قرأ الشاب الملتحي عنوان كتاب العقاد عبقرية محمد فألقاه غاضبا وصائحا: أين الصلاة علي الرسول.. كيف لم يكتب علي غلاف الكتاب عبقرية محمد صلي الله عليه وسلم.. العقاد هذا الذي تفخرون به لا يحسن احترام مقام النبوة كما ينبغي. تعجب جليسه من فعله وقوله وقصر فهمه وهشاشة عقله وسطحية تدينه قائلا له: إن كل كلمة في هذا الكتاب العظيم تجعل كل من يقرأه يحب الرسول صلي الله عليه وسلم ويعشقه ويطبق تعاليمه وأخلاقه وآدابه.. هل نسيت أن هذا الكتاب من أوائل ما كتب في العصر الحديث عن الرسول صلي الله عليه وسلم. إن كل كلمة وفقرة في هذا الكتاب تشي وتدل علي حب العقاد العظيم لهذا النبي الكريم.. وهل هناك من دافع عن الإسلام ونبيه بل والأنبياء مثل إبراهيم وعيسي مثل العقاد الذي أفرد لكل منهما كتابا خاصا في سابقة فريدة في العصر الحديث؟!. لقد كان هذا الكتاب من أوائل الكتب التي دافعت عن النبي محمد صلي الله عليه وسلم في القرن العشرين حينما تكالبت الدنيا لحرب الإسلام ونبيه خاصة والأنبياء عامة وانتشر الإلحاد انتشار النار في الهشيم. ثم قال لصديقه: أنت لا تعرف فن كتابة العناوين.. إنه عنوان كتاب وليس موضوع إنشاء. تأملت هذه القصة محدثا نفسي ومخاطبا وجداني: إن أزمة أمتنا الأزلية هي التدين المغشوش.. وتذكرت حينها قصة بعض العراقيين الذين قدموا علي المدينة يسألون عبد الله بن عمر عن حكم دم البرغوث ؟.. وهل ينجس الثوب أم لا ؟.. فقال لهم متهكما من تدينهم المغشوش وساخرا من فهمهم المغلوط لحقائق الدين والحياة: تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله بدم بارد وتسألون عن حكم دم البرغوث. وكأنه يقول لهم: اتركوا البرغوث ودمه في حاله.. ولا بأس عليكم من قتله ودمائه ولا حرج عليكم في كل ما يتعلق به حياة أو موتا.. واسألوا عن مصيبتكم الكبري والعظمي وهي تواطئكم علي قتل الحسين ابن بنت رسول الله.. وخداعكم له بالبيعات الكاذبة وعندما جد الجد تركتموه يصارع الجيوش وحيدا. لقد أراد ابن عمر أن يعالج التدين المغشوش أو الكاذب في نفوس كل الأجيال منطلقا من هذا الدرس الذي أعطاه للعراقيين الذين يضرب بعضهم نفسه اليوم ويجرح جسده كلما حلت ذكري الحسين وهذا من التدين المغشوش أيضا. فهؤلاء الذين يضربون أنفسهم اليوم ويجرحون أبدانهم في ذكري استشهاد الحسين لم يكونوا يومها علي قيد الحياة أو ولدوا بعد ولا شأن لهم بالمسألة من قريب أو بعيد ولم يكونوا طرفا فيها.. فلماذا يحملوا أنفسهم ذنبا لم يرتكبوه وجرما لم يفعلوه.. ويحملوا في الوقت نفسه ظلما وعدوانا أهل السنة من جيرانهم وبني وطنهم مسئولية قتل الحسين رغم أنهم كانوا جميعا وقتها نسيا منسيا.. ويكرهون أهل السنة من بني دينهم أو وطنهم ناسين أن أهل السنة قد يحبون الحسين وآله وكل الصحابة أكثر منهم. ولكنه التدين المغشوش الذي جر الويلات تلو الويلات علي هذه الأمة المنكوبة بعقول أبنائها وسوء تصرفهم. لقد ذكرني ذلك كله بالعبقري العظيم الخليفة العادل عمر بن الخطاب الذي خفق رجلا بالدرة لأنه من أهل التدين المغشوش.. فقد وجد الرجل عدة تمرات فأخذ ينادي في الطريق: من صاحب هذه التمرات ؟!!.. فكانت درة عمر بن الخطاب هي العلاج لتدينه المغشوش وهو يزجره بقوله: لا يا صاحب التقوي الكاذبة. وفعل ذلك مع رجل وجد درهما بالشارع فنادي: درهم من هذا ؟!.. وكأنه يقول لهؤلاء: إن هذه التمرات لا تستحق كل هذا الصياح.. وهذا الدرهم لا يستحق هذا النداء. إنك تصيح ليعرف الناس أنك أمين.. وتنادي علي الدرهم ليظن الناس فيك رياء وتسميعا أنك حفيظ حتي علي الدرهم.. والله أعلم بسريرتك.. فالتمرات أعطها لأي فقير والدرهم أعطه لأي مسكين. إن درة عمر كانت علاجا لأدواء هؤلاء ومداواة لمرض عضال أصابهم اسمه التدين المغشوش. لقد ذكرني ذلك كله بقصة امرأة جاءت تساعد زوجتي أثناء مرضها في تنظيف الشقة.. فوجدت جنيها علي الأرض فصاحت في الشقة كلها: يا أم هيثم.. خذي هذا الجنيه فقد وجدته علي الأرض.. وبعدها بأيام اكتشفنا أنها سرقت مجموعة من السكاكين والملاعق.. ثم بعدها سرقت من جيب ابني الشاب مائتي جنيه. إنني اعتقد جازما أن أزمة المسلمين الحقيقية هي أن التدين في أمتنا كثير وكثير جدا.. ولكن أغلبه من نوعية وعينة التدين المغشوش الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.. فكل صراعاتنا ونزاعاتنا التي يظن الجميع أنها علي الدين أو الوطن هي في حقيقتها علي الدنيا والمناصب.. ولكن الجميع يسبغ عليها نكهة التدين أو الوطنية.. ويحولها من حروب سياسية مصلحية إلي حروب دينية وطنية. وإذا كانت داعش وأنصار بيت المقدس والميليشيات الشيعية التي تكفر السنة وتفجرهم هي نماذج فجة من التدين المغشوش.. فإن هناك درجات من التدين المغشوش في كل شريحة من شرائح المسلمين لا تقل خطرا عن هذه المجموعات والجماعات. فهل تشفي الأمة من مرضها العضال التدين المغشوش أم يتوطن المرض في جسدها.. فتصبح أثرا بعد عين ؟!!.