أكد الدكتور عبد الرحمن العدوي..عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر . أن دخول أدعياء الاجتهاد الي الساحة أصاب الرأي العام بالبلبلة التي أوقعت المسلمين في حيرة وأساءت للإسلام..وأشار إلي انه اذا كان الاجتهاد الفردي مقبولا في عصور أئمة المذاهب الفقهية فإنه لم يعد مقبولا في عصرنا الذي تشعبت فيه العلوم وكثرت القضايا المستحدثة التي لم يرد فيها نص قطعي في القرآن أو السنة.. اوضح انه لا يعيب المفتي التراجع عن فتوي أتضح له انها ليست صحيحة ولكن الخطأ الأكبر الإصرار علي الخطأ والمكابرة..ونفي المقولة الشائعة بأن باب الاجتهاد قد تم إغلاقه منذ القرن الرابع الهجريپپ * باعتباركم تنتمون الي هيئة كبار العلماء بالأزهر ومجمع البحوث الاسلامية فأنتم من كبار المؤيدين للاجتهاد الجماعي من خلال المجامع الفقهية لوأد الفتنة والبلبلة التي تنتج عن الاختلاف بين المجتهدين الفرادي؟ ** أري أن من أهم ضمانات سلامة الاجتهاد وخاصة في القضايا الجدلية والمستحدثة التي لم يرد فيها نصوص قطعية أن تعرض علي المجامع الفقهية التي تعد طوق نجاة للأمة لأنها تضم المتخصصين في العلوم التي تنتمي إليها تلك القضايا التي هي موضوع البحث مع فقهاء الشريعة الذين هم أهل الاجتهاد لتنكشف الحقائق العلمية وتستقيم الأحكام الشرعية أما ما يحدث بين أصحاب الاجتهادات الفردية من اختلافات وصراعات فإن سببها عدم توافر كثير من المعلومات الصحيحة والدقيقة لدي بعض أصحابها كما يغيب عنهم التصور العلمي الكامل لموضوع البحث بل وبقضية الاجتهاد نفسها. خلاف المجامع * ولكن البعض يؤكد أن المجامع الفقهية أيضا مازال بينها خلاف خاصة في القضايا المستحدثة ** هناك شبه اتفاق بين كل المجامع الفقهية ويظل الاختلاف هو الاستثناء النادر الذي لا يقاس عليه وذلك لأن المجامع تضم المتخصصين في علوم الدين والدينا فمثلا في موضوع زرع الأعضاء والتبرع بها يكون الأطباء والفقهاء . وفي موضوع المعاملات الاقتصادية في البنوك والشركات والسندات ونحوها يكون علماء الاقتصاد مع الفقهاء وهكذا نجد المتخصصين في مختلف المجالات ولعل هذا هو التطبيق العملي لقوله تعاليپ¢....فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَپ¢ الآية 43 سورة النحل * ألا تري أن هناك تنسيقا مفقودا بين المجامع الفقهية ولهذا نري القضية الواحدة يناقشها أكثر من مجمع مما يعد تكرارا للجهد ومضيعة للوقت؟ ** أري أن العكس هو الصحيح بمعني أن هناك تواصلا بين المجامع الفقهية في الدول الإسلامية ببعضها من خلال المؤتمرات والندوات وبنشر ما توصل اليه كل مجمع من فتاوي في مختلف القضايا ويطلع عليها الآخرون وتتبادل البحوث في الموضوع المجتهد فيه للوصول إلي حكم مجمع عليه أو قريب من الإجماع عليه وبذلك يكون هناك اطمئنان إلي الأحكام الاجتهادية وتفادي الاختلاف مع العلم ان تكرار مناقشة القضية الواحدة في اكثر من مجمع ظاهرة صحية وليست سلبية لأن كل مجمع سيجتهد الأعضاء فيه للوصول الي حكم شرعي وهنا يكون التنوع والإثراء. * هل هناك ارتباط بين الاجتهاد واستمرار صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان؟ ** بالتأكيد فقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالي أن تبقي شريعة الإسلام - كما أراد الله - صالحة لكل زمان ومكان وملبية لحاجات الناس في كل العصر والأماكن ومن هناپپاقتضت حكمة الله تعالي أن يجعل منها ما هو من النصوص التي لا تحتمل إلا معني واحدا وتلك هي الثوابت القطعية في دلالتها فليس لأحد أن يحيد عنها أو يجتهد فيها وهي المحكمات التي يجب أن يتلقاها المؤمنون بالقبول والطاعة والامتثال لأمر الله ورسوله وأن يجعل منها ما يشتمل علي قواعد كلية يستنبط المجتهدون منها أحكام الحوادث الجزئية التي تحدث في حياة الناس ويجتهد فيها الفقهاء العالمون لمعرفة حكم الله فيما لم يرد فيه نص في الكتاب والسنة وفيما ورد فيه دليل ظني الدلالة تتفاوت فيه الأفهام والاجتهادات. أدعياء الاجتهاد * ولكننا نري البعض تجرأ علي الاجتهاد حتي مع النصوص القطعية بحجة إعمال العقل أو عدم ملائمة النص للعصر؟. ** هذه كارثة ومن هنا تبدأ الفتنة والبلبلة لأن النص القطعي في دلالته ليس موضعا للاجتهاد ولا يجوز لأحد أن يعرضه علي رأيه أو رأي غيره فذلك من التعدي علي حدود الله والخروج علي شرعه الثابت في هذا النص وذلك كتوزيع الله تعالي لميراث البنات حسب قرابة البنت من المتوفي وبالتالي لا يجوز التغيير فيها بحجة أن العصر اختلف ومكانة المرأة وأصبحت أكثر تحضرا من المرأة في البيئة البدوية التي نزل فيها القرآن أو أن التوزيع الإلهي فيه ظلم لها ولهذا فإن هذه النصوص لا تحتمل تأويلا ولا اجتهادا ويحرم حرمة قاطعة أن يخرج أحد عما أثبته هذا النص من حكم قطعي لهذا يقول الأصوليون ¢ لا اجتهاد مع النص¢. مجالات الاجتهاد * قد يسأل سائل عن مجالات الاجتهاد أو في أي شيء يكون الاجتهاد؟ ** أجمع العلماء في مختلف العصور أن الاجتهاد يكون في النصوص التي دلالتها ظنية سواء في القرآن الكريم أو السنة النبوية. * لكن بعض المنغلقين يرفضون أي اجتهاد في نصوص القرآن معتقدين أن هذا يمس بقدسيته في حين يري المنفلتون انه نص قابل للنقد وليس الاجتهاد فقط..فماذا تقول للفريقين؟ ** يري العلماء أن الاجتهاد في القرآن الكريم له ضوابط وليس عشوائيا بمعني أن يكون الاجتهاد في تعيين المراد في النص الظني الدلالة الذي يحتمل أكثر من معني وهنا يجتهد الفقهاء المؤهلون لتعيين المراد من هذا النص الذي يحتمل معنيين ويبذل كل منهم غاية جهده في الحصول علي ما يؤيد أو يذهب إليه من المعني وبالتالي فإن المجتهد لا يقول برأيه المجرد ولا يحكم بهواه في تحديد المراد ولكنه يقدم لرأيه الأدلة والقرائن واستعمالات اللغة وغير ذلك لترجيح ما يغلب علي ظنه أنه الحق وهو في هذا النوع من الاجتهاد مأجور صاحبه بل إنه إذا أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد كما يشترط أن يكون الاجتهاد في تحديد أحد المعنيين في لفظ يحتملهما معا لأنه من قبيل المشترك اللفظي الذي وضع في اللغة لأكثر من معني. * قد تبدو بعض المعاني في القرآن الكريم متعارضة للعامة فماذا يفعل المجتهد؟ ** عندما يبدو في الظاهر أن النصوص متعارضة فيكون عمل المجتهد وقتها أن يجمع بين النصين ويعمل بهما جميعا أو يبذل جهده لمعرفة المتقدم منهما ومعرفة سبب النزول وما يتصل بذلك من كل ما يعينه علي الفهم والاقتناع بصواب ما يصل إليه فهمه مستلهما عون الله مستعيذا به من أن يقول في دين الله بغير علم. التعصب مرفوض * لكننا نري بعض المجتهدين متعصبين لآرائهم رافضين لاجتهاد غيرهم. فما هو تفسيركم لتلك الظاهرة السلبية؟ ** يجب أن نعلم انه لا يتعصب لرأيه إلا جاهل أو مغرور متكبر وكل منهم لا يصلح شرعا أن يكون مجتهدا لأن المجتهد الحق كلما ازداد علما ازداد تواضعا وتسامحا وقبولا لاجتهاد الآخر طالما كان اجتهادا مبنيا علي أصول شرعية. ولم يحدث التعصب المذهبي إلا علي يد المقلدين في عصور متأخرة عن عصر الأئمة الأعلام مع أنهم نهوا عن ذلك وتم تحذيرهم منه حتي لا تكون أقوالهم مثار خلاف وفرقة بين المسلمين ومن المأثور عن كبار أئمة ومجتهدي المذاهب الفقهية: ¢ إذا صح الحديث فهو مذهبي¢ وقول آخرين: ¢ إذا رأيت رأيا وجاء الحديث مخالفا له فأضربوا برأيي عرض الحائط¢. *معني هذا انه ليس لقول المجتهدين وفهمهم صفة الإلزام المطلق؟ ** بالتأكيد لأن الإلزام المطلق الذي يجب علي المسلم أن لا يحيد عنه هو كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم.اما اجتهاد المجتهدين فهو ليس تشريعا للأحكام أو إنشاء لما ليس موجودا منها لكنه إظهار للحكم واستخراج له من النصوص عن طريق الفهم والمقارنة والقياس وتطبيق المبادئ العامة للشريعة الإسلامية وما تهدف إليه من رعاية المصالح ودرء المفاسد عن العباد. * ألا تري أن في حصر المجتهدين في تلك الجزئية فقط تحجيم لدورهم؟ ** إطلاقا بل العكس هو الصحيح لأننا نرفع الحرج عنهم ولا نحملهم ما يطيقون لأن الجميع يجب ان يعرف أن المجتهدين ليسوا سلطة تشريعية تنشئ الأحكام وتلزم الناس بها أو لها مطلق الحرية في ذلك بل هم محكومون في تفكيرهم واجتهادهم بما جاء في الكتاب والسنة وبقواعد الشريعة ومبادئها لا يخرجون عن شيء من ذلك ولا يعارضون نصا صريحا وليس لاجتهادهم صفة الإلزام إلا للمجتهد ومن رضي بقوله. التراجع في الفتوي * متي يجب أن يرجع المجتهد عن رأيه اذا ثبت انه علي غير الصواب؟ وهل هذا ينتقص من قدره وقيمته؟ ** كما يقال: ¢ الرجوع إلي الحق فضيلة ¢وبالتالي يجب علي المجتهد أن يرجع عن اجتهاده إذا رأي وجه الصواب في غيره أو أطلع علي نص يخالف رأيه لم يكن له به علم من قبل ولا ينتقص ذلك من قدره بل العكس هو الصحيح وإذا تأملنا مسيرة كبار الأئمة سنجد لهم بعض الاجتهادات التي رجعوا عنها لأن الحق أحق أن يتبعپپ * في ظل إدعاء كل من هب ودب انه مجتهد فنود بإيجاز أن نعرف من هو الذي يستحق أن نطلق عليه لقب ¢مجتهد¢؟ ** أتفق الفقهاء علي أن المجتهد هو الفقيه الذي يبذل أقصي وسعه لتحصيل حكم شرعي بطريق الاستنباط أما غير الفقيه فلا يكون مجتهدا مهما بذل من جهد في النظر في الأدلة الشرعية لأنه ليس مؤهلا لفهم الأدلة واستنباط الأحكام الشرعية منها وذلك من خلال الالمام بالقرآن حفظا وتفسيرا وكذلك بالسنة النبوية والإجماع والقياس. ازدهار الاجتهاد * ما هي أبرز الفترات التي شهدت ازدهار الاجتهاد في التاريخ الاسلامي ** شهدت الفترة من أول القرن الثاني الهجري إلي منتصف القرن الرابع الهجري العصر الذهبي للحركة الفقهية حيث ظهرت المذاهب ونشطت حركة الفقه الاجتهادي واتسع نطاقه بسبب اتساع الدولة الاسلامية وشمولها لكثير من الشعوب المختلفة الأجناس والعادات والمعاملات والمصالح فقد امتدت حدودها من الصين شرقا إلي بلاد الأندلس غربا. فكان لابد لها من قوانين يرجع إليها قضائها وولاتها وكذلك فتاوي يرجع إليها أفرادها ولا مصدر لهذه القوانين إلا مصادر الشريعة الإسلامية لذلك بذل العلماء جهودهم في الرجوع إلي هذه المصادر واستمدوا من نصوصها وروحها أحكام ما طرأ علي الدولة من مصالح وحاجات ولم يكن هذا النشاط العلمي في دائرة الفقه وحده بل كان في جميع النواحي الأدبية واللغوية والتاريخية وفي علوم الفلسفة والمنطق والرياضة والطبيعة ودراسة الديانات الأخري مما كان سببا في اتساع الحياة العقلية. * اذا كان هذا الازدهار الشامل في كل العلوم ومنها الاجتهاد فلماذا حدثت الانتكاسة؟ ** الاجتهاد جزء من حياة الأمة يتقدم بتقدمها ويتأخر بتأخرها ولهذا عندما حدث التراجع والضعف واطمأنت نفوس بعض فقهاء الشريعة إلي القول بغلق باب الاجتهاد ورضوا لأنفسهم الاقتصار علي البحث عن الأحكام في كتب المذاهب وأقوال أئمتها وجعلوا لهذه الأقوال قداسة يتحرجون بسببها عن مناقشة هذه الأقوال وذلك لقدم العهد بها وسمو المنزلة العلمية لقائليها مع أن كبار المجتهدين من الفقهاء حذروا من تقليدهم والتعصب لآرائهم لأنهم يصيبون ويخطئون وكانوا يكررون لتلاميذهم أن قولهم صواب يحتمل الخطأ وقول مخالفيهم خطأ يحتمل الصواب. إغلاق باب الاجتهاد * اختلف الفقهاء المعاصرون حول قضية إغلاق باب الاجتهاد من عدمه فهل انتم مع القائلين بأنه أغلق أم لا؟ ** الحق أننا إذا نظرنا الآن إلي الاجتهاد في أكمل معانيه وهو الاجتهاد التأصيلي الذي شاع في القرنين الثاني والثالث فإننا لا نشك أنه غير موجود منذ القرن الخامس الهجري إلي يومنا هذا ولكن ليس السبب إغلاق باب الاجتهاد ومنع فقهاء الشريعة الإسلامية من دخوله وإلا فنحن نتساءل من الذي أغلقه؟.پوأنا مع جمهور العلماء المحققين من المتقدمين والمتأخرين الذين يقولون بأن باب الاجتهاد لم يغلق فمثلا قال الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق ¢دعوي أن باب الاجتهاد مغلق لا تسمع إلا بدليل ينسخ الأدلة التي انفتح بها أولا وحيث لا يوجد دليل علي ذلك فلا تسمع هذه الدعوي غير أننا نقول إنه مع انفتاح باب الاجتهاد فإن أحدا لم يدخله ¢. والسبب في ذلك أن هذه الفترة التي انتشر فيها التقليد لم تكن خالية من الفقهاء الذين لا يسايرون هذا التيار بل وينددون بالتقليد والتعصب المذهبي مع التعبير بالجهل والقصور. * لكن المعارضون لقولكم يؤكدون انهپمع نهاية القرن الرابع الهجري توقف وجود المجتهدين الجدد فما قولكم؟ ** تفسير التراجع وليس الإغلاق في الاجتهاد انه بعد رحيل الأئمة المجتهدين عن الحياة تراجعت همم الذين من بعدهم عن الاجتهاد المطلق فلا يزال الاجتهاد متنازلا ومتراجعا ومتصاغرا قرنا بعد قرن لا تأتي طائفة من الفقهاء إلا والتقليد أغلب عليها من التي قبلها فمثلا إذا كان الفقهاء الذين أتوا بعد أئمة المذاهب مجتهدين في الفروع أو مجتهدين مقيدين بأصول المذهب الذي ينتمون إليه فإنهم كانوا مستقلين بوضع الأحكام كما يظهر من تتبع الخلافات داخل المذهب فهناك اختلاف كبير بين أتباع المذهب الواحد وبينهم وبين أتباع المذاهب الأخري ولكن الذين جاءوا من بعدهم إلي أواخر القرن الخامس كان همهم في الفقه إحصاء الأقوال وتدقيق مجال اتفاقها واختلافها والتخريج عليها فيما لم تشمله من المسائل ويسمي هؤلاء ¢ أهل التطبيق ¢ فكانوا مقلدين تقليدا تاما لا مجال للشك فيه ثم جاء بعدهم علماء في القرنين السادس والسابع فوجدوا أقوالا مدونة كثيرة مختلفة بعضها عن بعض فأقبلوا عليها بالفحص والترجيح والاختيار وهؤلاء هم الذين سموا ¢ مجتهدي الفتيا ¢ فكانوا لا يحدثون قولا جديدا ولو تخريجا ولكنهم يعللون ويناقشون وينصرون قولا علي آخر لقوة سنده أو دليله أو ملاءمته.