عندما يصمت علماء الدين الكبار وكذلك رجاله في المواقع المختلفة.. فأعلم أن هناك كارثة محققة أو أن أمراً ما يراد بالبلاد والعباد.. لأن هذا الصمت له دلالاته وإيماءاته ورسائله المباشرة والصريحة في كثير من الاحيان.. وليس كل الصمت بريئاً أو تعبداً.. أو جالباً للحق أو فاتحاً لأبواب السماء حتي يتنزل الوحي أو تحل اللعنات كما يتوهم البعض.. فبعضه فتنة محققة ووقود للنيران.. وبعضه شماتة واستهزاء. أقول هذا ونحن نعيش في عصر الفتن الداهمة والمتوالية من أنفسنا ومن الداخل ومن الخارج.. أصبحنا مركزاً للفتن وملعباً للمفتونين.. ومرجلاً تستعر فيه وتنهمر علي البلاد والعباد.. الأخطر أن كلنا يعلم ذلك ويصر علي أن يكون من المفتونين أو علي الأقل أحد شهود الفتنة دون أن يحرك ساكناً.. أو يدفع عن نفسه وأولاده شراً محققاً سيأتيه إن عاجلاً أو آجلاً. أقول هذا وأنا غير مصدق لما يجري أمامي ويحدث.. بعد أن أنتقل الخلاف الذي أصبح صراعاً بين فضيلة مفتي مصر الدكتور علي جمعة.. والعالم الفاضل والمحدث أبوإسحاق الحويني إلي ساحة القضاء.. وهو أمر أفزعني وتصورت أن بين الرجلين دماً.. أو ثأراً أو شيئاً يوجب تدخل القضاء كما يحدث بين العامة والدهماء. إنه لأمر مؤسف للغاية أن يجر العلماء بعضهم بعضاً إلي ساحات المحاكم كالمتهمين والمجرمين والنصابين والغشاشين والمخادعين للناس وأكلة أموال اليتامي بالباطل أو المعتدين علي الحقوق ظلماً وافتراء. لا أتصور أن خلافاً فقهياً أو أي اختلاف في الرؤي العلمية يصل بالعلماء إلي ساحات القضاء.. أو يدفع أحداً ممن هم دون العلماء إلي التطاول علي الآخر والنيل منه وسبه وتجريحه.. ولست أدري كيف يسمح العلماء لأنفسهم باستخدام ألفاظ عارية عن الأدب والوقار خارجة عن حدود الحشمة واللياقة عندما يردون علي بعضهم البعض..؟؟ لا أتصور أن يصمت العلماء الآخرين عند خروج البعض علي المتآلف والمعروف علمياً أو أدبياً.. ولا أعرف معني استمرار الصمت وكرامة العلم والعلماء تهدر أو حتي معرضة للإصابة بأذي.. لا أعرف معني للصمت ونحن نري ارتفاعاً لنبرة الملاسنات والحرب الكلامية وكيلاً للاتهامات من هنا وهناك. كما نري اندفاعاً بل طوفانا من المهاجرين والأنصار الجدد يتدفق إلي الساحات والميادين لنصرة طرف وإهالة التراب والسخام علي طرف باسم الدين والعلم وأيضاً بأسماء أخري ما أنزل الله بها من سلطان. وهذا ما شاهدناه منذ يومين من دعوات وحشود متدفقة من السلفيين واتباع الشيخ الحويني إلي محكمة كفر الشيخ.. والطريف أن الدعوات تمت كما رأيتها علي جدران مساجد القاهرة "لنصرة شيخنا أبوإسحق".. وتصورت للوهلة الأولي أن الأمر مجرد طلب الدعوات إلي الله تعالي لنصرة الشيخ.. حتي أكد أحد الشباب الأمر عقب الصلاة أن هناك سيارات ستتوجه إلي مقر المحكمة من باكر.. وبالفعل توجهت الحشود والجموع إلي هناك وتم البث الحي للمناصرة الحنجورية للشيخ علي الهواء. وأنا لست ضد الشيخ الحويني ولا مناصراً للمفتي.. إلا أن هذا الخروج الكبير افزعني وأصابني بالصدمة والدهشة لعدة أسباب في مقدمتها: إن الخروج لم يكن عفوياً بل مرتباً ومدبراً ومبيتاً بليل. إن الخروج كان إلي ساحة قضاء.. والتظاهر والتأييد والمساندة لا علاقة له بالأمر.. ولن يؤثر في حكم القضاء. إن البعض قد يفسر الأمر علي أنه إرهاب لهيئة المحكمة أو أنه رسالة إليها.. ونعلم جميعاً أن القاضي بشر وماذا يفعل عندما ينظر قضية وهو يعلم أن عشرات الألوف من الحشود الغاضبة أمام المحكمة تحيط بها من كل جانب.. ألا يخطر ببال هذا القاضي أو ذاك أو يفكر للحظة فيما سيكون عليه الموقف لو صدر حكم من نوع ما.. مع أو ضد. إن الخروج جاء في وقت اشتعال الفتن التي تدع الحليم حيرانا وعلي كل صعيد في الدين والسياسة والاقتصاد وغيرها. إن الخروج جاء في وقت كل تحركات وسكنات القوي الإسلامية تحت المجهر ويتم تحليلها ورصدها بدقة ويتم سحب أي خطأ لأي فصيل علي الحركة الإسلامية عامة ويدفع المسلمون جميعاً الثمن. إن الخروج بدا وكأنه مسألة تصفية حساب مع مؤسسات الدولة الرسمية خاصة المؤسسة الدينية.. وهو ما انعكس وظهر جلياً في الشعارات التي رفعت والهتافات التي كانت ترج المكان.. ومحاولة للنيل من دار الإفتاء والأزهر.. وأيضاً الجماعة الصوفية وغيرها. إن الخروج جاء ليؤكد أن كثيراً من القوي الإسلامية لم تستوعب الدرس حتي من الماضي القريب.. والرسائل السلبية التي أحدثها الخروج الكبير من قبل في ميدان التحرير والمظاهرات المليونية وما تبع ذلك من حملات تشويه واتهامات باستعراض للعضلات وللقوة الغاشمة.. وما أثاره ذلك من مخاوف بعضها حقيقي وكثيرها ملفق.. لغاية في نفس يعقوب. كان هناك أكثر من طريقة لمساندة الشيخ الحويني وإظهار الحب له أفضل من ذلك.. خاصة أن الجماعة السلفية لها أدواتها الكثيرة علي هذا الصعيد. إن حشود الحويني إلي كفر الشيخ ما آراها إلا خرجت عن الطريق وجاء ضررها أكثر من نفعها.. وسبقها في الخروج ذلك الإصرار علي اللجوء إلي ساحات القضاء.. ومن قبل ذلك الخروج بالصمت الرهيب من جانب العلماء والذي لم يكن له من تفسير إلا أن يتركوا النار تأكل المفتي والحويني ومن شايعهما.. وعند هذا الأمر نكون قد وصلنا إلي قمة وذروة الخروج الكبير..!!!