تمر الأمة العربية بظروف استثنائية صعبة من الانقسامات الداخلية والحروب الأهلية والعدوان الصهيوني مما جعلها مطمعا للأعداء في الخارج الذين أعلنوا عن خرائط مخططاتهم في تقسيم المقسم وتفتيت المفتت حتي يصلوا إلي "الجائزة الكبري" وهي تمزيق مصر وتقسيمها إلي دويلات صغيرة متصارعة تنفيذا للمخطط الاستعماري عبر التاريخ "فرق تسد". تناغم مع هذه المؤامرة الدولية جانب آخر من المخطط وهو نشاط مكثف للطابور الخامس عبر وسائل الاعلام لإثارة النعرات العرقية والطائفية والمذهبية والتشكيك في الثوابت الدينية أو ما اصطلح الفقهاء علي تسميته "معلوم من الدين بالضرورة". الغريب انه تزامن مع المحرقة الصهيونية في غزة إثارة العديد من القضايا عبر مجموعة من "المشاغبين" الذين ارتدوا عباءة "المجتهدين". من هنا تأتي أهمية هذا الملف الذي نناقش فيه القضية من مختلف جوانبها ونحاول أن نشخص الداء ونضع له الدواء من صيدلية الإسلام الوسطي الذي يدعو أتباعه إلي الوحدة والاعتصام بحبل الله والبعد عن كل ما يفرق وحدتنا. يعد الاجتهاد من أهم السمات التي تميز الإسلام عن غيره من الأديان . وقد وضع الفقهاء ضوابط وشروطا للمجتهد حتي لا ¢يشطح¢ البعض باسم حرية التفكير والإبداع ويدخلوا في الإسلام ما ليس منه ويدعوا انهم من المجتهدين الجدد الذين يتفوقون علي المجتهدين القدامي .. من هنا تأتي أهمية هذا التحقيق الذي نوضح فيه الاجتهاد وضوابطه والشروط الواجب توافرها في المجتهد حتي لا يكون الاجتهاد بابا مفتوحا لكل من هب ودب. في البداية يؤكدپالدكتور محمد عبد اللطيف قنديل الأستاذ بكلية الدراسات الاسلامية بالاسكندرية أن الاجتهاد هو المصْدر الرابع من مصادر الشريعة الإسلاميَّة بعد ¢الكتاب¢ و¢السُّنة¢ و¢الإجماع¢. ويُعبر البعض عنه أيضًا باسم ¢القياس¢ أو ¢العقْل¢ أو ¢الرأْي¢. باعتبار أنَّ هذه الثلاثة ما هو إلا أداة من أدوات الاجْتهاد. وأشار الدكتور قنديل الي أن العقل هو احد عوامل ازدهار الشريعة ويحررها من العقم والجمود كما أن اختلافِ المذاهب في الشريعة الإسلاميَّة أثمرت رصيدا علميا كبيرا لا مثيل له في تاريخ الإنسانية بل انه مما تفرَّد به ¢الاجتهادُ الإسلامي¢ وجعل الشريعةَ الإسلاميَّة تستجيبُ باستمرار للحاجات الإنسانيَّة المتطورة مع الأزمان بل والأماكن. أوضح د. قنديل. أن الشريعة الإسلاميَّة پشجعت علي الاجتهاد فجعلت للمجتهد أجران إذا أصابَ. وأجْرى إذا أخطأ. وفي هذا قمة التقدير لحرية الرأْي والاجتهاد كمصدري صحيحي للشريعة وهنا تتجلي عبقرية فقهاء الإسلامي بوضع القواعد العلمية التي يتم اتخاذها معايير تُوزَنُ بها آراءُ المجتهدين. وتبعد بها أخطار المتطفِّلين من خلال علم¢عِلْم أصول الفقه¢ وغيره من العلوم. يضيف: ولعلي هنا اذكر پقول ابن قَيِّم الجوزيَّة في كتابه ¢إعْلام الموقعين¢» حيث قال: ¢إنَّ الشريعةَ مَبْنَاها وأساسَها علي الحُكْم ومصالح العِبَاد في المعاش والمعَاد. وهي عدلى كلُّها وغيره من العلوم ورحمة كلُّها. ومصالح كلُّها وحِكْمة كلها. وإنَّ كلَّ مسألة خرجتْ من العدلِ إلي الجور. وعن الرحمة إلي ضدِّها. وعن المصلحة إلي المفْسَدة. وعن الحِكْمة إلي العبث. فليستْ من الشريعة. وإنْ أُدْخِلَتْ فيها بالتأْويل. وكشف د. قنديل أن بعض المستشرقين أعجبوا بالاجتهاد ومنهم ¢كولد زيهر¢ المستشرق الألماني الذي أعلن إعجابه بكون ¢الإجماع¢ الاجتهادي أصْلاً من أصول الشريعة الإسلاميَّة ومصادرها. وعبَّرَ عن ذلك بقوله: ¢إنه ينبوع القوَّةِ التي تجعلُ الإسلامَ يتحرَّكُ ويتقدَّم بكلِّ حريَّة¢. شروط المجتهد وعن ضوابط الاجتهاد في الإسلام حتي نفرق بين المجتهد الحقيقي وبين أدعياء حرية التعبير والإبداع يقول الدكتور محمد المنسي- أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة : للاجتهاد شروط لا يجوز لمن لم تتوافر فيه أن يجتهد. وقد ذكر أهل الأصول شروط المجتهد. فأطالوا الكلام بذلك. وأهمها : - الإسلام. وهو واضح. - العقل. وهو واضح أيضًا. - البلوغ لأن الصبي لا يعتمد علي خبره وشهادته. فمن باب أولي اجتهاده. - إشرافه علي نصوص القرآن. أي ما يتعلق منها بالأحكام. وقد ذكر بعض أهل الأصول أنها خمسمائة آية. ومنهم من قال: إن ذلك إنما يعني الآيات الدالة علي الأحكام. بدلالة المطابقة فحسب. لا ما دل علي الأحكام بالتضمن والالتزام. - معرفة ما يحتاج إليه من السنن المتعلقة بالأحكام. - معرفة مواقع الإجماع والخلاف. حتي لا يفتي بما يخالف الإجماع أو يدعي الإجماع علي ما ليس بإجماع. أو يحدث قولاً جديدًا لم يسبق إليه. - معرفة القياس. فإنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه. فمن لا يعرفه لا يمكنه استنباط الأحكام. - أن يكون عارفًا بلسان العرب وموضوع خطابهم. وذلك حتي يميز بين الأحكام التي مرجعها إلي اللغة. كصريح الكلام وظاهره ومجمله ومبينه وعامه وخاصة. وحقيقته ومجازه. وغير ذلك. - معرفة الناسح والمنسوخ. حتي لا يفتي بالحكم المنسوخ. قال علي رضي الله عنه لأحد القضاة: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت. - معرفة حال الرواة في القوة والضعف. وتمييز الصحيح من الفاسد. والمقبول من المردود. - أن يكون ذا ملكة يستطيع أن يستنبط بها الأحكام. ولا تتأتي هذه الملكة إلا بالدربة في فروع الأحكام. - العدالة. فلا يقبل اجتهاد الفاسق. ويجوز أن يعمل هو باجتهاده. وأضاف الدكتور المنسي : اشترط بعضهم: العلم بالمنطق والكلام. ولم يشترط ذلك الأكثرون. ولا يلزم في هذه الشروط أن يبلغ فيها الشخص المنتهي والغاية بل يكفيه أن يكون ضابطًا لكل فن منها وهو ما يعبرون عنه بذي الدرجة الوسطي في هذه العلوم. وهاجم الدكتور المنسي أدعياء الاجتهاد الذين يقارنون أنفسهم بالمجتهدين الأوائل قائلين ¢هم رجال ونحن رجال¢ وقد حاول هؤلاء المتطفلين نشر الضلال والخروج من الدين باسم إعمال العقل متجاهلين الشروط السابقة التي وضعها الفقهاء للاجتهاد. ضوابط الاجتهاد من جانبه يوضح الدكتور منير جمعة . أستاذ الشريعة بجامعة المنوفية . أن الاجتهاد لا يجوز أن يتعارض مع ما جاء في المصدرين الرئيسيين للتشريع وهما الكتاب والسنةپوفي هذاپيقول الإمام الشافعي : ¢لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلي علم يخالف في أن فرض الله تعالي إتباع أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم. والتسليم لحكمه فإن الله تعالي لم يجعل لأحد بعده إلا إتباعه. وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلي الله عليه وسلم. وأن ما سواهما تبع لهما. وأن فرض الله علينا وعلي من بعدنا وقبلنا قبول الخبر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم. وأجمع الناس علي أن من استبانت له سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وإذا صح الحديث فهو مذهبي. وكل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. اوضح الدكتور منير أن مالك رحمه الله حكم اجتهاده بما لا يتناقض مع الكتاب والسنة فقال : ¢إنما أنا بشر أخطئ وأصيب. فانظروا في رأيي. فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه. وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه¢ وقال أبو حنيفة رحمه الله: ¢ لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه¢ يعني: الدليل. وفي رواية:¢ حرام علي من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي. فإننا بشر نقول اليوم القول ونرجع عنه غداً. وإذا قلت قولاً يخالف كتاب الله وخبر الرسول صلي الله عليه وسلم فاتركوا قولي ¢. واما الامام احمد بن حنبل فقال: ¢ لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا¢. وقال أيضاً: ¢ من رد حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو علي شفا هلكة¢. فهذه أقوال الأئمة الأربعة أنفسهم وهم في قمة المجتهدين.وانهي د. منير جمعة كلامه قائلا : اتفق أهل العلم علي اعتبار المصالح في الأحكام إلا أنهم اتفقوا أيضاً علي أنه لا اعتبار لمصلحة شهد لها الشرع بالبطلان وذلك بوجود نص يدل علي حكم في الواقعة بخلاف الحكم الذي تمليه المصلحة كما ان هناك إجماع الأمة علي أن كل ما أحدث علي خلاف الدين فهو ردپايپمردود في وجه فاعله باطل. والحديث في ذلك واضح وهو قول النبي صلي الله عليه وسلم: ¢من أحدث في أمرنا هذا -أمرنا: ديننا الإسلام- ما ليس منه فهو رد¢.پ