طموح الانتقال من قطار التعاون الخليجي إلي الاتحاد الخليجي غير مستحيل فلن يتلاشي، لأنها محطةٌ لم تعد خارج المنال الخليجي، بعدما تحقّق بحذافيره علي أرض الواقع من التجربة الإماراتية، بعزيمة ونكران الذات وشيء من التضحية، قام بها رائد الاتحاد العربي فقيدنا الغالي الشيخ زايد رحمه الله، والذي كان الغائب الحاضر في القمة التشاورية الخليجية الأخيرة بروح تجربته الحيّة، التجربة الناجحة الوحيدة عربيا وإسلاميا في العصر الحديث. الحلم قابل التحقُّق، لأنه يتعلق بتكملة مشروع قائم بنجاح منذ ثلاثين سنة، لا بنقطة صفر لخطوة أخري، القادة الآباء مهما أخذوا الوقت في تأمّلاتهم لجدولة التنفيذ، فإنّ علي الأبناء أن يصطفّوا علي ضفاف النهر والبحر متّحدين، لحماية الحوض الجاف أو الرطب، الأبناء اتحاديون بالخبرة والاكتساب، وتعاونيون بالولادة والنسب والرضاعة. كتبتُ (حوض الجاف الرطب) قاصدا مدركا، أن ابن الخليج سيستشفّه جيدا، لأنه ابن البحر يتقبّله بوجهيه (البحر خير، والبحر غدّار) ولا يهابه مهما غدر، فهو ابنه الغواص المُدلّل بقوارب الصيد وأدوات الغوص، وجريحه الطريح بالطلاسم وأدوات التضميد، يدرك أبا عن جد، أن البحر ما أجمله إذا هدأ الطوفان، بل وما أغراه طوفانا إذا عرف كيف يصارع الأمواج، ركبها بسترة نجاة، صعد لصعودها هبط لهبوطها، ولم يسبح ضد التيّار .. البحر له أصدقاء وأعداء، وأنت يا ابن البحر عليك أن تُنمّي الحبّ وتشُحّ العداء. صدقوني فكرة الاتحاد لن تبقي حبرا علي ورق، في زمن ما أكثر الأحبار فيه علي ورق، والأصوات ما أهدرها بالمايكروفونات .. الاتحاد الأوروبي يعسره اليوم، هضم اليورو باليونان، ولوحات اتحاد المغرب العربي، بتونس وليبيا والمغرب والجزائر، أتحسّر رؤيتها مهجورة يسكنها الغبار في ركن المطار .. واحسرتاه علي تلك الأحبار التي أضاعوها، كانت الطبشورة والصبّورة المدرسية أولي بوصولها لطفل المغرب العربي .. وأما الاتّحاد العراقي السوري اليمني الأخير، فحدّث ولاحرج عن شمعة لم تُشعل من الأساس، فكيف الحديث عن الإضاءات والإطفاءات.! في وجه تلك الاتحادات المنتحرة المتناحرة قديما وحديثا، خيمة دول مجلس التعاون صامدة بأوتادها الخليجية لثلاثين عام، ولم تُزعزع أطرافها يوما ولا ليلة، الراية التعاونية ترفرف علي ضفاف ذلك الحوض الشمولي التكاملي، واليوم مجرد التفكير في الانتقال من التعاون إلي الاتحاد، بذاته مكسبٌ لمولود سيُنجبه المجلس غدا إن لم يُنجبه اليوم. الخليج اتحادية تعاونية بطبعها الجغرافي والتراثي، والخليجيون لن يختلفوا في المحتوي مهما اختلف العنوان، كم بينهم رجالٌ سبقوا زمن الاقتصاد قبل الكساد، تذكرت حادثة وقعت أمام عيني وأنا طالب اللغة الإنجليزية بالمعهد الثقافي البريطاني في العشرين من عمري، طلبني رئيس المعهد للتشاور في موضوع تراثي يخص النوق والجمال، وبجواره من جاءه خصيصا من بريطانيا، يبدو أنهما استصغرا سني فناقشا أمامي وانصرفا بالكاميرات إلي الهدف مراسي دبي علي الخور وكورنيش الشارقة وعجمان، ليسرقا بالعدسة أسرار صناعة المراكب الخشبية والشراع التقليدية صنعتها أيادي المواطنين البسطاء باحتراف، فنقلت أبناء المنطقة لماوراء البحار، بين الأقاليم والقارات دون وقود وكهرباء، وعرفت لاحقا أن هذا الضيف الزائر، لم يكن إلا إمبراطور صناعة اليخوت الملكية البريطانية.! تأكّد يا الخليجي أنك اليوم أولي بالاتحاد قبل أي شي، قطيع الأغنام يتعاون علي علف الغابة جماعيا، لكنهم يفترقون فُرادي دون الرجوع للوراء علي صوت الذئب، لا الخروف يعرف نعجته، ولا البعير ناقته ولا حتي العجلة طفلتها، لأنهم كانوا بأجسام وبطون التعاون دون روح الاتحاد.! الخليجي خارج الخليج، يجب أن يمثل ربوع الوطن لا ربيعه، ويعلم أن قيمة الإنسان بما في رأسه، وليس بما في جيبه وبطنه، ليس الدولار هو المعيار الحقيقي يا أبناء العم، بعض الملاهي الأوروبية كان يدخلها أبناء مدلّلون لأثرياء العرب، بطبول دويّ ملوك الليل، أين هم ملوك الليل الآن.! فلو افترضنا مطعما بقلب باريس ولندن نزل فيه شكسبير وآينشتاين، ومحمد إقبال وغاندي، وبرناردشو، ودسكوفيسكي وفيكتور هيغو صاحب الرائعة (البؤساء)، وهم جلوس في انتظار الجرسون، ودخل من باب آخر اللورد الدولاري، فإن صاحب المطعم قبل الجرسون سيلهث إلي الباب وينسي من في الانتظار للصباح، لأن المستردولاري سينفق في مطعمه تلك الليلة، ما لايجمعه شكسبير من مسرحياته وهيغو من رواياته في عشرين سنة. إننا لم نعد في عصر الروح والفلسفة والإيمان بالقيم والمبادئ، الشيكات المصدقة من البنوك أنفع من الشهادات العلمية المصدقة من التعليم العالي، وكشف حسابك الإلكتروني علي شاشات المصرف أكثر احتراما من المجلدات علي الأرفف.! إن كانت تلك حالة القارة العجوز أوروبا المادية بلا إله والحياة مادة، فلا زلنا في خليج مهبط الوحي من السماء، بروح التواضع والتسامح المتوارثين ممن بُعث ليُتمّم مكارم الأخلاق، ومن الأخلاق أن نتّحد ولانفترق، فلنتّحد يا إخوتي أبناء الخليج التعاوني، إلي أن يحين موعد إعلان الآباء رفع راية الخليج الاتحادي.