها دستور 1973م. وذكر مصدر في وفد تفاوض الحركة الشعبية شمال, أنه هناك عملية بحث عن حلول للجذور التاريخية للمشكلة, وفي مقدمتها ما يتعلق بالهوية الأحادية الإسلامية العروبية, والتي فرضت على السودان دون أن يكون هناك إجماع حولها، حيث ظلت الأنظمة المتعاقبة على السودان خلال العقود السابقة, تفرض على الشعب قوانين دينية وعنصرية، لبسط هويتها والحفاظ على سلطتها التاريخية. وأضاف أن تلك القوانين ساهمت في وجود أجندة الإسلام السياسي في العام 1983, عندما فرضت قوانين سبتمبر بقرار من الرئيس الراحل جعفر النميري والجبهة الإسلامية، نفس القوانين تم فرضها بعد انقلاب الجبهة الإسلامية في العام 1989، والتي مزقت السودان وأدت إلى انفصال الجنوب بعد مقتل 2 مليون جنوبي في حرب استمرت لأكثر من 5 عقود. وأشار إلى أن تلك الأجندة نفسها هي التي قادت إلى المجازر في دارفور رغم أنهم مسلمون، ما يعني أن المشكلة عرقية، وفي جبال النوبة النيل الأزرق قتل منهما أكثر من 400 ألف مواطن خلال الحربين السابقين, وذلك حسبما ذكرت وكالة " سبوتنيك". طيلة ثورة ديسمبر المجيدة وما قبلها, اختفى شعار فصل الدين عن الدولة, فالثوار في ميادين الاعتصام في كل ولايات السودان كان شعارهم موحداً "حرية سلام عدالة", ولم تكن هناك أي شعارات دينية أو علمانية أو حتى حزبية، فاجتمعت كل مكونات الشعب السوداني على مطلب واحد حتى سقوط نظام الرئيس المعزول البشير, حول تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وإتاحة الحريات في الدولة ورفع الظلم عن المهمشين في الولايات وتحقيق السلام ومحو آثار الحرب. وبعد فرحة توقيع إتفاق السلام بالأحرف الأولى في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان, بين الحكومة والحركات المسلحة بمساراتها المختلفة, ومخاطبة جذور المشكلة السودانية في كل ولايات السودان، تفاجأ الشعب السوداني باتفاق خلف الأضواء تم بين رئيس الوزراء عبدالله حمدوك وورئيس الحركة الشعبية شمال جناح عبدالعزيز الحلو في أديس أبابا, ببنود جديدة أهمها فصل الدين عن الدولة، مما آثار حفيظة حتى مواطني جبال النوبة واعترضوا على هذا الاتفاق الذي لا يتضمن قضاياهم الأساسية, التي ناضلوا من أجلها طيلة السنين الماضية، مما أثيرت تساؤلات مشروعة حول قضية فصل الدين عن الدولة, وهل هي مطلب شعبي أم أجندة أيديولوجية حزبية بحتة تحقق مصالح أشخاص, دون النظر إلى مصلحة المواطن البسيط. ورغم رفض الحلو مقابلة حميدتى إلا أنه التقى حمدوك, وكانت هناك دعوات ل "عبد الواحد نور" زعيم حركة جيش تحرير السودان للانضمام لاتفاق السلام, لكنه رفض وأكد فى تصريح رسمى رفضه للتفاوض حالياً, لكن هناك بعض الأراء ترجح إمكانية جلوسه على طاولة المفاوضات قريباً, دون شروط مسبقة. ويرى بعض الخبراء أن لقاء حمدوك والحلو في أديس ابابا, بعد انسحاب وفد الحركة الشعبية برئاسة "عمار آمون دلدوم" من الجلسة التفاوضية, مع والوفد الحكومي المفاوض في جوبا الشهر الماضي, لمناقشة القضايا الخاصة بالعمل الإنساني ووقف العدائيات وإعلان المبادئ, كان سيناريو مخطط من الحلو لعرقلة جهود الحكومة, بغرض تلميع رفيق الدراسة رئيس الوزراء "عبدالله حمدوك" الذى قد وعد الحلو في كاودا بالبحث عن معالجة موضوع العلمانية الدولة, من خلال خارطة طريق لمناقشة فصل الدين عن الدولة في مسار مختلف. ويرى البعض الآخر, أن انسحاب الحلو من المفاوضات فى المرة الأولى, كان بمثابة مراوغة ومناورة منه للفت أنظار المجمع الدولي والإقليمي, بأنه شخصية قوية وموجودة في الأرض, ولا يريد التوقيع في آن واحد مع جناح مالك عقار رئيس الحركة الشعبية شمال, بهدف وضع العربة أمام الحصان, وعرقلة الجهود التي تقوم به نائب رئيس مجلس السيادة حمدان, لتوقيع اتفاق السلام مع الجبهة الثورية السودانية. ورغم أن لقاء حمدوك بالحلو تم بصورة سرية وفردية, خارج إطار طاقم الوفد الحكومي المفاوض في أديس ابابا, إلا أنه لم يتطرق لمناقشة القضايا الخلافية المطروحة للتفاوض, مثل إشكالية العلاقة بين الدين وحق تقرير المصير, ويعزز ما ذهب إليه الخبراء أن حمدوك والحلو يبحثا عن مجد جديد ومصالح لهما وليست لحل مشاكل الشعب السوداني, ويكشف مدى مصداقية قوات العسكرين التي تدخلت في أحداث بورتسودان وكسلا وجنوب دارفور وغرب دارفور, لضبط الوضع الأمني في كل ولايات السودان، ولولا جهود القائد " محمد حمدان" في تحقيق السلام مع حركات الكفاح المسلح, لما تم اختياره لقيادة الوفد الحكومي المفاوض. أما عن الحزب الشيوعي الذى يهدف إلى تحويل السودان لدولة علمانية, مازال يخشى غضبة الشعب السوداني, لأنه لا حاضنة سياسة له ويختبئ وراء الحركة الشعبية بقيادة الحلو, لتمرير أجندته السياسية, من خلال وضع خارطة طريق تتضمن بند علاقة الدين بالدولة في التفاوض, حتى يتمكن من السيطرة على السلطة ومقاعد المجلس التشريعي في البرلمان, لتفصيل القوانين حسب رؤيته المستقبلية. ويرى كثير من الخبراء السياسيين, أن قضية فصل الدين عن الدولة و"العلمانية " من المواضيع التي لا تكون مطلبية من جهة حزبية واحدة, بل تخضع لاستفتاء عام أو على أقل تقدير تطرح في مؤتمر دستوري جامع, لتناقش بشئ من الشمول وتعدد الأطراف, لأن قضية مثل العلمانية مثار جدل وقد تؤدي لنزاع وعنف سياسي, إذا تم فرضها في مفاوضات ولم تطرح لاستفتاء شعبي. على الجانب الآخر يأتى تمسّك الحركة الشعبية بالعلمانية, جاء نتيجة ما عاشته خلال السنوات السابقة والتي قادت إلى مجازر جماعية وأدت إلى انفصال جنوب السودان، حيث لم ير السودان تلك الحروب المدمرة إلا بعد مجيء الإسلام السياسي، والتي مازالت مستمرة حتى الآن في دارفور، فالحركة الشعبية بتمسكها بالعلمانية تريد أن تتجاوز هذا التاريخ العنصري المرير، وهذا الأمر لا يمكن حدوثه إلا عندما تقف الدولة على مسافة واحدة من الجميع، إذا أردنا أن نحافظ على وحدة ما تبقى من السودان. وكانت حركتان رفضتا الانضمام إلى الاتفاق لإنهاء حرب أسفرت عن مقتل وتشريد مئات الآلاف، هما جيش تحرير السودان فصيل عبد الواحد نور والحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو, وكلاهما يؤيد إقامة دولة علمانية وفدرالية. ويتضمن الاتفاق الحالي الذي تم توقيعه بين حمدوك والحلو، إعلان السودان بلداً متعدد الأثنيات والأعراق ومتعدد الأديان والثقافات والاعتراف الكامل بهذه الاختلافات واستيعابها. والمساواة السياسية والاجتماعية الكاملة لجميع شعوب السودان يجب أن تحمى بالقانون. كما يشمل إقامة دولة ديمقراطية في السودان، وأن يقوم الدستور على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وفي غياب هذا المبدأ يجب احترام حق تقرير المصير، حرية المعتقد والعبادة والممارسة الدينية مكفولة بالكامل لجميع المواطنين السودانيين, لا يجوز للدولة تعيين دين رسمي ولا يجوز التمييز بين المواطنين على أساس دينى. الحكومة بطريقة رسمية رفضت العلمانية, لكن في النقاشات الجانبية مع أحزاب قوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للحكومة, كثير منهم اتفقوا معنا على مبدأ فصل الدين عن الدولة كبديل للعلمانية, فالحركة وقعت إعلانات سياسية مع قوى عديدة، بعضها اتفق معهم على إقرار العلمانية والبعض اتفق على فصل الدين عن الدولة, وقوى أخرى رفضت العلمانية صراحة. أما عن سكان جبال النوبة والنيل الأزرق (المنطقتان) مازالا يحتفظان بوضعهم، الذي يتضمن الحماية الذاتية حتى يتم الاتفاق على الترتيبات الأمنية من قبل أطراف النزاع, وإلى حين تحقيق الفصل بين الدين والدولة. وأخيراً وليس آخراً, هل يمكن اعتبار اتفاقات السلام الأخيرة فى السودان, بمثابة ترسيخ لحالة من الاستقرار أم خلق مزيد من الاحتقان والصراع, مما يهدد بميلاد حركات انفصالية جديدة, وأحداث عنف جديدة(وفقاً لما ذكرة الصادق المهدى زعيم حزب الأمة السودانى), فى ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمناخية, بعد أن طغت الفيضانات والسيول على السودان, فأصبحت ثلاث عشر ولاية سودانية تعيش كارثة حقيقية, حيث غمرت المياه حوالى 120 ألف فدان من المساحات المزروعة, وهدمت المنازل وشردت المواطنين وأدت لمقتل العديد, بالإضافة إلى أنها وصلت للقصر الجمهورى وحاصرت منزل حمدوك! وبعد أن احتشد مئات السودانيين في وسط الخرطوم, مطالبين الجيش بتسلم السلطة وإسقاط الحكومة الانتقالية الحالية، بينما أغلقت السلطات وسط الخرطوم ومنعت المتظاهرين من الوصول إلى محيط القيادة العامة، وأغلقت الجسور، بينما أكدت المؤسسة العسكرية التزامها بتنفيذ الوثيقة الدستورية واتفاق السلام الأخير وحماية الفترة الانتقالية، رغم النقد السلبي من جماهير وقوى الحرية والتغيير. تلك التظاهرات التي لم يعلن عنها بشكل مباشر قوى سياسية, على رأسها حزب "المؤتمر الوطني" (الحزب الحاكم سابقاً), وتيارات إسلامية تعارض الحكومة الانتقالية في البلاد، أبرزها حزب " دولة القانون والتنمية" برئاسة محمد علي الجزولي, فهل كان الأمر يتطلب استفتاء شعبى وحوار مجتمعى موسّع؟ ويبقى التساؤل مطروحاً وقائماً, مستقبل دولة السودان التاريخية الموحدّة والشعب السودانى, بعد التوقيع الرسمى الهائى على اتفاق السلام المقرر عقده مطلع الشهر القادم (2 أكتوبر), إلى أين؟!