شهد النصف الأول من القرن التاسع عشر بداية نهضة علمية وأدبية كبيرة. وعندما جال بنظره لم يجد أفضل من الأزهريين ليساعدوه علي بناء تلك النهضة. وكان علماؤه علي قدر المسئولية. فكانوا من تحمل شرف مسئولية تنوير الأمة وتجديد تراثها فجمعوا بين الأصالة والمعاصرة بالدعوة إلي نقل العلوم الغربية إلي مصر مع الحفاظ علي تراث الأمة ولغتها وإحياء المهجور من أدب العرب وثقافتهم الباهرة. وكان علي رأس هؤلاء العلماء الشيخان حسن العطار الذي وضع أسس تلك النهضة. وتلميذه رفاعة الطهطاوي. الذي يعد بحق رائد التجديد والتنوير في مصر الحديثة. بما قدمه من جهود في مجال الترجمة كما كان له الفضل الأكبر في الدعوة إلي تعليم المرأة إلي جانب إسهاماته في نهضة الصحافة الوطنية الناشئة. وكان الشيخ حسن العطار سابقاً لعصره. طوافاً في الأرض. سافر براً وبحراً. وزار الشام. والآستانة وأقام بها سنوات. وأفاد من هذه الرحلات. واتسعت آفاق فكره. فعكف علي جمع مختلف العلوم العقلية والنقلية. ولما بدأ الوالي محمد علي نهضته. واحتاج إلي بعض مشايخ الأزهر للتدريس في مدارسه الجديدة. أو لتصحيح الكتب المترجمة. كان تلاميذ العطار أمثال محمد شهاب الدين. وحسن قويدر الخليلي. ومحمد عياد الطنطاوي. وغيرهم. خير من قام بهذا الأمر. وعندما طلب محمد علي في سنة 1242ه/ 1826م إلي الشيخ العطار أن ينتخب من علماء الأزهر إماما للبعثة المتجهة إلي فرنسا. يري فيه من اللباقة والحصافة. اختار تلميذه رفاعة الطهطاوي لهذه الوظيفة. وقد أصبح جل طلاب الطب الأوائل في مصر من الأزهر. وكان لهم في مدرسة الطب من الذكاء وحسن الاستعداد براعة وتميز. كان التعليم سبيل الطهطاوي إلي التجديد والتنوير. وبعث النهضة. فعاش طوال حياته يعلم ويرشد ويوجه. ورأي أنه لا سبيل للارتقاء غير تعليم الناس وتوجيههم إلي الغاية من حياتهم. وعلم تلاميذه كيف يعلمون. الحديث. وضع كتاباً جديداً أسماه "التحفة المكتبية في القواعد والأحكام والأصول النحوية معني الوطن والوطنية". وتجلت أعظم أثاره كإمام تنوير ونهضة في مجال الترجمة فقد كان الطهطاوي يأمل في إنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات الأجنبية. وإعداد طبقة من المترجمين المجيدين يقومون بترجمة ما تنتفع به الدولة من كتب الغرب. وتقدم باقتراحه إلي الوالي محمد علي ونجح في إقناعه بإنشاء مدرسة للمترجمين عرفت بمدرسة الألسن ومدة الدراسة بها خمس سنوات قد تزاد إلي ست وافتتحت المدرسة بالقاهرة سنة "1251ه/ 1835م" وتولي رفاعة نظارتها. وكانت تضم في أول أمرها فصولاً لتدريس اللغة الفرنسية والانجليزية والإيطالية والتركية والفارسية. إلي جانب الهندسة والجبر والتاريخ والجغرافيا والشريعة الاسلامية وكان لتلاميذ هذه المدرسة الفضل في نهضة الترجمة ونقل العلوم الحديثة إلي العربية وبعث التقدم العلمي في البلاد. ومنهم: محمد مصطفي البياع. مترجم كتاب مطالع شموس السير في وقائع كرلوس الثاني عشر. خليفة محمود. مترجم كتاب مقدمة تاريخ الإمبراطور شارلكان وسماه "إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شارلكان". عبدالله أبوالسعود. مترجم كتاب "تاريخ مصر القديمة" لمريت باشا. وكتاب تاريخ الفلاسفة اليونانيين أحمد عبيد. مترجم كتاب "تاريخ بطرس الأكبر". سالم باشا سالم الشهير بسالم باشا الحكيم أحد رواد الطب والعمل الخيري في مصر الحديثة مؤلف كتاب وسائل الابتهاج إلي الطب الباطني. محمد قدري باشا. مؤلف "الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية" وكتاب "قانون العدل والإنصاف في القضاء علي مشكلات الأوقاف". لقد عم خير الأزهر بلدان العالم الإسلامي حيث كان ينتقل الوافدون عليه من أبنائهم في مئات من السنوات التي لم يكن في تلك البلدان معاهد أو جامعات. ولذلك فقد كان يجمع في حلقات التدريس وفي صفوفها طلابا من مختلف الجنسيات واللغات والألوان. ومن هذه النماذج:- الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الجزائر الشيخ محمد نور الحسن سوداني الشيخ حسن خالد لبنان فاضل محمد نور ماليزيا مأمون عبدالقيوم مالديف الدكتور وهبة الزحيلي سوريا. ولقد لبث الجامع الأزهر علي مر العصور وثيق الصلات بسائر الأمم العربية والإسلامية عن طريق الوافدين عليه من الأساتذة والطلاب من أبناء هذه الأمم. وكانت صفته كأقدم الجامعات الإسلامية. وأكبر موئل للعلوم الدينية والعربية تجعل منه مؤسسة عربية إسلامية كبري تتوثق فيها وشائج المحبة والتفاهم في حلقات الدرس والتي كانت يجتمع فيها طلاب من مختلف الجنسيات واللغات والألوان والطباع من قارة افريقيا. ومن اليابان وإندونسيا والصين والهند وروسيا وتركيا. وبلدان أوروبا. وكان الجميع يتكلمون اللغة العربية ويدرسون علومها وعلوم القرآن والحديث والفقه والعقيدة والمنطق والفلسفة ثم يرجعون إلي ديارهم وشعوبهم ليفقوهم ويعلموهم ويبعثوا فيهم حب الحق والخير وحب العلم والتعلم وحب الإنسان لأخيه الإنسان والتعاون معه.