تؤكد كتب التاريخ الإسلامي أنَّ المسلمين لم يكونوا يعملون بالتاريخ السنوي في أوَّل الأمر حتَّي كانت خلافة عمر بن الخطاب فإنَّه جمع الناس فاستشارهم. فقال بعضهم: أرِّخوا كما تؤرِّخ الفرس بملوكها. كلَّما هلك ملك أرَّخوا بولاية من بعده. فكرِه الصحابة هذا الرأي. وقال آخرون: أرِّخوا بتاريخ الروم. فكرهوا ذلك أيضًا. فقال بعضهم: أرِّخوا من مولد النبيِّ . وقال آخرون: بل من مبعثه. وقال آخرون: بل من مهاجره. فقال عمر وكان ملهمًا: الهجرة فرَّقت بين الحقِّ والباطل. فأرِّخوا بها.... واليوم ونحن نستقبل العام 1435 للهجرة المباركة لابد أن يعي كل مسلم أن تحقيق درس الهجرة الصادقة كفيلى بتحقيق الوحدة الإسلامية المنشودة تؤدي إلي تكامل إسلامي وتعاون اقتصادي. وترتفع من الاستضعاف إلي إرادة قوية في بناء حضاري متكامل. تربط الإنسانية برب السماء. فتختفي بشاعة الحروب والصراعات. وجرائم الاقتتال والعنف. وفظاظة النهب والبلطجة وتنقلنا من التشرذم والتفرق. إلي الأمة الواحدة... عقيدتي ترصد من خلال التحقيق التالي أراء العلماء في كيفية تحويل احتفالنا بذكري الهجرة إلي بداية لتنفيذ تعاليم ديننا بما يحقق النهضة والرخاء والتقدم للأمة كلها. في البداية يؤكد الشيخ محمود عاشور - وكيل الأزهر الأسبق. أن الهجرة النبوية تعد مدرسة تتجدد كل عامپ ليتعلم فيها المسلمون دروساً تعينهم علي مواجهة تطورات الزمن واختلاف حاجياته ويستلهمون منها الدروس والعبر علي مر العصور.ولعل في مقدمة هذه الدروس المستفادة من الهجرة تعلم المسلمين كيفية التضحية بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الإسلام دينا وأمة .ولذلك كان تشريع مبدأ الهجرة في الإسلام من أجل الاستمساك بالدين وإقامة دعائمه وجعلها أساس ومصدر قوة المسلمين .ولتحقق ذلك اليوم وبث الروح الإسلامية المطلوبة في نفوس المسلمين يجب علي الدعاة والعلماء أن يجندوا إمكانياتهم وعلمهم لنصرة الإسلام وإحياء مبادئه وتعاليمه في نفوس المسلمين حتي تعود لهم عزتهم وكرامتهم المفقودة ويشير الشيخ عاشور .إلي أن الظروف الحالية التي تمر بها الأمة الإسلامية تقتضي ضرورة استشعار المسلمين للقوة المعنوية من الهجرة النبوية بكل أحداثها وأن تكون العقيدة الصحيحة وإقامة النظام الأخلاقي والاجتماعي المنطلق من روح الإسلام وتعاليمه هو هم المسلمين الأول وليس السعي خلف أمور مادية لاتسمن ولا تغني من جوع .موضحاً أن الأخذ بالأسباب أهم أسباب قوة المسلمين وفي ذلك يعلمنا النبي صلي الله عليه وسلم في هجرته إلي المدينة حرصه علي الأخذ بأسباب النصر والوصول إلي الهدف وهو المدينة ذلك بإعداد العدة والخطة والبدائل. ويا ليت المسلمين اليوم يقفون علي قانون السببية في الهجرة النبوية التي لم يترك النبي صلي الله عليه وسلم فيها سبباً من الأسباب إلا أخذ به وذلك ليعلم أمته علي مر العصور أنه وهو الرسول الخاتم المنصور من ربه يأخذ بالأسباب حتي يتحقق له النصر.وهو ما يجب أن يتعلمه المسلمون اليوم ويعملون من خلاله حتي يكون لديهم القدرة علي مواجهات التحديات في المعركة الحضارية الحالية . نقطة انطلاق يؤكد الدكتور زكي عثمان . رئيس الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر أن الهجرة النبوية مثلت محور الارتكاز ونقطة الانطلاق الإستراتيجية لبناء الحضارة الإسلامية وبناء الدولة . وقد كان حادث الهجرة من أهم الأحداث في تاريخ البشرية عامة وتاريخ الأمة الإسلامية خاصة ولا أدل علي ذلك من أن المؤرخين لما أرادوا التأريخ للفتوحات الإسلامية بدأواپبالهجرة لأنها أعظم وأكبر فتح في الإسلام .فبها كان الانطلاق بالدعوة الإسلامية إلي مشارق الأرض ومغاربها .بعد أن كان الإسلام محاصراً في مكة ولكن بعد الانتقال للمدينة بالهجرة بدأ التخطيط في كيفية توصيل رسالة الإسلام للبشرية جمعاء وبناء القوة الإسلامية . ولذلك فإن ما يحدث اليوم علي الساحة الإسلامية من ضعف وتشرذم للمسلمين بسبب انهزام المسلمين وليس بسبب ضعف الإسلام القوي بذاته. وأشار الي أن النبي صلي الله عليه وسلم اخبرنا أن الإسلام هو الدين الظاهر الذي لا يصاب أبداً بضعف ولا انهزام وفي ذلك قال تعالي : ¢هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ¢. فقد حكم الله عز وجل أن هذا الدين قائم للأبد قياماً وقيمة . وفي الآية القرآنية الخاصة بعدد الشهور الهجرية وهي قوله تعالي ¢إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين¢ أمر ونهي من الله عز وجل لأمة الإسلام . فأما النهي فقوله تعالي¢ فلا تظلموا فيهن أنفسكم¢ومعني ذلك ضرورة إقرار وسواد العدل بين المسلمين . ثم جاء الأمر في قوله تعالي ¢وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة¢ والأمة في حاجة متجددة لتذكر هذا الأمر الإلهي دائماً وأن قتال المسلمين يكون لرد العدوان والدفاع عن النفس وتؤكد الآية حقيقة دائمة وتاريخية وأيضاً مستمرة وهي قتال أعداء الإسلام والمسلمين ودائماً ما تكون البداية منهم لذلك يكون قتال المسلمين دفاعاً عن النفس والدين دون اعتداء علي شخص وخير دليل علي ذلك ما حدث ويحدث دائماً في العالم الإسلامي وخاصة في السنوات الأخيرة وآخر هذه الاعتداءات ما تقوم به الآلة العسكريةپ الوحشية الإسرائيلية في غزة والاعتداء علي الشعب الفلسطيني الأعزل. إعادة النظر يوضح الدكتور إسماعيل عبد الرحمن أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر أنه عندپ تأمل التاريخ الانساني نجد أن ما يحدث اليوم من اعتداءات علي المسلمين في كل أنحاء العالم الإسلامي ليس غريباً فدائماً أعداء الإسلام لديهم إصرار علي قتال المسلمين وفي ذلك قال تعالي ¢ولا يزالون يقاتلونكم حتي يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ¢ ولكن انهزام الأمة اليوم دليل علي انكسار إرادتها رغم انتصار دينها الإسلامي فعلي الرغم من محاولة محاصرة الإسلام ديناً وأمة من الشرق والغرب إلا أنه يومياً يعتنق الإسلام المئات في العالم وفي ذلك دليل متجدد علي انتصار هذا الدين الحنيف. ولذلك يجب أن ينظر المسلمون لأنفسهم وليقرأوا قول الله عز وجل¢ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا هل هو من عند أنفسكم إن الله علي كل شيء قدير¢و هذه الآية تدل علي أن ما يحدث اليوم في كل بقاع العالم الإسلامي دليل علي انهزام المسلمين وليس الإسلام . فيجب أن يعيد المسلمون النظر إلي أنفسهم وترتيب أولوياتهم فالعدو ليس له مرجعية دينية ولا يجب الرضوخ لهذه الهزيمة الحضارية الحاليةپوالعودة إلي دين الله حتي ينصر المولي أمة الإسلام ويعيدها إلي سابق عهدها. ويضيف: معاني الهجرة الكثيرة يمكن أن يأخذ بها المسلمون في زماننا هذا. بل إن الأخذ بها ضرورة حياتية. لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلي آخر فحسب. ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلي حال. إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلي القوة ومن حالة القلة إلي الكثرة. ومن حالة التفرقة إلي الوحدة. ومن حالة الجمود إلي الحركة والهجرة عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية المعذبة إلي شاطئ الأمان والاطمئنان . وأشار إلي أن الهجرة ثورة عقائدية. بكل ما تحمله هذه العبارة من معان إيجابية. لأنها غيرت أحوال المسلمين تغييراً جذرياً. فنقلتهم من الضعف إلي القوة. ومن القلة إلي الكثرة. ومن الانحصار إلي الانتشار. ومن الاندحار إلي الانتصار. ولم تقف آثارها عند هذا الحد بل كانت ثورة علي كل ما يخالف شريعة السماء وفطرة الإنسان السليمة. فشملت آثارها النواحي العقائدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. الهجرة من الضعف تطالب الدكتورة عفاف النجار- العميد الأسبق لكلية الدراسات الإسلامية بنات بجامعة الأزهر - المسلمين بالعمل علي الاستفادة من ذكري الهجرة لتطبيق دروسها علي الواقع الحالي الذي يعيشونه اليوم وتغيير ذلك الواقع للأفضل علي اعتبار أن هجرة الرسول كانت المحك الأساسي في عملية بناء الحضارة الإسلامية الرشيدة. وأولها التوكل علي الله وإتباع أوامر وقد خرج النبي صلي الله عليه وسلم من داره مهاجراً ظاهراً وليس مستخفياً كما يظن كثير من الناس خطأ فهجرة الرسول الكريم لم تكن سرية بدليل أن قريشا كانوا يعلمون بموعد خرجه وإعدادهم أربعين شاباً من خيرة شبابهم للعدوان عليه وقتله . ولكن رسول الإنسانية الذي منحه الله عينان أحدهما يري بها عالم الغيب والأخري يري بها علم الشهادة لذلك رأي قبل خروجه من داره السدين الذي جعلهما المولي عز وجل بين شباب قريش حتي لا يروه صلي الله عليه وسلم قال تعالي ¢وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ¢. والدرس الثاني حسن الظن بالله وقد ظهر ذلك جلياً في موقف الغار حينما قال أبو بكر¢يا رسول الله لو نظر أحدهما تحت قدميه لرآنا¢ وكان رد الرسول الكريم عليه لطمأنته ¢لا تحزن إن الله معنا¢. وبعد وصول الرسول صلي الله عليه وسلم للمدينة مقر دولة الإسلام يشرع في بناء المسجد الذي سمي مسجداً باسم أعظم ركن من أركان الصلاة وهو ركن السجود. وتضيف د. النجار : إن أحداث الهجرة وفلسفتها وما أسفرت عنه من نتائج تصرخ في المسلمين وتهتف بهم أن يهاجروا من الضعف الي القوة ومن التشرذم الي التوحيد وأن يستوعبوا لغة العصر وأن يتعاملوا مع العالم الجديد بنفس أسلحته وأن يضعوا في اعتبارهم أن المجتمع الدولي لا يقيم وزنا للكيانات الصغيرة. وأنتم يا مسلمون تملكون كل مفردات وعناصر الكيانات الكبري.