أخشي أن تمر ذكري وفاة الشيخ العلامة محمد الغزالي - كالمعتاد - دون أن تذكره مصر كلها بكلمة واحدة.. لا إذاعة ولا تليفزيون ولا صحافة ولا مقالات سوي مقالات يتيمة سنوية لزوج ابنته محمد عبد القدوس واذا ذكرناه يكون ذلك علي استحياء شديد جدا فهل هذا يليق بمصر أن تنسي علماءها ومفكريها العظام وتضرب بهم عرض الحائط وهل مثل الشيخ الغزالي تهمل ذكراه وتطمس معالمه ونحن أحوج ما نكون إلي فكره وعطائه ومنظومته الفكرية الرائعة. ففي مثل هذه الأيام من شهر مارس 1996سقط الفارس الهمام محمد الغزالي من علي جواده وهو يخوض إحدي معاركه الفكرية في مهرجان الجنادرية الثقافي بالسعودية بعد طول ترحال في رحاب الدعوة الإسلامية لم يعرف الهدوء ولا الراحة.. ليستقر جسده إلي جوار جسد حبيبه الأثير محمد. لقد توقف قلبه المحب للإسلام فجأة بعد طول خفقان.. وما بين البداية والنهاية شوط طويل من محاربة كل من يتهجم علي الإسلام أو يزور رسالته أو يشكك فيها أو يضعها في غير موضعها. لقد سماه والده بهذا الاسم لأنه كان يحب حجة الإسلام الغزالي فرأي في المنام أن يسمي غلامه الجديد باسمه. وكان محمد الغزالي يقول عن نفسه: "إذا كان الغزالي يحمل دماغ فليسوف وابن تيمية يحمل رأس فقيه فإنني اعتبر نفسي تلميذا لمدرسة الفقه والفلسفة معا" وهذه حقيقة فقد كان الغزالي يجمع بين الفلسفة والفقه والأدب والدعوة إلي الله في منظومة متكاملة.. فلا يمرر حديثا إلا وتمعن وتفكر فيه.. ولا يمرر رواية في السيرة إلا وتأملها وتفحصها وطابقها بالقرآن وصحيح السنة. لقد اهتم الغزالي اهتماما كبيرا بمقاومة التدين المغشوش الذي يلامس الشكل ويهمل المضمون ويهتم بالمظهر ويدمر الجوهر.. فإذا به يصيح صارخا ً¢ما الحال إذا نشط الكافرون وكسل المؤمنون.. ما الحال إذا كانت أيدي غيرنا لبقة في الزراعة والصناعة والتجارة والإدارة.. وكنا نحن مكتوفي الأيدي في تلك الميادين كلها.. أينتصر الإيمان بهذا التبلد العقلي والتماوت المادي والأدبي؟.. أم يدركه الخذلان في كل موقعة". لقد كانت معظم حروب الغزالي علي جبهة المسلمين الداخلية التي أصابها العوار والخلل.. وأصيب بالتدين المغشوش والمدسوس الذي لم تعرفه قرون الإسلام الأولي فها هو يتكلم وكأنه يشخص أدواء أيامنا أو يعيش بيننا الآن: "فالمسلمون متأخرون عقليا تأخرا يبعث علي المعرة والخزي¢ ويقول ¢لقد شوه المسلمون من معالم الإسلام بقدر ما عصوا من تعاليمه". ويتساءل سؤالا منطقيا "لو كنت أمريكيا أو أوربيا أكنت أعتنق الإسلام وأعرف ربي العظيم وأؤمن بالقرآن الحكيم وأوقر الحق الذي جاء به محمد النبي الأمي؟!.. إن الصورة النظرية للإسلام بلغت سكان هاتين القارتين مشوهة مفزعة والصورة العملية ليست أقل سوءا من زميلتها". وها هو الغزالي رحمه الله يقرع الدعاة الفاشلين الذين ينفرون الناس عن الدين أكثر مما يرغبونهم فيه فيقول: ¢الآن يوجد متحدثون عن الإسلام يتمني المرء لو سكتوا فما قالوا حرفا.. إن فقرهم مدقع في الكتاب والسنة والقليل الذي عرفوه لم يفهموه علي وجهه الصحيح.. أما إدراكهم لتراث الأمة فضعيف وإدراكهم للكون الذي يعيشون فيه والإنسانية التي تعمره أضعف ويخلص من ذلك إلي نتيجة صادمة فيقول: "إن حديثهم عن الإسلام يكاد يكون ضربا من الصد عن سبيل الله". ثم يتعقب بعض الذين ينصبون أنفسهم متحدثين عن الإسلام وهم يبغضون الناس في الدين فيصرخ فيهم وفينا قائلا ¢واليوم يقوم ناس من المسلمين بدور الكهان القدامي فيصورون الإسلام دينا دموي المزاج. شرس المسلك. يؤخر اللطف ويقدم العنف. ويهتم بقص الأظافر والشعر أكثر مما يهتم بقص زوائد الأنانية والحقد وغمط الناس". ثم يصل إلي نهاية المطاف حينما يحمل بعض المسلمين المنفرين عن الإسلام جزءا من مسئولية الكفر والكفار في العالم كله: "إنني اعتقد أن انتشار الكفر في العالم يقع نصف أوزاره علي متدينين بغضوا الله إلي خلقه بسوء كلامهم أو سوء صنيعهم". والغزالي لا يلقي باللائمة علي التدين المغشوش والدعاة الحمقي فحسب.. ولكنه يصرخ في الحكام المستبدين في كل عصر فيوجعهم بسوطه قائلا: "والحق أن فواجع رهيبة أصابت المسلمين بسبب غمط الأذكياء وتقديم الأغبياء والعرب يرجحون عصبية الوطن والنسب علي الكفاءة العلمية والإدارية والمستبدون من الحكام يقدمون مشاعر الزلفي والملق علي القدرة الرائعة والخبرة الواسعة". ها هو الغزالي الفارس الهمام الذي لم يلجأ يوما إلي التهدئة مع خصوم الإسلام أو أصحاب التدين المغشوش ولم يلجأ إلي أنصاف الحلول.. ولم يركن يوما تحت ظل سقف المحاباة أو المجاملات.. ولكنه اعتمد طريقة الصدمات الكهربائية التي توقظ الأمة من سباتها وغفلتها. ما أحوجنا إلي استعادة فكر وكلمات العلامة الغزالي في مثل هذه الأيام .. حتي لا تضيع علينا ريادة الدنيا والدين.. فالحضارة الغربية عرفت الكون وجهلت ربه أو جحدته.. فهل نحسن التصدي لها عندما نجهل الكون وننسي ربه أو نتجاوز هداه؟!.. رحم الله الغزالي.. وغفر الله لمن نساه.. وأعز من حاول إحياء ذكراه العطرة.