كان الزعيم الشاب المناضل مصطفي كامل محباً لمصر. عاشقاً لها حتي النخاع. نادي بأوساط البلاد وفي أوروبا بالحرية والاستقلال لمصر. حارب الانجليز بكل ما أوتي من فصاحة وشجاعة. التف حوله جماهير الأمة المصرية. وفي سنة 1900 أنشأ مجلة اللواء لتكون منبراً لدعاة الاستقلال.. تكون الحزب الوطني ليضم صفوة المثقفين من أبناء مصر. وليكون أول حزب ينشأ في مطلع القرن العشرين.. وعلي اثر ذلك نشأ حزب الأمة ليضم كبار ملاك الأراضي الزراعية. ويتربع علي رأسه أحمد لطفي السيد. ومن بعده حزب الإصلاح الذي أنشأه الخديوي عباس حلمي الثاني. لم تظهر ملامح النشاط الحزبي كما يعرفه علم السياسة. ولم يكن لأي من هذه الأحزاب كبير أثر أو قوة يكون لها وجودها في سياسة البلاد. سوي المناداة بالاستقلال. علي اثر قيام ثورة 1919 بقيادة الزعيم الشعبي سعد زغلول الذي حظي بشعبية جارفة وحب أسطوري من الشعب المصري. وهو ما لم يحظ به أي زعيم آخر وعلي اثر ذلك تكون حزب الوفد بقيادة زعيم الأمة إلا أن برنامجه كان عماده هو المناداة بالاستقلال وطرد الانجليز. وهم من كرهوا ذلك الرجل سعد زغلول وحاربوه محاربة عنيفة: تارة بمنع المناداة باسمه والهتاف له فيتحايل الناس علي ذلك بطرق تخال علي المستعمر. ومنها المناداة علي البلح "يا مسكر يا بلح يا حبيبنا يا زغلول" وذهب العامة في الأرياف إلي إشاعة خرافات تنم عن الحب الزائد والعشق الجارف مثل القول: الجاموسة نطقت في الغيط يحيا سعد. وورق الشجر مكتوب عليه يحيا سعد. وهكذا وحين عاد من أوروبا ورفاقه تزاحم الناس واحتشدوا ليستقبلوه محيين ومضحين بوقتهم وأموالهم. لإشباع رغبتهم في النظر اليه. وتارة كان الانجليز يحاولون إيغار صدر الملك فؤاد عن طريق بعض خصومه في القصر بزعم انه لا يكن للملك احترام أو تقدير. إلا أن الشعب القي بكل ذلك خلف ظهره ليلتف حول زعيمه المحبوب ومن بعده زعيم الأمة من عام 1927 حتي عام 1952 مصطفي النحاس. تطورت الحياة السياسية في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين بظهور أحزاب عدة سواء كانت منشقة عن حزب الوفد مثل الأحرار السعديين أو الكتلة الوفدية أو بأحزاب جديدة مثل مصر الفتاة. كان القاسم المشترك بينها جميعاً هو المناداة باستقلال البلاد وطرد الانجليز وخلال هذه الفترة تجري الانتخابات ويشكل الحكومة الحزب الفائز بالأغلبية وذلك وفقاً لدستور 1923. وجزت محاولات عدة لتخفيف تواجد الانجليز وسيطرتهم علي البلاد منها تصريح 28 فبراير 1922 أو مفاوضات 1936 إلا أن الاستقلال التام لم يتحقق لأسباب منها: رغبة الانجليز في أن تتخلي مصر عن السودان وتنفصل عنه وقال بعض السياسيين ان السودان كان الصخرة التي تتحطم عليها مفاوضات الجلاء عن مصر مع الانجليز بقيام ثورة يوليو 1952 انتهت الحياة الحزبية في مصر بل سقطت تماما وأصبح لا وجود لها علي أرض الواقع. وكان لابد من ملء الفراغ الذي حدث في الحياة السياسية المصرية فأنشأت الثورة هيئة التحرير لتكون المعبر عن أفكار وأهداف الثورة. ثم تطورت إلي الاتحاد القومي الذي يمثل نظام الحزب الواحد. ويشكل عقل المصريين ويوجههم ويملأ فراغ حياتهم السياسية. وبفشل الوحدة مع سوريا نشأ الاتحاد الاشتراكي ليكون امتداداً لنظام الحزب الواحد. وكانت تجري الانتخابات علي أساس أن الحق في الترشيح يكون لكل من ينتمي للاتحاد الاشتراكي أو من لم ينتم له حتي كانت هزيمة 1967 فكان من بين ما أطلقوه من أسباب الهزيمة: تواجد من أطلق عليهم الثورة المضادة داخل مجلس الأمة. فتفتق ذهن القائمين علي الأمر ومن يلوذ بهم إلي إنشاء التنظيم الطليعي داخل الاتحاد الاشتراكي لإجراء انتخابات عضوية مجلس الأمة خالية ممن لم ينتم إلي هذا التنظيم أو إلي أعضاء الاتحاد الاشتراكي. ظل الحال كذلك حتي أنشأ الرئيس محمد أنور السادات ما سمي بالمنابر إلا انها تنشأ من داخل الاتحاد الاشتراكي وذلك في سنة .1974 تحولت إلي أحزاب سياسية في سنة 1976. وكان الحزب الوحيد الذي نشأ من خارج الاتحاد الاشتراكي هو حزب الوفد الجديد بصدور حكم قضائي. أجريت الانتخابات علي ضوء ذلك. إلا أن الحزب الوطني أطلق عليه حزب الحكومة ولم يقل أحد انه حزب الأغلبية علي خلاف ما يجب أن يكون في دولة تتعدد فيها الأحزاب. كانت الحكومة تتشكل جميعها من أعضاء الحزب الوطني. واستمرت الحياة السياسية علي هذا النحو.. تجري الانتخابات فيفوز الحزب الوطني بالأغلبية ويقوم بتشكيل الحكومة ورغم ذلك لم يطلق عليه أبداً حزب الأغلبية انما أطلق عليه بين الناس "حزب الحكومة" اقتناعاً منهم ان الحكومة هي التي تسعي بطريق ما إلي مرور الانتخابات بالصورة التي يريدونها. حتي يأتي إلي مجلس الشعب "البرلمان" من ينعم برضا السلطات عليه لانصياعه تحت رايتها ويمرر رضاها بلا توقف ومناقشة. ورغم القرارات التي أصدرتها لجنة شئون الأحزاب بمجلس الشوري أو الأحكام التي صدرت بإنشاء أحزاب. إلا أن الحكومة كانت هي صاحبة الكلمة العليا في مرور الأفراد إلي بوابة البرلمان بغرفتيه. ومن ثم لم تنشأ معارضة حقيقية في البلاد يمكن أن يعتمد عليها في مراقبة الأداء الحكومي وتوجيهه. كما لم يمكن أن نتحدث عن حزب أغلبية تجاوره أحزاب معارضة من شأنها أن تفصح عن نظام ديمقراطي كما نراه في النظم الغربية. قامت ثورة 25 يناير. وما انتهت إليها من فوضي الأحزاب التي لا رؤية لها يمكن أن تناقشها الجماهير. وتؤمن بها أو تعارضها. ولم تخرج عن كونها تجمعات لمرفهي الحديث ومدعي الثقافة دون برامج تنير العقول وتشعل الأفكار. وتسعي إلي وضع خطط حقيقية للنهوض بمستوي الوطن والمواطن ولرفعتهما معاً وانما اقتصرت علي تواجد أصحاب ثقافة مضغ الكلام والتشدق بتعبيرات ضخمة ولكنها فارغة من مضمون مفيد أو هدف محدد يتحدثون عن الكادحين بلا تخطيط. وبلا برامج تصلح للتطبيق. يتنقلون من فضائية إلي أخري يتشدقون بالألفاظ الرنانة. ويملأون الجو هتافاً بحياة النفاق ومعسول الكلام دون أن يتقي الله أحد منهم في مصر وشعبها. وبلا هدف سوي ألا يفوتهم نصيب من كعكة يريدون اقتسامها بلا شرف أو ضمير حتي وصلنا إلي الحالة التي نحن عليها الآن.. خلو البلاد من حزب تحدد مبادئه القابلة للتطبيق خالية من الوهم والمسكنات. تلتف حوله الجماهير ساعية إلي التكاتف والترابط بعيداً عن المهاترات. والتشرذم. والانقسامات الخطيرة التي تهيئ الجو لأعداء البلاد والمتربصين بها للانقضاض عليها. نحن في حاجة إلي تأليف حزب من طراز الأحزاب القوية التي نسمع عنها في بلاد الغرب الديمقراطي يعمل علي بناء الوطن تراقبه معارضة وطنية مخلصة لا هم لها إلا النجاح في نهضة هذا الوطن بعيدا عن العنتريات التي ما بنت عشاً ولا أقامت جداراً. إن مصر تعاني منشدي المدائح وماضغي الكلام الأجوف متناسين ان الوقت: وقت الرجولة والصمود. وتحمل الأعباء. ونهوض حزب يجمع الأغلبية يتنافس علي المشاركة في جمع الأمة ودفعها إلي الأمام.. حزب يسمح بنشوء أحزاب أخري قوية قد يكون أحدها في يوم ما حزب الأغلبية. ويتبادل المواقع مع الأحزاب الأخري في بناء الوطن. ولا هم له إلا وحدة مصر وتقويتها والنهوض بها بكل ما أوتي هذا الشعب من قوة وعزم. واضعين نصب أعيننا قول الشاعر: إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام وقول الشاعر: إذا غامرت في شرف مروم فطعم الموت في أمر حقير فلا تقنع بما دون النجوم كطعم الموت في أمر عظيم