الثورات الناجحة في تاريخ البشرية هي التي تقوم علي تخطيط سليم من دوافع شريفة واهداف نبيلة ومعالم واضحة.. وهجرة المصطفي صلي الله عليه وسلم هي ثورة غيرت معالم الطريق وغيرت الخريطة الجغرافية والسيادية والسياسية في شبه جزيرة العرب ونشرت النور في ربوع الدنيا بأسرها. والهجرة النبوية ستبقي معانيها متجددة وسراجاً منيراً علي مر العصور والأيام والي أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فكلما هل علينا عام هجري جديد يتذكر المسلم هذا الحدث الجلل الذي غير وجه التاريخ إذ لولا أن مّن الله علي صاحب الرسالة به ما عرف الإسلام طريقه للعالم.. ولكن عناية الله عز وجل هي التي اختارت رسالة الإسلام لتخرج العالم من الظلمات إلي النور.. وحادث الهجرة كان ومازال وسيظل مليئاً بالدروس والعبر والعظات علي مر الأزمان.. فما أشبه الليلة بالبارحة. حب الأوطان الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق يري ان حب الأوطان كان هو الدرس الأول للهجرة النبوية فموطن الإنسان منا أحب إليه من نفسه وولده وأغلي عنده من ماله وكل ما يملك لذلك عد رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يموت في سبيل الدفاع عن وطنه وأرضه من الشهداء وقرنه مع الدفاع عن النفس والمال والعرض والأهل.. ولما خرج رسول الله صلي الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلي المدينة وقف علي سوق ونظر إلي البيت وقال: "والله انك لأحب أرض الله إلي وانك لأحب أرض الله إلي الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".. وهذا يشير إلي مدي حب رسول الله صلي الله عليه وسلم لبلده مكةالمكرمة موطن ولادته ونشأته وفيها البيت الحرام ولأن بها الأهل والأقربون.. ولا عجب فحب الوطن من الايمان وقال بعض الفلاسفة: "فطرة الرجل معجون بحب الوطن" ولذلك كانت السيدة عائشة رضي الله عنها دائما ما تقول: ما رأيت القمر أبهي ولا أجمل مما رأيته في مكة" وذلك كناية عن حبها وعشقها وشدة حنينها للوطن. البيان الشامل يري الدكتور عبد الله الحسيني وزير الأوقاف السابق ان هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم إلي المدينة التي نورها الله بهجرته إليها صلي الله عليه وسلم أراد عليه السلام أن يبني مجتمعاً فاضلاًً يقوم علي الود والتسامح والمواساة والتيسير والوسطية والأخلاق الحميدة حتي تبقي وتعيش أبد الدهر.. فأول ما فعل آخي بين المهاجرين والأنصار والقي بياناً شاملاً جامعاً نافعاً وهو أول ما تكلم به وقاله "يا أيها الناس افشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" فيجب أن نستخلص الدروس فلابد من ربط أحداث اليوم بالأمس. فلما بني الرسول مجتمع الإسلام بناه علي الحب والود والألفة والاتحاد والاعتصام فحذر من الفتنة وعواقبها الوخيمة عملا بقوله تعالي: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان الله شديد العقاب".. سورة الأنفال آية "25" كما أمر بالتصدي للفتنة فقال تعالي: "وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله".. كما حذر من كفر النعمة وجحودها والتفريط فيها فقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال قال صلي الله عليه وسلم: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" ذلك لأن الفتن شرها مستطير فهي تزعزع الأمن وتقوض الاستقرار والذي يسير فيها تؤدي به إلي الهلاك والدمار إلا من علمه الله عز وجل... كما عمل رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد الهجرة علي اخماد نار الفتنة والبعد عن كل ما يشعلها سواء بالقول أو الفعل وشدد علي تجنب الفتنة لأن خطرها شديد علي استقرار البلاد وكفي أن قال الله عز وجل: "الفتنة أشد من القتل".. التصدي للفتن وفي الهجرة حذر الرسول صلي الله عليه وسلم من أي فتنة تجر خلفها دماراً وفساداً من أي أمر يؤدي إلي الفتن هكذا قال الشيخ عبدالناصر بليح مدير إدارة الأوقاف بكفر الشيخ والمتحدث الاعلامي لائتلاف الدعاة واضاف ان رسول الله صلي الله عليه وسلم عقب الهجرة علمنا ماذا نفعل وقت الفتنة فقال: "إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفاً من خشب" فعن عديسه بنت أهبان قالت: "لما جاء علي بن أبي طالب البصرة دخل علي أبي فقال: يا أبا مسلم ألا تعينني علي هؤلاء القوم؟ قال: بلي. قال فدعا جارية له فقال: ياجارية أخرجي سيفي. قال: فأخرجته فسل منه قدر شبر فإذا هو خشب. فقال: ان خليلي وابن عمك عهد إلي: إذا كنت... الحديث" فيجب أن نأخذ العبرة والعظة من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم في بناء المجتمع الآن بعد الثورة العظيمة فالمجتمع يحتاج إلي أمن واستقرار وشدد الإسلام علي ذلك لأن الأمن والأمان نعمة من الله عز وجل وما بعدها نعمة والقرآن الكريم يقدم الأمن علي الرزق في قوله تعالي: "رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر". سورة البقرة آية "126". ويمضي الشيخ عبد الناصر موضحاً: انه من البديهيات التي لا يختلف عليها العقلاء انه لا يمكن ان تقوم حياة انسانية كريمة إلا في ظل الأمن والاطمئنان حتي يتمكن الإنسان من اطلاق ملكاته وقدراته الفكرية للبناء والابداع وقد جمع الله في الامتنان علي قريش بين نعمتي الأمن والاطعام ليبين أن احداهما لا تقل أهمية عن الأخري ولا تغني عنها وأمرهم سبحانه أمراًً حازماً بالتوحيد ومتابعة النبي صلي الله عليه وسلم وأن ذلك أقل ما يكون في مقابلة نعمة الأمن التي يشعرون بها دون غيرهم من العرب.. وقرن النبي صلي الله عليه وسلم الايمان والإسلام بالأمن فقال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". التواضع يقول الدكتور يوسف الساكت المدرس بجامعة الازهر بأسيوط إن حادثة الهجرة مليئة بالعبر والعظات فقد خرج صلي الله عليه وسلم من مكة ليلاًً وخاطبها قائلاً: "والله إنك لأحب البلاد إلي الله..." فأنزل الله عليه "ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلي معاد".. وصدق الله ورسوله فأنجز وعده فقد خرج من مكة في الظلام وعاد إليها في وضح النهار وخرج منها مستخفياًً وعاد إليها ظاهراً. وخرج منها خائفاً وعاد إليها مهاباً.. وخرج منها وهو ثاني اثنين وعاد إليها ومعه أكثر من عشرة آلاف مقاتل.. وعندما دخل صلي الله عليه وسلم مكة فاتحا منصوراً طأطأ رأسه تواضعاً لله رب العالمين في لحظة يندر فيها التواضع ويعز. دخلها وهو يقرأ قوله: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا". ويقف كفار مكة حياري امام هذا المشهد العظيم وقد زاغت أبصارهم وارتجفت قلوبهم.. فأراد النبي أن يهدئ من روعهم فقال: "من دخل المسجد الحرام فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن".. وهذا درس عظيم في العفو عند المقدرة.. يضيف: لولا الهجرة ما كانت الدول الإسلامية التي أسسها النبي في المدينة ولولا الهجرة ما كان هذا الفتح المبين لمكةالمكرمة فقد مكن الله لدينه في بلده الأمين وصار بلداًً إسلامياًً وحل فيه التوحيد بعد الشرك والإيمان بعد الكفر والإسلام بعد الاستكبار وأعلنت فيه عبادة الواحد الديان..