■ مرت ذكرى وفاة الشيخ محمد الغزالى دون أن تذكره مصر كلها بكلمة واحدة.. لا إذاعة ولا تليفزيون ولا صحافة ولا مقالات، سوى مقال يتيم لزوج ابنته محمد عبدالقدوس. ■ فهل هذا يليق بمصر أن تنسى علماءها ومفكريها العظام وتضرب بهم عرض الحائط، وهل مثل الشيخ الغزالى تُهمل ذكراه وتُطمس معالمه ونحن أحوج ما نكون إلى فكره وعطائه ومنظومته الفكرية الرائعة؟! ■ ففى مثل هذه الأيام من شهر مارس 1996 سقط الفارس الهمام محمد الغزالى من على جواده وهو يخوض إحدى معاركه الفكرية فى مهرجان الجنادرية الثقافى بالسعودية بعد طول ترحال فى رحاب الدعوة الإسلامية لم يعرف الهدوء ولا الراحة.. ليستقر جسده إلى جوار جسد حبيبه الأثير محمد (صلى الله عليه وسلم). ■ لقد توقف قلبه المحب للإسلام فجأة بعد طول خفقان.. وما بين البداية والنهاية شوط طويل من محاربة كل من يتهجم على الإسلام أو يزوّر رسالته، أو يشكك فيها، أو يضعها فى غير موضعها. ■ لقد سماه والده بهذا الاسم لأنه كان يحب حجة الإسلام الغزالى فرأى فى المنام أن يسمى غلامه الجديد باسمه. ■ وكان محمد الغزالى يقول عن نفسه: «إذا كان الغزالى يحمل دماغ فيلسوف، وابن تيمية يحمل رأس فقيه، فإننى أعتبر نفسى تلميذاً لمدرسة الفقه والفلسفة معاً». ■ وهذه حقيقة، فقد كان «الغزالى» يجمع بين الفلسفة والفقه والأدب والدعوة إلى الله فى منظومة متكاملة.. فلا يمرر حديثاً إلا وتمعن وتفكر فيه.. ولا يمرر رواية فى السيرة إلا وتأملها وتفحصها وطابقها بالقرآن وصحيح السنة. ■ لقد اهتم «الغزالى» اهتماماً كبيراً بمقاومة التدين المغشوش الذى يلامس الشكل ويهمل المضمون ويهتم بالمظهر ويدمر الجوهر.. فإذا به يصيح صارخاً: «ما الحال إذا نشط الكافرون وكسل المؤمنون.. ما الحال إذا كانت أيدى غيرنا لبقة فى الزراعة والصناعة والتجارة والإدارة.. وكنا نحن مكتوفى الأيدى فى تلك الميادين كلها.. أينتصر الإيمان بهذا التبلد العقلى والتماوت المادى والأدبى.. أم يدركه الخذلان فى كل موقعة؟». ■ لقد كانت معظم حروب «الغزالى» على جبهة المسلمين الداخلية التى أصابها العوار والخلل.. وأصيب بالتدين المغشوش والمدسوس الذى لم تعرفه قرون الإسلام الأولى، فها هو يتكلم وكأنه يشخّص أدواء أيامنا أو يعيش بيننا الآن: «فالمسلمون متأخرون عقلياً تأخراً يبعث على المعرة والخزى»، ويقول: «لقد شوه المسلمون من معالم الإسلام بقدر ما عصوا من تعاليمه». ■ ويتساءل سؤالاً منطقياً: «لو كنت أمريكياً أو أوروبياً أكنت أعتنق الإسلام وأعرف ربى العظيم وأؤمن بالقرآن الحكيم وأوقر الحق الذى جاء به محمد النبى الأمى؟!.. إن الصورة النظرية للإسلام بلغت سكان هاتين القارتين مشوهة مفزعة، والصورة العملية ليست أقل سوءاًً من زميلتها». ■ وها هو «الغزالى»، رحمه الله، يقرع الدعاة الفاشلين الذين ينفرون الناس عن الدين أكثر مما يرغبونهم فيه فيقول: «الآن يوجد متحدثون عن الإسلام يتمنى المرء لو سكتوا فما قالوا حرفاً.. إن فقرهم مدقع فى الكتاب والسنة، والقليل الذى عرفوه لم يفهموه على وجهه الصحيح.. أما إدراكهم لتراث الأمة فضعيف، وإدراكهم للكون الذى يعيشون فيه والإنسانية التى تعمره أضعف». ■ ويخلص من ذلك إلى نتيجة صادمة فيقول: «إن حديثهم عن الإسلام يكاد يكون ضرباً من الصد عن سبيل الله». ■ ثم يتعقب بعض الذين ينصّبون أنفسهم متحدثين عن الإسلام وهم يُبغضون الناس فى الدين، فيصرخ فيهم وفينا قائلاً: «واليوم يقوم ناس من المسلمين بدور الكهّان القدامى فيصورون الإسلام ديناً دموى المزاج، شرس المسلك، يؤخر اللطف ويقدم العنف، ويهتم بقص الأظافر والشعر أكثر مما يهتم بقص زوائد الأنانية والحقد وغمط الناس». ■ ثم يصل إلى نهاية المطاف حينما يحمّل بعض المسلمين المنفرين عن الإسلام جزءاً من مسئولية الكفر والكفار فى العالم كله: «إننى أعتقد أن انتشار الكفر فى العالم يقع نصف أوزاره على متدينين بغّضوا الله إلى خلقه بسوء كلامهم أو سوء صنيعهم». ■ و«الغزالى» لا يلقى باللائمة على التدين المغشوش والدعاة الحمقى فحسب.. ولكنه يصرخ فى الحكام المستبدين فى كل عصر فيوجعهم بسوطه قائلاً: «والحق أن فواجع رهيبة أصابت المسلمين بسبب غمط الأذكياء وتقديم الأغبياء، والعرب يرجحون عصبية الوطن والنسب على الكفاءة العلمية والإدارية، والمستبدون من الحكام يقدمون مشاعر الزلفى والملق على القدرة الرائعة والخبرة الواسعة». ■ ها هو «الغزالى»، الفارس الهمام، الذى لم يلجأ يوماً إلى التهدئة مع خصوم الإسلام أو أصحاب التدين المغشوش، ولم يلجأ إلى أنصاف الحلول.. ولم يركن يوماً تحت ظل سقف المحاباة أو المجاملات.. ولكنه اعتمد طريقة الصدمات الكهربائية التى توقظ الأمة من سباتها وغفلتها. ■ ما أحوجنا إلى استعادة فكر وكلمات العلامة «الغزالى» فى مثل هذه الأيام.. حتى لا تضيع علينا ريادة الدنيا والدين.. فالحضارة الغربية عرفت الكون وجهلت ربه أو جحدته.. فهل نحسن التصدى لها عندما نجهل الكون وننسى ربه أو نتجاوز هداه؟!.. رحم الله «الغزالى».. وغفر الله لمن نساه.