لعل الخيط الواضح فيما تقدمه الشاشات التليفزيونية الآن في رمضان هو العلاقة بين المصريين والقانون .. ولا أقصد بهذا فقط العلاقة داخل الدراما من خلال التمثيل ، وإنما خارج المسلسلات من خلال الاعلانات التي تقفز أمامنا يوميا وتحول بيننا وبين الانتباه للعمل الفني وليس الاستمتاع به ، بل أن تعبير " تغول " هذا هو الوصف الأدق لعلاقة المعلنين واعلاناتهم بالمواطنين وكل من يحاول الفرجة على أي مسلسل في رمضان ، بل أن تطورات الأحداث الدرامية داخل المسلسلات قد تكون سببا في " ولادة" إعلانات جديدة إذا رأى المعلن صعود بعض من النجوم الممثلين وعلو بريقهم في الحلقات الأولى من المسلسل ، فإذا بنا نجدهم أيضا ضمن أصحاب البطولات الاعلانية في نفس الوقت ، والشاشة ، ومتجاورين زمنيا ، وهو ما حدث ابتداء من يوم 15رمضان ، إذ فوجئنا بكريم عبد العزيز يخرج علينا كبطل لاعلان عن جهاز تكييف هواء ، الاعلان يقدمه في حالة استمتاع متعدد الوجوه بالحياة الفاخرة والتي حرص المعلن على تقديم أجوائها مؤكدا لنا أنه من حق بطله التمتع بالرفاهية مع التكييف الخ وصورة له أي كريم يجلس سعيدا في عالم آخر ! .. غير أن القضية هنا هي مصداقيته كممثل بطل لمسلسل " الزئبق" العمل الوحيد بين أربعين مسلسلاً جديدا تعرض علينا منذ بداية رمضان وتنتهي بعد 11 يوما من اليوم ، وفيه يقوم كريم عبد العزيز بدور " عمر" الشاب المصري المكافح الذي يمر بظروف إنسانية ومادية صعبة ويعيش مع أسرته في حي شعبي ويشعر بالوجع المستمر لفقره وهو يزور ابنه الطفل أسبوعيا ويراه متألقاً مع رفاهية حققها له زوج امه الثري ، ثم اختيار المخابرات له بعد تتبعها له ولسلوكه كفني تشغيل كاميرات والمتاعب التي تواجهه وهو يسافر إلى اليونان بعد تدريبه ليقوم بمهمة وطنية ، عند هذه النقطة من المسلسل انقض علينا الاعلان ، ليقدم صورة أخرى لعمر .. أو كريم عبد العزيز ، وليقول لنا أن علينا الا نتفاعل معه كبطل قومي وأن الموضوع كله تمثيل في تمثيل ، وربما يأتي هذا الاعلان ليضرب المصداقية نفسها في مقتل ، هل تصور أحدنا (رأفت الهجان) بأداء محمود عبد العزيز وتلك الملحمة الوطنية التي لا تنسى لو كانت في هذه الظروف الآن ، ولو كان ( الهجان) قد قفز أمامنا بعد كل حلقة ضاحكا في إعلان عن البوتاجازات مثلا ؟ أنها ليست قضية سهلة وغير مؤثرة ، بل قضيتان ، الأولى هي تخطي الاعلانات التليفزيونية في مصر كل حدود الالتزام التي يعرفها العالم فيما يخص وقت الاعلان المسموح به أثناء عرض العمل الدرامي (مابين 912دقيقة) والثاني هو عدم قطع المسلسل لعرض الاعلان وانما يأتي مكانه قبل أو بعد الحلقة ، والامر الأخير هو هذا الدخول اليومى لاعلانات جديدة إلى ساحة العرض وفرضها فرضا على المشاهد واغتصابها وقته المخصص للمسلسل الدرامي ولنفرض أمراً واقعاً عليه ، برغم أي قانون ، فارضة قانون الاعلانات والمعلنين فوق كل الخرائط والمساحات ، وليعبر من يستطيع الصبر من المشاهدين ، أو يشتغل كالحواه ، دقائق من هذا العمل ثم يتحول لعمل آخر بعد حضور المعلنين واعلاناتهم وهكذا ، أو يتحول إلى موقع اليوتيوب ليرى المسلسل بدون قطع فادح .. هذه الحالة المتجاوزة لقوانين المشاهدة والمغرية بعدم الانتباه لما يقدم لملايين المصريين من أعمال درامية جزء منها صنعة مبدعون لديهم ما يقولونه ويقدمونه من عام لعام بعد أن ضاقت مساحات الانتاج السينمائي عليهم ، هل تبشر بالمزيد من الاهتمام والاقبال على تقديم أعمال مهمة وقوية وملهمة أم تعد هؤلاء بمناخ عرض سيئ حتى داخل البيوت لا يستطيع فيه أحد تتبع عمل ما ما يستحقه من اهتمام بفعل القطع الاعلاني المستمر ، حتى بالنسبة لاعلانات " الخير "والاعلانات الاجتماعية وليس فقط الاعلانات التجارية لأن الجميع ينتظم في قاعدة واحدة هي الاعتداء على حقوق المشاهد في رؤية العمل الفني بدون قطع فادح طويل ، ثم .. هل يراقب أحد الاعلانات .. ومساحاتها الزمنية ، وأساليبها الفنية ، والتكرار بداخلها ، واختفاء البلاغة منها وسعيها للاطالة لمجرد أن أبطالها من نجوم الفن المشهورين ، ولأنهم تبرعوا بالظهور فيها " في الاعلانات الخيرية" وهل نحتاج كمجتمع إلى كل هذا الالحاح علينا والذي يفتقد الكثير من بلاغة الفن الحقيقى وذكائه ؟ وبالطبع بعد كل هذا يصبح القفز فوق القانون أمرا شائعا في أدبيات المسلسلات نفسها وسلوك شخصياتها الدرامية كما نراه في مسلسلات عديدة تعرض يوميا علينا وتقدم صورا متعددة لعلاقتنا بالقانون في كل المناسبات .. وتلك هي المفارقة الكبرى .. أن هؤلاء الذين صنعوا المسلسلات لتقديم صور مما يعانيه المجتمع .. أصبحوا محاطين بمنافسة موازية من الاعلانات .. لا أحد يستطيع إيقافها .. خارج القانون.