أخذ التدين مكان الدين، وطغى الشكل على حساب الجوهر، وظهر «قادة» جدد للمجتمع استفادوا من سذاجة البعض وجهل البعض الآخر حين تصوروا أنهم بحاجة إلى وسطاء يحدثونهم فى أمور بديهية وكأنها اكتشاف، ويتربحون من بساطتهم ومن سوء المناخ المحيط بهم. ورغم تلك المظاهر المحبطة لما آل إليه حال المجتمع المصرى، فإن ما كتبناه منذ أسبوعين عن التدين المغشوش أثار جدلاً واسعاً، ولكن المدهش أن معظم التعليقات التى وصلتنى على بريدى الإلكترونى كانت مؤيدة لما كتبت، وهو أمر لم أكن أتوقعه، كما أن القلة التى اختلفت مع المقال واعتبرته مساسا بأحد «ثوابت» الأمة وهو خطاب الدعاة الجدد، كانت لغتها صادمة بعيداً عن الاتفاق والاختلاف، حيث وصلت لدرجة مرعبة من الركاكة والتشتت والجهل الكامل بأبسط الأمور السياسية. ولعل الأسئلة الساذجة التى نجدها فى بعض الأفلام المصرية التى تبدأ بوعظ القارئ أو تستخف بقدرته على الفهم حين تشرح له مثلاً الفارق بين التدين (نمط التعبير عن الدين فى ظل ظرف سياسى واقتصادى معين)، والدين الذى يمثل قيماً عظيمة وخالدة، وهى طريقة لم ولن أستخدمها، احتراما لعقل القارئ وقدرته على التفكير والتمييز. والحقيقة، من بين مئات التعليقات التى تلقيتها، جاء بعضها شديد التميز والإتقان، فجاء واحد من د. محسن محمود السيد الذى حصل على دكتوراه فى الصيدلة من الولاياتالمتحدة ويعمل حالياً فى جدة بالمملكة العربية السعودية، قال: أؤكد اتفاقى معكم بأن ما يحدث فى مصر الآن ليس صحوة «إسلامية» حقيقية، ولا ما نشهده من «مظاهر» للتدين هو بالحتمية تدين حقيقى. وإن كنت أُفضل أن أطلق عليه «ظاهرة التدين المشوش»، بدلاً من «التدين المغشوش»، فأجهزة الاستقبال لدى «العقل الجمعى» للأمة المصرية أصابها العطب وأصبحت تستقبل أى شىء ولكن بصورة مشوشة وغير نقية. فأنا لست من «مشجعى» ما يسمون أنفسهم زوراً «الدعاة الجدد»، ولا أعرف من أين جاءت هذه «التسمية».. ربما اخترعتها وسائل الإعلام «المقروءة والمسموعة والمرئية» ولاسيما الفضائيات. فقد عجبت كثيراً لأحد هؤلاء «الدعاة الجدد!!» يعلن عن سباق لتسجيل عشرة ملايين خاتمة للقرآن الكريم! وكأن الغرض من قراءة القرآن هو «الكم» لا «الكيف».. وكأنه دون قصد يصرف الناس عن التدبر والتفكر فى المعانى السامية لكل كلمة فى القرآن الكريم!! وفى هذا الصدد أذكر رداً لفضيلة العلامة الفيلسوف الشيخ الفاضل محمد الغزالى - رحمه الله - عندما جاءه أحد الشباب يبشره بأنه حفظ القرآن الكريم كاملاً وبالقراءات السبع.. فرد عليه شيخنا قائلاً: حسناً فعلت «لقد زادت أشرطة التسجيل شريطاً جديداً»، ولو تأملنا رد الشيخ لعلمنا مدى عمقه.. ما الفائدة أن يحفظ كل الناس القرآن الكريم، فى ظل جهل معظمهم بمعانيه ومقاصده السامية.. وكأنه يريد أن يقول له: لو كنت تعلمت تفسير القرآن أو أصول الفقه الصحيح أو قواعد العقيدة وعلم النفس والفلسفة أو نبغت فى الطب أو الهندسة أو الفيزياء لكان ذلك أنفع للمسلمين! أما الأستاذ عماد فعلق ببساطة قائلاً: «كيف يكون عندنا كل هذا الفساد فى كل نواحى حياتنا اليومية - وفى نفس الوقت - نكون الدولة رقم واحد عالمياً فى نسبة التدين؟! لقد اعتاد الناس الكذب كأنهم يشربون الماء.. الله يوفقك». كذلك تواصل معى الأستاذ أحمد عبدالحميد حسين، الصحفى فى موقع إسلام أون لاين، والأستاذ عبدالهادى أبوطالب من قناة «أنا»، والأستاذ سعد سليمان الذى كان ابنه ضحية ضغوط التدين المغشوش والطائفية، فاضطر لأن يهاجر إلى أمريكا، والأستاذ مرقص حنا الذى تردد فى الكتابة لى حتى لا يقال «إنه مسيحى شامت»، وهو لم يكن كذلك، إنما كان شخصا مثقفا مرهف الحس ومفعماً بالوطنية، وآخرون كثر كتبوا بلغة مفهومة بصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف. أما من تبنى خطاب الدعاة الجدد فعلى أن أعترف بأننى اكتشفت وجها آخر تخبئه هذه الحالة وكيف أنها أعمت كثيراً منهم عن تعلم أى شىء آخر غير خطب الدعاة، فكما قلت لإسلام الشاذلى، أحد الذين راسلونى من المعجبين بخطاب الدعاة الجدد، إنه لا يوجد أدنى مشكلة أن يرى فى ظاهرة الدعاة الجدد جوانب إيجابية ولكن إذا أراد أن يصلح أحوال هذا البلد فعليه أن يهتم بالشأن العام، ويعرف أنه لا يوجد شىء اسمه «تنمية قدرات بشرية» فى ظل أوضاع سياسية واجتماعية تحكمها الواسطة والمحسوبية والفساد، فالمطلوب تغيير المنظومة السياسية أولاً، ووضع قواعد قانونية تحكم الحراك المهنى والاجتماعى فى هذا البلد، وبعدها يمكن أن يكون هناك مكان لتنمية القدرات البشرية، أما غير ذلك فهو متاجرة بأحلام الشباب. وقد أخذت نموذجين من هذه النوعية من الرسائل: الأولى كانت مهذبة من الأستاذ محمد سليمان، وجاءت فى جانب منها لغتها كالتالى: «بالنسبة للمقالة بتاعت حضرتك على (المصرى اليوم) بعنوان التدين المغشوش: أولاً.. كل الحاجات اللى حضرتك قلتها دى.. ملهاش أى علاقة بالناس المتدينين. يعنى لما تقول إن فيه رشوة، أو أى حاجة من الحاجات دى لازم تجيبلنا دليل إن الناس المتدينة دى هيه اللى منتشر فيها الظاهرة دى وماتكونش حالة فردية لواحد منهم، تكون ظاهرة منتشرة بينهم فعلاً، يعنى أنا عايز أقول من الآخر.. إن المجتمع دلوقتى فيه وحش قوى.. وفيه كويس.. تقريباً مابقاش فيه وسط.. والوحش قوى هو اللى ظهر.. بس مانجيش نقول إن السبب هو المتدينين!». أما Moody blues (هذا عنوان بريده الإلكترونى) فهو الوحيد الذى كان صفيقاً بدرجة كبيرة ودافع عن الدعاة الجدد بلغة فيها كثير من النفاق والتزلف المهين وغريبة حتى عن باقى «زملائه»، وعلق على الفقرة الأخيرة من مقالى التى جاء فيها: «إننا شاهدنا تديناً لا هو أنتج ثورة كما فى إيران، ولا حزبا أصبح جزءاً من الحداثة والديمقراطية، كما فى تركيا مع حكم حزب العدالة والتنمية، ولا مشروعاً حضارياً وسياسياً حول بلداً مثل ماليزيا فى عشرين عاماً من التخلف إلى واحد من أهم اقتصاديات العالم، فهنيئاً لنا تديننا المغشوش وغيبوبتنا التى نتمنى لو طالت ألا تتحول إلى موات نهائى». والحقيقة فإن الفهم السياسى العميق للسيد «مودى بلوز» كان صادما حين قال حرفياً: «لعلك كنت تمزح حين تحدثت عما يسمى الانتصار الدينى (ويقصد حديثى عن الثورة الإسلامية فى إيران) كما حدث فى إيران عندما كتبت هذا الكلام، ولعله يكون بغرض الفرقعة الصحفية، وإلا فلا يوجد عاقل يصف ما حدث فى إيران إلا بالقهر الدينى وممارسة ألوان وحشية من الاستبداد الفكرى وتغييب العقول، وكذا الأمر نفسه الذى تصفه بالديمقراطية كما حدث فى تركيا، هذا البلد الذى سمح بلفظ اللغة العربية وتغريبها والتنصل منها كما لو كانت عاراً وهى لغة أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام، والذى تخلى عن أبسط قواعد الديمقراطية عندما رفض النائبة المحجبة ومنعها من ممارسة حقها الشرعى فى ارتداء الحجاب فى البرلمان، وتطلق سيادتك على هذا نظاماً ديمقراطياً!». وطبعاً فقد تحدثت عن حزب إسلامى ديمقراطى اسمه العدالة والتنمية يحكم تركيا منذ 6 سنوات وأصبحت تركيا بفضله تصدّر فى شهر ما تصدّره مصر فى سنة، ويناضل من أجل إلغاء القيود المفروضة على ارتداء الحجاب فى الجامعات (باعتباره حرية عقيدة)، وأن تركيا فى عهده باتت أهم لاعب إقليمى فى المنطقة والرسالة البديهية التى فهمها تقريباً كل القراء تقول ببساطة فلنختر فى السياسة أى نموذج إصلاحى أو ثورى، ممانع أو معتدل، ولكن المهم أن نكون جادين ونحقق إنجازاً على الأرض. سيبقى من مظاهر الأمل أن غالبية من علقوا فهموا هذا المعنى (بصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق) دون الحاجة «لسلاح التلميذ» مثل «السيد مودى». [email protected]