إذا هانت المؤسسة الدينية ظهر التطرف وإذا ظهر التطرف حاربته الدولة بإظهار التيار المتحرر من فضائل الدين وثوابته.. ينتهي الأمر بخلخلة جدار المجتمع ويوشك علي الانهيار. لو أهين الأزهر وتقلص دوره لهاجت الأمواج العاتية في المجتمع.. فلا تصل سفينة المجتمع لشاطيء الأمان الهادئ ويظل الصراع يأكل في جسد المجتمع حتي يفيق ويأخذ الأزهر مكانته وهيبته. تعود بدايات التصدع في جسد الأمة الإسلامية إلي عهد بحر العلوم والحكيم بأمور الدين والدنيا سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حينما اتهم بانحرافه عن احكام الاسلام وابتعاده عنها حينما اتهمته طائفة بأنه ابتعد عن حكم الله ورضي بحكم البشر في عملية التحكيم مع معاوية بن أبي سفيان وانصياعه لما أعلنه المحكمان عمرو بن العاص وأبي موسي الأشعري واتهم بالكفر وكانت أولي بدايات التهوين من علماء وحكماء الاسلام وراحت أركان المجتمع الآمن الذي أسسه رسول الله صلي الله عليه وسلم تتصدع وانقسم المجتمع طوائف خوارج كفروا الجميع وشيعة تشيعت لسيدنا علي طائفة من أصحاب المصالح والأهواء وفئة تحللت من أخلاق الاسلام السمحة وأيدت معاوية. وراحت الأمواج تتقاذف السفينة الهادئة في حروب طاحنة بين هذه التيارات وكان من أفدح ما جنته هذه الحالة استشهاد سيدنا علي داخل المسجد أثناء صلاة الفجر وشربت أراضي الدولة الاسلامية الكثير من دماء أبنائها الذين راحوا ضحية هذه الصراعات. هدوء مؤقت هدأت الصراعات داخل الدولة الاسلامية في عهد الدولة الأموية بفضل اعطاء أهل العلم والفتوي مكانتهم فاختفت إلي حد ما ظاهرة الاستقطاب وظهور التيارات المتطرفة في الفكر والمجون ولكن كان ممنوعا في ذلك الوقت اقتراب علماء الاسلام من كرسي الأمويين أو الحديث عن آل البيت بصورة المديح كان هذا العامل حظر المديح أو الثناء لآل البيت عاملا هاما لتجميع آل العباس لرجالهم وتجييش جيوشهم والانقضاض علي دولة الأمويين التي استمرت ما يقرب من مائة سنة "41 132ه". عثمنة مصر إذا انتقلنا إلي عصر الدولة العثمانية الذي امتد قرابة ثلاثة قرون فقد كان للأزهر دوره ومكانته والاهتمام به كان كبيرا ولذلك مضي يؤدي رسالته باللغة العربية في الحقلين الديني والتعليمي وبلغ أثره في الحياة المصرية من القوة والعمق والذيوع ما جعله يحافظ علي الطابع العربي لمصر طوال فترة الحكم العثماني فقد فشلت الدولة العثمانية الحاكمة أن تعثمن الشعب المصري سواء في لغتها وعادتها وفكرها حيث وقف الأزهر بما له من قوة ومكانة ضد أي عملية عثمنة للمجتمع المصري وهي ما يتعارف عليها الآن عملية تعريب المجتمع المصري في الفكر والتحرر وغيره وهذا يعود والحق يقال إلي ان الدولة العثمانية لم تقترب من قيمة ومكانة علماء الأزهر وتركت لهم المجال الديني والشعبي. ويرجع المؤرخ العلامة د. عبدالعزيز الشناوي أسباب نجاح الأزهر في الحفاظ علي الطابع العربي لمصر وعدم خلخلة المجتمع من أي استقطاب إلي عدة أسباب أهمها: * عدم تدخل العثمانيين في شئون الأزهر فلم يفرضوا اللغة التركية في دراسات الأزهر ولم يدخلوا الدراسات التركية ضمن مناهج الأزهر ويذكر لها انها لم تقحم الحضارة التركية والفكر التركي ولذلك عاش الأزهر في فترة الوجود العثماني كالواحة الاسلامية والعربية يفيء اليها المتعطشون إلي المعرفة يتلقون الدراسات الاسلامية والعربية. هذا الأمر أصاب نابليون بالعجب أشد العجب حينما قال في مذكراته انه لما جاء إلي مصر قائدا عاما للحملة الفرنسية وجد المصريين لا يتكلمون اللغة التركية وانهم يجهلونها وان هذه اللغة كانت غريبة عليهم كما كانت اللغة الفرنسية غريبة عليهم سواء بسواء. * أما العامل الثاني الذي ذكره د. عبدالعزيز الشناوي الاستقلال المالي للأزهر. * والمركز الانفرادي للأزهر لم يوجد من ينافسه فعاش الأزهر كما يقول جورجي زيدان في جو صحي خال من المنافسة العلمية المشروعة وغير المشروعة التي تعرض لها من قبل ومن بعد. * التحام الأزهر بالجماهير حيث كان الأزهر كما يقول المؤرخ العظيم الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" نظر الشعب لعلماء الأزهر ابان الحكم العثماني علي انهم الملاذ الأخير الذي يفزع اليهم اذا ضاقت بهم السبل. * قيام الزعامة الشعبية في علماء الأزهر حيث خرج الأزهر ابان الحكم العثماني عن النطاق العلمي وشارك في الحياة السياسية مشاركة ايجابية. وظلت الحياة الداخلية فترة الدولة العثمانية آمنة. موحدة لا تخلو من أي استقطاب وتكوين طوائف علي اساس ديني أو طوائف تنشد التفريط اللهم إلا من بضع فلاسفة أو بعض الخروجات عن الدولة سياسيا وبفضل هذه المكانة لعلماء الاسلام ظلت الدولة العثمانية قوية تنطلق في فتوحات واسعة طالت قلب أوروبا. بداية الإهانة يعود عهد الاستهانة بعلماء الأزهر والانقضاض علي مكانة العلماء إلي عهد محمد علي الذي أدرك مدي قوة هذه المؤسسة وتأثيرها علي المجتمع المصري بل والعالم الاسلامي كله خاصة بعد أن التف الشعب حولهم وقادوا الثورات ضد المستعمر الفرنسي وطردوه والوالي خورشيد باشا وأخرجوه وأتوا بمحمد علي نفسه. وهناك واقعة يشير اليها المؤرخون باعتبارها بداية الاستهانة بالمؤسسة الأزهرية وتقليص دورها وللأسف كانت الاستهانة بالأزهر مقدمة من كبار العلماء إلي محمد علي. فقد عقد علماء الأزهر اجتماعا في دار عمر مكرم في 14 يوليو 1806 وناقشوا عزم الاستانة علي نقل محمد علي من مصر وتنصيب والي جديد هو موسي باشا واتضح لهم انه لم تكن لديهم الجرأة في توجيه الأمة وجهة قانونية سليمة بل ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أداة طبيعية في يد محمد علي يوجههم حيث شاء لتحقيق مصالحه الشخصية فقط وبعد هذا الاجتماع ركب علماء الأزهر وعمر مكرم بغالهم وذهبوا إلي قصر محمد علي الذي استهل الاجتماع بسؤالهم عما اذا كانت قد وصلتهم الرسائل التي تناشدهم تطبيق أوامر الاستانة فأجابوه بالإيجاب فسألهم عن رأيهم فرد الشيخ الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر ردا مهينا ولزملائه وللأزهر بل أرخ بهذا الرد بداية الاستهانة بوضع وقيمة الأزهر حيث قال كما نقل الجبرتي "ليس لنا رأي.. والرأي ما تراه ونحن الجميع علي رأيك"!! كانت هذه الجلسة وهذه المقولة هي بداية ضياع مساحة كبيرة من قيمة ومكانة الأزهر وعلي أثرها حدث أول احتكاك بين محمد علي وعلماء الأزهر حيث جردهم أول الأمر من بعض الامتيازات المالية. وقضي محمد علي علي الصف الأول من علماء الأزهر بعد أن همش دور الأزهر ولكن الصف الثاني بلغ هذا التهميش وانخرط كما يقول الجبرتي في الأمور الدينية والحظوظ النفساوية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في المآتم والمسارعة في الولائم في الأفراح والمآتم ثم يتكالبون علي الأسمطة كالبهائم فتراهم في كل دعوة ذاهبين وعلي "الخوانات" ما يؤكل عليه راكعين وللكباب والمحمرات خاطفين وعلي ما وجب عليهم من النصح تاركين هذا الامتهان الذي ألحقه محمد علي بالأزهر جعل ابنه ابراهيم يقسو عليهم ويمتهن كرامتهم فقد حدث ان ذهب العلماء في ديسمبر عام 1819 إلي ابراهيم باشا لتهنئته بسلامة العودة من الحجاز ولما وصل العلماء للديوان أدخلوهم عليه إلا انه لم يقم لهم ولم يرد عليهم السلام. تطرف وعلمانية هذه الحوادث تعطي ايحاء بتقليص دور الأزهر وفتح الباب إلي رجال ومناهج أخري ينظر اليها المجتمع المصري بإكبار وتبعية وبدأت عمليات التقريب حيث أوفد محمد علي البعثات التعليمية والعسكرية لنقل العلوم الغربية والتقنيات العسكرية الحديث وانشاء مدارس أخري بعيدة عن الأزهر ولذلك أنشأ محمد علي مدرسة الهندسة 1816 وفي عام 1834 أنشأ مدرسة المهندسخانة في بولاق ومدرسة الطب في أبوزعبل ومدرسة الزراعة في شبرا الخيمة عام 1833 والطب البيطري في رشيد ومدرسة الصيدلة ومدرسة الكيمياء والمعادن والألسن والمحاسبة بالسيدة زينب ومدرسة المارستان ومدرسة الإدارة الملكية ومدرسة العمليات ومدرسة البيادة "المشاة" ومدرسة الموسيقي العسكرية والبحرية والمدفعية والسواري. كل هذه المدارس التي ظهرت كمنافسة للأزهر وبعد تقوع الأزهر بفعل فاعل حملت هي مشاعر التنوير ووضعت تاج الثقافة فوق خريجي هذه المدارس بعد أن خلعته من فوق رءوس الأزاهرة ولذلك بدأت تظهر جلياً حملات التغريب ونقل الفكر الغربي بحلوه ومره فبدأت تظهر الدعوة إلي الكتابة بالعامية واللغات الشعوبية لضرب أول معين للدعوة الاسلامية وهو اللغة العربية وتزعم هذا الاتجاه جورجي زيدان وغيرهم حتي بدأ الكتاب والأدباء يروجون لفكر المستشرفين الغرب في هجومهم علي الاسلام فقد فعل الشيخ علي عبدالرازق في كتابه عن الخلافة الاسلامية والذي ألغي فيها الخلافة من القاموس الاسلامي وفعلها د. طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي" وكذلك قاسم أمين في كتابه "تحرير المرأة" وابراز هذا الاتجاه الذي استغل الاستهانة بالأزهر بدأت تظهر طوائف أخري من المفكرين والأدباء ليواجهوا هذه الهجمات الغربية علي الاسلام ويحملها أبناء الاسلام وقف العقاد مدافعا مقتدا هذه الدعاوي في العديد من كتبه القيمة وكذلك مصطفي صادق الرافعي والمنفلوطي وعلي أحمد باكثير وغيرهم إلا انه لما استشعر الشارع الواقع الحقيقي وهو تحجيم دور الأزهر في فترة حكم الأسرة العلوية وزيادة النعرة التغريبية انطلق الشباب ليواجه ذلك وكون الجماعات الاسلامية لتكوين جبل محض من هذه الأفكار مثل جماعة الاخوان والجمعية الشرعية وغيرها من الجمعيات الأهلية فضلا عن الجمعيات السرية. إهانة من الثورة ومع ثورة 23 يوليو واتجاه الثورة للتهوين من دور الأزهر الذي تعافي قبل الثورة في مواجهة للتغريب حيث خرجت التصريحات والسياسات التي تهون وتجرح شعور الأزهر فقيل عنهم انهم "يفتون في مقابل فرخة" وتم تحوير كلمة فقيه إلي "فقي" لتوحي ان العلماء مجموعة فقهاء يتسولون عند المقابر. التقط التيار التغريبي هذه النعرة السياسية في ذلك الوقت وانطلقوا يدعون إلي التخلي كلية عن الثوابت الاسلامية والاخلاقية وساعدهم في ذلك ظهور وسائل الاعلام المرئية والمسموعة الحديثة حيث ولدت هذه الوسائل في رحمهم وظهرت الجماعات اليسارية الملحدة والعلمانية التي تري ان الدين في المساجد فقط واحتل هذا الاتجاه وسائل الاعلام والثقافة في مصر مع الضغوط علي الأزهر. وهنا بدأ الشباب المسلم في تطوير دفاعه عن الاسلام حيث اتجه إلي تكوين الجماعات التكفيرية والجهادية لمواجهة هذا الفكر بالقوة وهذا هو عامل الخطورة فلو اقصي الأزهر بفكره الوسطي فسوف يظهر الفكر المتطرف الذي يري انه الكفيل بالدفاع عن الاسلام فظهرت أول ما ظهرت فكرة التكفير في السجون بعد عام 1965 وتنامت في السجن وخرج شكري مصطفي ليبشر بها ويواجه الدولة العلمانية الكافرة وللأسف كانت أكثر ثمار جهاده هو ومن معه مقتل عالم من كبار علماء الأزهر وهو الشيخ الذهبي ثم انتقل هذا الفكر إلي صالح سرية الذي كون خلية الفنية العسكرية للقضاء علي الحكم العلماني إلا ان الدولة تصدت له وقضت عليه ومع تنامي الصحوة الاسلامية وتحرك دور الأزهر ظهرت جماعات نصبت نفسها للدفاع الفكري والعسكري عن الاسلام أمثال الجماعة الاسلامية والجهاد.. ووصل بهم الأمر إلي تكفير المجتمع والأزهر واختتموا أعمالهم بقتل الرئيس محمد أنور السادات في السادس من أكتوبر .1981 وظلت الدولة في هذه الفترات حتي اليوم تعلي من شأن الأزهر حينا وتحط منه حينا آخر رئيس الجمهورية يحضر حفلات الأزهر وفي نفس الوقت تخرج وسائل اعلامه لتنال من الأزهر لدفاعه عن الاسلام فتركت الدولة توفيق الحكيم في "حوار مع الله" حتي قضي عليه الشيخ الشعراوي وتترك يوسف شاهين في فيلمه المهاجر فيقضي عليه القضاء المصري بوقف الفيلم بفضل تقرير الأزهر وتخرج وليمة لأعشاب البحر وينتهي كاتبها ومروجوها وقفات عديدة تتزيد بتزيد مواقف الدولة مع الأزهر. وخلاصة هذه القراءة كلما حصل الأزهر علي حقوقه ومكانته كلما توقف أي اتجاه متطرف أو منفلت وكلما حافظ المجتمع علي تماسكه وقوة بنيانه وكلما انتقص من دور الأزهر كلما ظهر التطرف والتغريب وتصدع الجدران.