كلما سافرت توترت، وتوتري ليس من النوع المرضي، أو العصبي، ولكنه استنفار للعقل وعصف للذهن، والتفكير في مجريات ما يمكن أن يحدث في رحلتي لبلد لم أزره من قبل، والسفر هذه المرة إلي إيران، وما أدراك ما إيران، قلعة الشيعة في العالم، والشيعة بالنسبة لكثير من المسلمين خطر لدرجة طرح سؤال بين الحين والآخر، هل هم أخطر أم اليهود؟ وكلام يتداول من أن مجرد مجيء بعض السياح الإيرانيين إلي مصر معناه فتح أبواب مصر أمام النفوذ والتخريب الإيراني تحت عناوين سياحية أو اقتصادية، في مقابل ذلك هناك من يري أن من يردد ذلك جماعات لديها مصالح خاصة، فنحن نستقبل سياحا إسرائيليين ، فلماذا لا نستقبل سياحا إيرانيين، وأن هناك دولا عربية وإقليمية ستتضرر من تدفق السياح الإيرانيين علي مصر، بعد أن كانوا يزورونها وينفقون الكثير من الأموال علي أراضيها، فهذه الدول تخشي أن نسحب البساط من تحت أقدامها لذلك لا تريد للاقتصاد المصري أن يتقدم. عندما حطت الطائرة في مطار طهران، قررت بيني وبين نفسي أن أضع كل أفكار مسبقة جانبا، وأن أنحي الصورة النمطية التي تنقلها وسائل الإعلام سواء عن أمور سياسية أو دينية، وأقرر بنفسي بعيون صحفية وليس كسائح، وأسجل ما تشاهده عيني وتسمعه أذني، مع الوضع في الاعتبار أن أسبوعا أو عشرة أيام لا تكفي لمعرفة كل شيء أو إصدار أحكام قاطعة علي بلد ومجتمع وشعب. سافرت إلي إيران وعيني علي مصر، فأوجه الشبه بين البلدين كثيرة ومتنوعة، فهناك طرق ومواصلات، عامة وخاصة، وسلوك أفراد وثقافة مجتمع، وبدأت الرحلة، وبدأت تدوين الملاحظات، ووجدت أن الزائر لمدينة طهران يشم في كل خطوة يخطوها رائحة الخضرة التي تملأ جنبات الشوارع، ويسمع خرير الماء الذي يتدفق وينهمر من الجبل عبر مخرات الجبال عبر مجار مائية تجوب الشوارع، وهو ما يجعل المناخ لطيفا برغم ارتفاع درجة الحرارة، عندما سألت عن سر هذا الجمال الذي تنعم به شوارع طهران، قالوا لي إن عمدة طهران الحالي " وأحد المرشحين علي منصب الرئيس" محمد باقر قاليباف، منذ أن تقلد هذا المنصب، قبل ثلاث سنوات قرر أن يحدث تغييرا جذريا في طهران، وقد كان، لم يجلس الرجل في مكتبه، أخذ يجوب شوارع طهران علي دراجة بخارية يقودها سكرتيره الذي هو في نفس الوقت حارسه الخاص، يدون ما هو مطلوب ويذلل العقبات، زاد المساحة الخضراء من سبعة أمتار لكل فرد إلي 22مترا، وفي دعايته الانتخابية أكد أن المساحة ستزيد لثلاثين مترا لكل فرد، وواكب ذلك انقلاب عمراني لتصبح طهران مدينة الجسور والأنفاق والطرق السريعة، وهو ما انعكس علي حركة المرور وحركة السير في شوارع طهران فالمدينة المكتظة بالسكان والسيارات لا تشعر فيها بأي نكد مروري حتي في ساعات الذروة تسير الأمور بسلاسة منقطعة النظير الأتوبيسات لها مسار خاص يجعل من يركب الاتوبيس يصل أسرع ممن يستخدم سيارته الخاصة. بجوار الفندق الذي كنت أنزل فيه حديقة عامة مترامية الأطراف بها من وسائل الترفيه ما فيها، لعب أطفال وأجهزة رياضية للكبار والصغار، الدخول إليها مجانا، الأسر الإيرانية ترتادها وتبقي فيها لساعات متأخرة من الليل في أمن وأمان، فالأمانة والنظافة والخضرة علامات بارزة في طهران، وعندما سألنا القائم بالأعمال السفير المصري خالد عمارة قال إن باقي المدن الإيرانية والبالغ عددها 13محافظة، أرقي وأنظف من طهران، الأمانة هنا عنوان التعامل، فلا مجال للنصب أو الفهلوة، أو الاستغلال، لم أستطع التعامل بالعملة الإيرانية بسهولة، ولكن عند الشراء أضع أمام البائع ما معي من عملة إيرانية، يأخذ قيمة ما اشتريته، ويترك الباقي، نصعد الأتوبيس، وفي محطات الوصول يقف الكمساري ويأتيه الركاب ويعطونه قيمة التذكرة، سألت نفسي هل يمكن أن نتعامل بهذا الأسلوب في مصر، كل زائر لطهران يجعل علي رأس زيارته الذهاب إلي برج ميلاد طهران، والذي يعد رمزا للتصدي والصمود والمواجهة، فرغم الحصار الاقتصادي، إلا أن البرج تم بناؤه بسواعد وإمكانيات محلية، فقط تم استيراد المصاعد الكهربائية من سويسرا، البرج رمز لفن العمارة والثقافة والفن، بارتفاع 435 مترا، تم تصميمه بأسلوب يجعله يصمد أمام الهزات الأرضية حتي المستوي الرابع من الزلازل " الهزات الأرضية الشديدة جدا"، ومن يريد حقا معرفة طهران فلينظر إليها من أعلي البرج حتي يكتشف أن أسطح المنازل بلا كراكيب، القمامة والكراكيب من الصور غير المألوفة في طهران، بل وفي كل أرجاء إيران. المرأة الإيرانية تسير في الشارع بجرأة، وتقود السيارة بحرية، أناقتها بلا حدود، رغم أن العديد من المصادر سجلت انتهاكات ضد المرأة منذ الأيام الأولي لنجاح الثورة، إلا أن الحرب مع العراق جاءت لتغير هذا الموقف المتشدد، والسبب معروف، الاحتياج لجهود المراة ، الأمر الذي أدي إلي تقليل التشدد في فرض الحجاب في الشوارع، وأصبحت الطرحة الآن لا تغطي إلا جزءا قليلا جدا من شعر حواء، وقد تعددت صور مشاركة المرأة في الحياة السياسية منذ التسعينيات حيث شهد دور المراة الإيرانية ازديادا في مختلف مناحي الحياة، وفي هذه الفترة كانت إيران من بين 10 دول تمكنت من تحقيق أكبر تقدم لسد الهوة في النظام التعليمي بين البنين والبنات، لذا فالمرأة موجودة ويسعي النظام لتمكينها بقوة، ولها دور كبير في كافة مناحي العمل، ففي تجمع صناعي كبير علي مشارف طهران تتجمع 140 من الشركات التي تعمل في مجال الأبحاث هدفها تطوير التقنيات والنظم والتكنولوجيا، وأكثر من 60٪ ممن يعملون في هذه الشركات من النساء. وإذا كانت إيران قد أطلقت لقب الشيطان الأكبر علي الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلا أن الكواليس تشهد علاقات متميزة بين إيران والشيطان الأكبر "أمريكا" وعلي أحسن مستوي، إنها لغة المصالح، فصحيح أنه لا توجد علاقات سياسية بين البلدين لكن علي سبيل المثال يتوجه سنويا ما يقرب من 200 طالب دراسات عليا لنيل درجة الدكتوراه من الشيطان الأكبر وبعضهم بمنح حكومية أمريكية، كما أن الدولار الأمريكي هو العملة الأكثر تأثيرا هناك، ويتم تداوله والتعامل به بشكل علني وموسع، من خلال البنوك ومكاتب الصرافة وحتي في التعامل بين الأجانب والتجار في البيع والشراء، تستطيع أن تشتري أي سلعة وتدفع ثمنها بالدولار، يأتي ذلك في الوقت الذي تبني فيه النظام منذ نجاح الثورة، نظرية اقتصادية تقوم علي أساس إحداث تغيير شامل في النظام الاقتصادي، عن طريق قطع الروابط العضوية لتبعية الاقتصاد وإلغاء النظام المصرفي وتحرير العملة من ارتباطها بالدولار الأمريكي. الحديث في السياسة والدين طغي علي كل لقاءات الوفد الإعلامي مع المسئولين، فعندما التقينا وزير الداخلية الإيراني مصطفي محمد نجار كان من المفترض أن يتم الحديث عن الانتخابات ولكنه بدأ كلامه من ورقة مكتوبة أعدت له فيما يبدو سلفا قال من خلالها إن الغرب يصف ما حدث من ثورات في المنطقة العربية " تونس ومصر وليبيا" أنها الربيع العربي، مع أن هذه الثورات ماهي إلا صحوة إسلامية قام فيها المسلمون بدور كبير، وهو نفس ماقاله آية الله محسن آراكيي الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وهو ما تصدي له أعضاء الوفد الإعلامي مؤكدين أن ما حدث في مصر ثورة مدنية ديمقراطية، اشترك فيها كل المصريين بمختلف انتماءاتهم السياسية مسلمين وأقباطا، الوحيد الذي لم يتحدث في السياسة مساعد الرئيس الإيراني لشئون أهل السنة مولوي اسحاق المدني الذي أكد أن مصر لها موقع خاص في العالم الإسلامي، وأن بعض علماء الشيعة والسنة ضيقي الفكر هم الذين يثيرون النعرات بين المذهبين، وتساءل هل من الممكن أن تنتهي مثل هذه الخلافات، أجاب هذا من غير الممكن فالخلافات موجودة وستستمر، حتي أصحاب المذهب الواحد بينهم خلافات، المهم أن تتخذ سلوكا لا يؤدي إلي الصراع وإلي تشويه سمعة الإسلام في العالم. من غير المعقول أن أنهي رسالتي دون الحديث عن الانتخابات الإيرانية، فقد وصلت إلي طهران قبل الانتخابات بأسبوعين إلا أنني لم أجد مايشوه شكل العاصمة من لافتات وملصقات، وهو ما أزعجني ولم أتعود عليه من قبل، فأي انتخابات هذه التي لا تخلف أمامها وخلفها أطنانا من القمامة والأوراق!!، رغم أنها تتم في 31 محافظة و1000 قسم و60 ألف مركز اقتراع، المهم هنا في إيران يقولون " وهنا أنقل حرفيا ما قاله لي أبو جواد المرافق الذي كان يقودنا إلي معالم طهران" أيا كان الرئيس القادم فإن أحمدي نجاد قد أتعب من سيجيء بعده، فقد آثر أن يعيش كأي فرد من أفراد الشعب في هندامه وتنقلاته، كماعمل طوال فترة رئاسته علي تذليل كافة العقبات أمام الشعب، 4 ملايين وحدة سكنية للشباب وعد بها في حملته الانتخابية أنجزها وسلم آخرها قبل نهاية رئاسته، بدل الدعم العيني " وكانت رغبة شعبية" ليصبح دعما نقديا، قام بزيارة 31 محافظة " عدد محافظات إيران " ثلاث مرات لكل محافظة خلا ل 8 سنوات، كان يناقش مشاكل كل محافظة مع المسئولين المحليين أمام الناس يسألهم هل أنتم راضون عن المسئولين، وإذا كانت الإجابة بلا، يتم إقالة المسئول غير المرضي عنه من الشعب علي الفور، كانت فترة حكمه تتميز بالإدارة القوية والتدبير الحكيم. كانت مناسبة الاحتفال بمرور 25 عاما علي رحيل الإمام الخميني تأكيدا لما قاله لي أبو جواد، الاحتفال بسيط ليس فيه أي مظاهر للترف، الكل يجلس علي كراسي متشابهة، لا فرق بين رئيس ومرؤوس، البساطة تغلف المكان، ما يقدم للضيوف ماء مثلج وبعض قطع البسكويت والعصير، لا إسراف ولا تبذير، مظاهر البذخ والأبهة في مثل هذه الاحتفالات غير موجودة، جو عكس بالفعل مسئولين يقدرون بالفعل أنهم يعيشون في حصار اقتصادي يتطلب التقشف وعدم الإسراف، كل المسئولين غادروا المكان كما جاءوا في سيارات عادية، مثلهم مثل أي فرد من أفراد الشعب، موكب الرئيس، سيارة الرئيس ومعه سيارة للحراسة، ويتقدمهم دراجة نارية فقط لاغير. وفي الأخير قلت في البداية أنني سافرت إلي إيران وعيني علي مصر، لن أتحدث عن تقدمهم العلمي والتعليمي والتكنولوجي ولا عن ثقل دورهم الإقليمي، فلست ممن يجلدون الذات، ولكن علينا أن نعرف أنهم وصلوا إلي ما وصلوا إليه بعد جهد وعناء، ونحن مازلنا في مخاض ثورة، وأمامنا الوقت لتحديد طريقنا إلي المستقبل، وكما قال لنا القائم بالأعمال السفير خالد عمارة، الإيرانيون يتمتعون برؤية واضحة لأنهم أقاموا مؤسسات منذ 34 عاما ولم تستقر لتتعافي وتعمل إلا في السنوات الخمسة عشرة الأخيرة، لقد حصدت الاغتيالات السياسية أرواح 17 ألف إيراني بعد الثورة ولمدة ثلاث سنوات لم يكن هناك أمن فرجل الشرطة كان لا يستطيع النزول إلي الشارع بزيه الشرطي خوفا من الناس، الدور الايراني لم يتضخم كما يعتقد البعض بل وجد الايرانيون مساحة شاغرة فعملوا فيها وعلينا أن نستعيد الثقة في أنفسنا، فقط نتفق علي رؤية محددة لدورنا المقبل، المسئولون الإيرانيون أنفسهم أكدوا لنا أن ماحدث في مصر من ثورة شكل لهم طاقة، وأن مصر بالنسبة لهم حضارة وتاريخ وثقافة، ولها تأثير كبير، ودورها وثقلها لا يمكن أن يغفله أحد.