لا يخفي علي أحد ما تمر به مصرنا من أزمات أخلاقية وأمنية واقتصادية واجتماعية. وأنا أكرر القول دائماً بأنه لا ينبغي أن يكون العلماء والدعاة إلي الله جل وعلا بطرحهم الدعوي والعلمي في جانب وأن تكون الأمة بمشكلاتها وأزماتها في جانب آخر. ولا شك أن من أخطر الأزمات التي تهدد بلدنا في هذه الأيام الأزمة الاقتصادية ومصر تتعرض بالفعل لأزمة حقيقية وليست مفتعلة. ويجب أن يعلم كل مسلم وكل مصري أن هذه الأزمة لا يمكن علي الإطلاق أن تتخلص بلدنا منها إلا إن صدقنا التوكل علي الله جل وعلا وأخذنا بالأسباب وأحيينا من جديد قيمة العمل. لقد نظّرنا كثيرا وجادلنا طويلا وبلدنا لا تبني بالجدال والمراء وإنما تبني بالعمل والبناء ولقد تكلم أهل مصر طيلة العام الماضي كلاماً يكفي لألف سنة قادمة. لكن آن الأوان أن نتوقف قليلاً عن الجدال والتشكيك والمراء وأن نبدأ العمل والبناء بتحقيق التوكل الحق علي رب الأرض والسماء. فمصر ليس فقيرة ولم يُصب أهلها ببخل قط بل أصيب أهل مصر بأزمة ثقة فلا تحتاج مصر إلي معونة من أحد ولا إلي عطاء من أحد. لكنها في حاجة دائمة إلي عون الواحد الأحد وإلي عطاء شبابها وأهلها فما أكثر الشرفاء في مصر . بل أقولها لله إن الأصل في أهل مصر هم الشرفاء وهم الأطهار فلنحاسب المفسدين محاسبة عادلة بلا ظلم ولا تشفي ولنمد أيدينا جميعاً إلي الشرفاء وهم الأصل في أهل مصر لنعيد من جديد هذا البناء. تعالوا بنا اليوم لنتحدث عن حقيقة التوكل فالتوكل علي الله ليست دروشة وليست مجرد كلمة يرددها عالم أو داعية إلي الله جل وعلا. بل التوكل علي الله منهج متكامل إن فهم أهل مصر حقيقة التوكل علي الله. علي مراد الله وعلي مراد سيدنا رسول الله والله الذي لا إله غيره لصرنا من أغني الخلق في الأرض ومن أسعد الناس في الآخرة "يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالى وَلا بَنُونَ" 88 "إِلاَّ مَنْ أَتَي اللَّهَ بِقَلْبي سَلِيمي" 89 الشعراء. التوكل لغة هو مصدر توكل يتوكل والاسم التُكلان وهو مأخوذ من مادة وكل التي تدل علي اعتماد علي الغير. والتوكل هو إظهار العجز في الأمر كله والاعتماد علي الله في الأمر كله. والمتوكل لا يري نفسه أبداً .ولا يري في نفسه الأنا. فأعظم دواء لما نحن فيه أن تطهر النفس من رؤية النفس. لو تحدث أي متحدث يتحدث في مصر الآن وقد طهر نفسه من رؤية نفسه ما رأينا هذه المشكلات لو استعلي كل متحدث عن الأنا عن الحزب الذي ينتسب إليه عن الجماعة التي ينتمي لها عن مصلحته الشخصية أو الفئوية وقدم مصلحة مصر. ما رأينا هذه الأزمات والاختناقات. فتطهير النفس من رؤية النفس أعظم دواء ناجح لكل مشكلة يمر بها المجتمع علي المستوي الفردي وعلي المستوي الجماعي. التوكل: إظهار العجز في الأمر كله والاعتماد علي الله في الأمر كله.فلا ينبغي أن نعتمد علي شرق أو غرب ولا ينبغي أن نعتمد علي أحد من الخلق بل يجب أن نعتمد علي خالق الخلق. بل يجب أن نعتمد علي خالق الخلق الذي يرزق كل الخلق ولا ينسي أن يرزق الكفار أفيرزق ربنا الكفار وينسي أن يرزق من وحد العزيز الغفار؟! يا للعجب ويا للعيب. التوكل هو صدق اعتماد القلب علي الله. كلمات تكتب بأغلي من ماء الذهب لشيخي ابن القيم لله دره. التوكل هو صدق اعتماد القلب علي الله مع الأخذ بالأسباب ولا تعارض بين هذا وبين من قال إن التوكل لا يتم إلا برفض الأسباب. لا تعارض...كيف يا رجل لا تعارض وأنت تقول الآن صدق اعتماد القلب علي الله مع الأخذ بالأسباب كيف لا يتعارض هذا مع قول من قال من أهل التحقيق: "التوكل لا يتحقق إلا برفض الأسباب". نعم لا تعارض...فالمراد رفض الأسباب عن القلب فهو المتوكل مقطوع عنها متصل بها. مقطوع عنها بقلبه متصل بها بجوارحه. لا تعارض... مقطوع عن الأسباب بقلبه بمعني أنه يتوكل علي الله يأخذ بالأسباب ويعلق قلبه بمسبب الأسباب لا بالأسباب لأنه علي يقين أن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر مسبب الأسباب جل وعلا. فلا تعارض فالمتوكل منقطع عن الأسباب بقلبه لأن قلبه معلق بمسبب الأسباب لا بالأسباب ومتصل بالأسباب بجوارحه لأنه متعبد من الله بالأخذ بالأسباب. قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالي: الأخذ بالأسباب واجب أوجبه الله علي الأمة. من طعن في الأسباب فقد طعن في السنة ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان فالأخذ بالأسباب سنة النبي وهو سيد المتوكلين. قاتل بين درعيه..معقول هو النبي خايف من الموت يقاتل بين دراعين ! هذا هو الأخذ بالأسباب. هذا هو التوكل وهو سيد المتوكلين. قاتل بين درعيه وأخذ الزاد معه وهو مسافر وادخر القوت لأهله سنة وفي الهجرة اتخذ دليلا مشركا علي دين قومه ليدله علي اقصر طريق من مكة إلي المدينة وهو الذي هدي الله به كل العالمين. أخذ بالأسباب فهذا لا يتنافي مع التوكل ..فالتوكل علي الله اخذ بالأسباب مع صدق اعتماد القلب علي الله جل وعلا. من طعن في الأسباب فقد طعن في السنة ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان. فالأخذ بالأسباب سنة النبي والتوكل علي الله حال النبي فمن كان علي حال النبي أي في التوكل فلا يتركن السنة النبي أي في الأخذ بالأسباب. فعلي امتنا أن تأخذ بالأسباب. وعلي شبابنا أن يأخذ بالأسباب. أنا أتألم غاية الألم حينما نتغني بأننا نركب الآن أفخم السيارات ونحن إلي اللحظة لا نحسن أن نصنع دراجة ولا حول ولا قوة إلا بالله. شبابنا ليس أقل من شباب اليابان وليس أقل من شباب كوريا وليس أقل من شباب إيران وليس أقل من شباب تركيا وليس أقل من شباب إندونيسيا وليس أقل من شباب أمريكا. بل شبابنا هو الشباب المتوضئ الطاهر الذي أبهر العالم كله نريد من شبابنا أن يبهر العالم مرة أخري بعمله بإنتاجه بعطائه بتفوقه بالأخذ بأسباب الإبداع والتقدم والرقي والسعادة في الدنيا والآخرة. "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" 105 التوبة. ابذل ما استطعت ولا تتهم غيرك بل إن رأيت نقصاً عند أخيك فسد له نقصه وأتمم له عمله. ابذل ما استطعت ولا تنتقص قدري ولا انتقص جهدك بل تعالوا لنتكامل. وأنا أدعو دائماً وأقول تكاملوا ولا تتآكلوا فمصر تتسع للجميع. ومصر تتسع لغرس كل مصري صادق ولزرع كل وطني متجرد مخلص. بل وأرض الدعوة تتسع للجميع لا حرج علي الإطلاق أن يتحرك كل العلماء وأن يجتهد كل الدعاة بحسب ما فتح الله علي كل واحد منهم. فتعالوا بنا لنتكامل بدلاً من هذا التآكل الذي لا يُرضي رباً ولا يبني بلداً. وأسأل الله أن يرزقني وإياكم التجرد والإخلاص إنه ولي ذلك والقادر عليه.