يعقد المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية مؤتمره السنوي تحت عنوان الشخصية المصرية في عالم متغير، وهو موضوع أهنيء عليه المركز وأحيي كل القائمين علي التنسيق لهذا المؤتمر المهم. وكان من المفروض أن تكون مداخلتي في هذا المؤتمر عن "الشخصية المصرية وأنماط التدين بين الماضي والحاضر"، ولكن حالت الظروف دون الانتهاء من ورقتي في الوقت المحدد، ومع ذلك فان اعداد هذه الورقة بما تطلبه هذا من تفكير عميق ودراسة متأنية في معني "الشخصية"، و"أنماط التدين" كان متعة فكرية، ولكنه أثار كثيرا من الشجن والألم. وقد يكون هذا الموضوع في حد ذاته مشروعا لكتاب ودراسة. وقبل أن أبدأ في طرحي للموضوع، فانني أتمني أن تكون الدراسات المقدمة لهذا المؤتمر موضع اهتمام علي مستوي أوسع من قاعات الالقاء، وأرفف الكتب، بل ان هذا الموضوع يصلح أن يكون محورا لمؤتمر قومي، يعيد رؤية ودراسة ما يحدث من تحولات في الشخصية المصرية، ويستشرف رؤية لسياسة تعليمية واعلامية تساعد علي بناء شخصية مصرية أصيلة ومعاصرة، تحمل الخصائص الأساسية التاريخية، وتكون قادرة علي مواكبة التغيرات في عالم يذخر بالمتناقضات ويفتقد أرضية مشتركة حضاريا وفكريا يمكن أن تبني عليها تواصل الشعوب بعضها مع البعض الآخر. ويطلق علماء الاجتماع علي هذا الواقع "مابعد الحداثة". والسؤال هو هل سينتقل هذا العالم المشتت الي واقعنا الثقافي والفكري في أرض الكنانة؟ يبدو بالفعل أننا نسير نحو هذا الاتجاه من التمزق والتناقضات الصارخة في السلوكيات والأفكار والممارسات. ولم يعد الخطاب الاصلاحي بصورته التقليدية قادرا علي تخطي هذا التفتت والتشرذم السائد في العالم والمنعكس علي أرض مصر. أردت في هذه العجالة أن أبين أهمية الموضوع الذي يناقشة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وهو مركز له تاريخه العريق واسهاماته المشهودة في دراسة ومكافحة الجريمة، وتقديم دراسات جادة وهادفة للمجمتمع المصري. أما عن أنماط التدين وتغيرها، وعلاقة هذا بالشخصية المصرية، فلقد بدأت أطروحتي بقضية رئيسية أعتقد أنه لن يختلف عليها اثنان، ألا وهي أنه علي الرغم من أن التدين قضية شخصية تتعلق برؤية الفرد الخاصة، الا أنها تؤثر علي مجموع العلاقات الاجتماعية والانسانية والبيئية التي يمارسها في الحياة الواقعية. وبالتالي فان الممارسات التي تعبر عن التدين هي المظهر المشهود الذي يمكننا من خلاله أن نتعرف علي نوعية هذا التدين، ليكون محلا للدراسة والفهم. وبالنسبة لما يحدث الآن في مصر، فاننا أمام أكثر من ظاهرة تتطلب الانتباه ولفت النظر، وأضع علي قمتها ازدياد عدد المنتقباب باعتبار أنها ظاهرة آخذة في الازدياد بشكل كبير، ومن دراساتي السابقة عن وضع غطاء للرأس في نهايات السبعينيات وبدايات الثمانينيات، كان انتشار هذه الظاهرة في ذلك الوقت تأكيدا للهوية الدينية، التي تريد أن تنشر فكرا اصلاحيا أخلاقيا في ظل ما طرأ علي المجتمع المصري مع سياسة الانفتاح، وما صحبها من فساد وتغير قيمي، وتغيرات سياسية جذرية، أنتجت نوعا من الاغتراب الذي واجه الشباب خاصة والمجتمع المصري عامة، ولكن لأن الشباب هو دائما الفئة الحساسة والتي يبدأ منها حركات التغير الاجتماعي، فان الدين مثل لهم أرضا ثابته يمكن أن ينطلقوا منها ليواجهوا ما أصاب المجتمع من تخلخل قيمي وبنائي. شباب ذلك الوقت أصبحوا الآن في سن النضج، ونقلوا لبناتهم وأبنائهم تلك القيم التي تمسكوا بها. وأما اليوم فلا يمكن أن ننسب الي غطاء الرأس هذه المعاني، في ظل مجتمع أصبح معظم سيداته وبناته من كل الطبقات، وعلي كل المستويات العلمية والتعليمية والمهنية يضعن غطاء علي رأسهن. ان غطاء الرأس أصبح زيا شائعا، لا شك أنه ما زال يعبر جزئيا "عن الالتزام الديني"، ولكنه لا يؤكده. أقصد أن الشابات اليوم يرتدين هذا الزي استجابة لشكل أصبح هو الشائع والمنتشر، ولكن لا يدل هذا _كما كان سابقا _ أن الدين يأخذ محور اهتمامهن. وفي هذا الصدد أصبح هناك احتياج لزي آخر يؤكد "التدين" والالتزام، ومن هنا أعتقد أنه قد برز النقاب ليكون هو الوسيلة التي ترسل بها الفتاة رسالة الي المجتمع تعبر عن شخصيتها والتزامها. اذا وضعنا في الاعتبار أن هذا الزي هو اختيار شخصي، فان هذا لا يمنع من الاعتراض عليه أيضا، ولقد عرضت في مقال سابق التداعيات الأمنية والفكرية لانتشار هذا الزي، وأقولها مرة أخرة في عجالة، ذلك أن هذا الزي من الناحية الأمنية من الممكن أن يستغل في جرائم كثيرة، لأن اختفاء الهوية يشجع المجرمين علي تهديد الأمن، دون أن تكون هناك وسيلة للتعرف عليهم أو الامساك بهم. وأما من ناحية قضايا المرأة فانه يؤكد مفاهيم مغلوطة عن الدين لا تتماثل مع احترام الأديان للانسان بعامة، فهذا الاختفاء يؤكد أن المرأة كلها عورة وبالتالي يقلل من شأنها ويضعف من ثقتها بنفسها، ويحجبها عن أخذ أدوار قيادية في حياتها. وأما في صدد "التدين"، فان هذا الزي وغيره من المظاهر التي تريد أن تؤكد الانتساب الديني، أعتبره تهديدا لأصالة الرسالات الدينية التي تدعو جميعها الي تطهير القلب من الشوائب، والعمل الصالح المتجه الي كل البشر، دون اعلان، فالشجرة الطيبة تعرف بثمارها، وكلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها باذن ربها في كل حين. وهذا الاتجاه المنصب علي الشكل اتجاه دخيل علي الثقافة المصرية، التي كان الضمير أول وأعظم اكتشاف قامت عليه حضارتها. وهذا الاتجاه هو نتاج للتعرض عن طريق المعايشة أو التواصل عبر الانترنت، أو مشاهدة البرامج الفضائية لاتجاهات دينية متشددة، تؤكد علي الشكل باعتباره غاية. عندما يتحول الدين الي الاهتمام بالشكل وتأكيد أهميته يصبح المجتمع كله في خطر عظيم، وهو ما نشهده اليوم من تناقض بين انتشار تلك المظاهر الدينية وبين الانحلال الخلقي الذي يضرب بشدة في الكيان المجتمعي ويشهد بذلك ازدياد الفساد، وتعاطي المخدرات، وانتشار الزواج العرفي وغيره من مظاهرالانحراف. أضف علي هذا ما ينتجه الاهتمام بالشكل الديني من مشاكل نفسية، وذلك عندما يغيب القصد والهدف والغاية من الفعل، ويصبح جل الاهتمام هو الأداء. ومن دراستي لحالات انسانية، كانت هناك الكثير من الحالات التي عاشت شعورا بالصراع الداخلي والخوف المستمر من المعصية، مما جعلهن لا يستطعن أن يكن علي ثقة بأي قرار يتخذن، أو أي فعل يقمن به، ناهيك عن الشعور باللامعني والخواء الداخلي. أقول قولي هذا لا اعتراضا علي الممارسات الدينية، ولكن تبجيلا للمعني والهدف والمقصد من هذه الممارسات، فعند تحولها الي غايات في ذاتها، فانها بالضرورة تفقد معناها. وأما الملاحظة الثانية التي أحب أن أتعرض لها في موضوع التدين، فهو استغلال جماعات الاسلام السياسي مفتاحا مهما للشخصية المصرية ألا وهي رغبتها في التدين، وانطلاقا من هذه الحساسية الخاصة لهذا الشعب، ينفذ هؤلاء الي الشباب الذي يبحث عن قيمة ومعني للحياة، فيصبح الانضمام الي هذه الجماعات والانصياع الي فكرها هو قمة التدين من وجهة نظرهم. هذه الرؤية التي تجعل من البعض مهيمنا ومسيطرا علي الآخرين لها جذورها الفكرية في الوعي العام الذي يعطي البعض قدرة علي املاء ماهو حق وباطل، ويمنع الآخرين من قدرتهم علي الاستنتاج والاستنباط واستفتاء القلب، وهو اتجاه تتبناه كثير من المؤسسات الدينية هنا وفي العالم الاسلامي، ولذا نفاجأ بأسئلة في غاية الغرابة عن أمور قد تبدو بديهية من الناحية الأخلاقية، وليست في حاجة الي فتوي. ويختلط علي الكثيرين ما يقدمه الاسلام السياسي من فكر، وما تدعو اليه الرسالة الاسلامية من منهج. ويظنون أن من يقولون إن "الاسلام هو الحل"، و"أن القرآن دستورنا" يملكون رؤية متطابقة مع ما جاء به الله سبحانه وتعالي. ويجعل هذا الاختلاط الكثيرين غير قادرين علي التمييز بين خطورة فتح الباب لهذا الفكر للتغلغل الي السلطة، وبين من ينادون بقوانين وضعية مطلقة، ولا يحاولون الاسترشاد بالهدي السماوي. ويدفع هذا الاختلاط الكثيرين الي التضامن والتعاطف مع الاتجاهات التي تسيس الدين وتأسلم السياسة. ويعتبر الكثيرون ممن ينتمون الي هذا الفكر أن تأييدهم لهذه الجماعات هو قمة التدين، الي الحد الذي يعتقدون أنهم مستعدون للشهادة في سبيل نشر هذا الفكر والدفاع عنه. هذا النمط من التدين في حاجة الي حركة تنويرية جديدة، مثل تلك الحركة التي قادها رفاعة الطهطاوي، والتي تولد عنها حركات الابداع الفكري الديني في بدايات القرن العشرين علي يد محمد عبده. واذا كان الحديث عن أنماط التدين متصلا ومتواصلا مع الشخصية المصرية، فان خصائص هذه الشخصية ليست ثابتة، ولكن الرجوع الي جذورها وفهم تطورها التاريخي عبر الزمان، من شأنه أن يضيء لنا الطريق اليوم الي نقاط القوة والضعف التي يجب أن ندرسها، لنعيد الي ثقافتنا الأصيلة حيويتها، ومرونتها، وقدرتها علي النمو دون التشوه. وللحديث بقية.