يعيشون في الأزقة ويجوبون الشوارع هربا من صدمات تعرضوا لها جعلتهم أشبه بالأموات ولكنهم علي قيد الحياة، يشعرون أن الشارع بات ملاذهم وملجأهم بعد أن تخلي عنهم أحباؤهم وقست عليهم الحياة، تخبئ نظرات عيونهم عشرات القصص المأساوية من هجر أبناء وقسوة أحباء وغدر أقارب. إنهم المشردون الذين يتناثرون بجميع شوارع المحروسة ولا توجد إحصائية رسمية بأعدادهم إلي الآن.. علي الجهة المقابلة نظرات حانية تتابعهم وترصد رحلتهم اليومية في الشارع تتحين اللحظة المناسبة للاقتراب منهم والتحدث معهم لإقناعهم بأن الحياة حلوة وأبناء الحلال كثر إنهم "فريق بسمة لإيواء المشردين "مجموعة من الشباب الجامعي قرروا تكوين فريق عمل لإنقاذ المشردين من كافة ربوع الجمهورية واحتضانهم في الدار التي أنشأوها بمحافظة الشرقية لتكون أول دار من نوعها بمصر لرعاية تلك الفئة صحيا ونفسيا وليس هذا فحسب بل نجحوا في إعادة عشرات الحالات إلي ذويهم الذين تعهدوا بحسن رعايتهم لينالوا دعوات صادقة وتشجيعا من المحيطين بهم. لا يحملون في زياراتهم تلك سوي أدوات النظافة الشخصية وملابس جديدة ليخوضوا حربا مع المشرد لإقناعه بتغيير حياته والذهاب معهم لمأوي آمن وآدمي ورغم تعرضهم لمضايقات ونفور من قبلهم لكنهم لا يستسلمون ويعيدون الكرة مرة أخري ،يساورهم الأمل في النجاح ، يستعينون بوسائل التواصل الاجتماعي لعرض فكرتهم وقد وصل عدد المتطوعين معهم لأكثر من 150متطوعا ومتطوعة ولكنهم يواجهون العبء الأكبر ألا وهو تمويل نشاطهم القائم علي التبرعات والمعونات فقط. "آخرساعة "زارت تلك الدار الكائنة بشارع السلام خلف جامعة الزقازيق والمخصصة للسيدات الواصل عددهم إلي أربعين حالة تتباين أعمارهن السنية وظروفهن الحياتية ولكنهن استطاعن عقد صداقات فيما بينهن باتت أقوي من علاقات الأخوة التي افتقدنها وحرمن منها. جمعية "بسمة لإيواء المشردين "تم ترخيصها من قبل وزارة التضامن الاجتماعي في بداية العام المنصرم .وهو مبني حديث لايزيد عن ثلاثة أدوار يضم أكثر من عشر غرف تحتضن الحالات ومطبخا كبيرا مزودا بكافة الوسائل ناهيك عن الحمامات والأثاث المنزلي.. اقتربت من النزيلة الأكبر سنا وتدعي عواطف حلمي يوسف من سكان منطقة محرم بك بالاسكندرية ،سيدة تخطت السبعين عاما كستها التجاعيد وخطوط الزمن القاسية لكنها تحمل بشاشة ونقاء سريرة يفتقده الكثيرون من الأصحاء، مسيحية، عاشت معظم سنوات عمرها كراهبة بأحد الأديرة لاتتذكر سوي صلاتها وترتيلاتها والتبتل باسم مريم العذراء ورضيعها يسوع.. حاولت التحدث معها عن سنوات عمرها السابقة لاتتذكر شيئا سوي إقامتها لدي إحدي صديقاتها وتدعي "مدام لولا "وبالتحدث مع إحدي المتطوعات عن حالتها قالت إنه تم العثور عليها في أحد شوارع الإسكندرية وهي في حالة صحية صعبة وبمجرد وصولها الدار تم تقديم العناية لها حتي تعافت لكن لم يتم الاستدلال علي أي من أهلها أو ذويها. إلا أن السيدة عواطف لم تكف عن الضحك والتحدث مع صديقتها المقربة بالدار،تجاورها في الإقامة والنوم ، تشعر معها بأمان وثقة افتقدتها علي مدار سنوات حياتها ،إنها السيدة فاطمة أحمد صالح إحدي النزيلات وهي من سكان الإسكندرية أيضا حباها الله بكبرياء وعزة نفس تشعرك بمدي قوتها وتحملها لحياة قاسية وقسوة أقارب حاربوها وطاردوها ليستقر بها المقام في الشارع. بمجرد اقترابي منها حتي شعرت بتوهج عينيها ونفور عروقها عندما تحدثت عن حياتها السابقة فقالت:أبلغ من العمر 65عاما وولدت بالإسكندرية وكنت وحيدة لوالدي مما جعلهما يسبغان عليّ اهتماما وتدليلا زائدا وقد حصلت علي بكالوريوس التجارة من جامعة الاسكندرية وتم تعييني بإدارة كلية الفنون التطبيقية وحصلت علي عدة علاوات تشجيعية من الجامعة لكفاءتي والتفاني في العمل حتي وقعت في الحب فأحببت زميلا لي وقمت بالارتباط به عنوة وضد رغبة أبناء عمومتي الذين تقلدوا مناصب قيادية بعد وفاة والدي ،وقاموا بمحاربتي لكنني قاومتهم وتزوجت به، واستمرت محاولاتهم الدنيئة للإيقاع بيننا ونجحوا في ذلك وتم طلاقنا وعند زواجي للمرة الثانية قاموا أيضا بانتهاج كافة الأساليب لتدمير حياتي الزوجية لتبوء حياتي بالفشل ويتم الطلاق للمرة الثانية. وحول حياتها بالدار تقول:أعيش حاليا في استقرار نفسي علي الرغم من مطاردات أقاربي لي إلي الآن فأنا وصمة عار بجبينهم علي حد اعتقادهم وأقوم بمساعدة نزيلات الدار وأمارس هواياتي مابين القراءة ومتابعة البرامج الحوارية وقضاء أحلي أوقاتي مع الأم عواطف والتي أشعر معها براحة نفسية كبري، ولكن الغريب أن السيدة فاطمة لم تندم علي قرار عدم الإنجاب معللة ذلك بأن أبناءها كانوا سيقومون بعقابها وفعل ماقام به أبناء عمومتها لذا اتخذت ذاك القرار دون إبداء أي ندم عليه، إلا أن الحالة التي استلفتت انتباهي ل"مني "وهي سيدة تعدت الأربعين عاما تمسك بدمية كبيرة محتضنة إياها بقوة أطلقت عليها اسم "نوسة"تهتم بكافة شؤونها فتقوم بتغيير ملابسها وتمشيط شعرها ،لاتفارقها أبدا مهما حدث في نومها وجلوسها ،تتحدث معها بدلال وتعدها بأن يرجعا سويا لمنزلهما مرة أخري ،تهاجم من يقترب من طفلتها أو يلمسها. وبعد جولتنا في الدار المخصصة للسيدات قمنا بزيارة مبني الرجال في كفر الزقازيق والتي لاتبعد عن الدار الأم سوي عدة كيلو مترات ولا يختلف هذا المبني عن سابقه فنزلاء الدار تحلقوا حول بعضهم البعض، يحاولون سرقة البسمات ووضعها علي شفاههم ،يحاولون نسيان الآلام التي تعرضوا لها معتمدين علي قوة البأس التي حباها الله بها. عم صبحي يوسف -60عاما - أحد النزلاء قضي أكثر من 15عاما بأحد شوارع الزقازيق بعد خسارته معظم أمواله التي جناها أثناء سفره للعراق فقد كان يعمل مدرس لغة عربية هناك وليس هذا فحسب بل قام بزيارة أكثر من ثلاث دول عربية أبرزها قطر والبحرين والعراق ليعود بعد رحلته تلك دون مأوي وأهل ليضطر للعيش في الشارع. يقول: قاسيت كثيرا في حياتي وأثناء رحلاتي الخارجية خسرت معظم أموالي بحرب العراق لأعود إلي مصر دون مأوي أو منزل لأضطر العيش في الشارع معتمدا علي تعليمي بعض الأطفال دروس اللغة العربية التي أتقنها واستمرت اقامتي بالشارع لاكثر من 15عاما حتي تم اصطحابي من قبل القائمين علي الدار لأعيش في كنفهم محاطا بكل الحب والأمان وأستطيع القيام بكافة هواياتي من قراءة واطلاع. وحول نشاط تلك الدار يقول محمود درج مؤسس الفكرة والطالب بكلية الهندسة بإحدي الجامعات الخاصة:جاءت فكرة تأسيس دار للمشردين بعد أن لاحظت زيادة أعداد المشردين بالشارع وكانت نواة الفكرة هم أطفال الشوارع ولكن وجدت أن تبني عدة حالات منهم وإيواءهم صعب للغاية نظرا للتعقيدات الإدارية وتشابك عدة جهات مع بعضها البعض لأقرر جمع المشردين وتأسيس صفحة علي الفيس بوك لنشر صورهم وقد نجحنا في إعادة أكثر من 20مشردا لذويهم. وعن أبرز الصعوبات التي يواجهها قال: بالطبع إقناع مشرد عاش أكثر من عدة سنوات بالشارع لاصطحابه معنا هي مهمة قاسية للغاية وقد تصل لأسابيع حتي يشعر معنا بالصدق والأمان وبمجرد اقتناعه نقوم بتنظيفه وتعقيمه وتقديم وجبة غذائية له وبمجرد الوصول نقوم بالكشف عليه في ظل البروتوكول والتعاون مع مستششفي العزازي بأبو حماد ويتم تقديم الأدوية المناسبة له مع متابعته نفسيا، وعن أحلامه للدار في الفترة القادمة قال:قمنا بتأجير مبني جديد في مدينة العاشر من رمضان ولكن الدار قائمة علي التبرعات والمعونات ونتمني تطبيق التجربة في كافة أنحاء الجمهورية. أما هند مصطفي إحدي المتطوعات فقالت: "بمجرد وصول النزيل إلي الدار حتي نقوم بتنظيفه وتعقيمه ثم محاولة التحدث معه وعادة ما نستعين بجيران الشارع الذي يقيم فيه لمساعدتنا للوصول لأي معلومة تخصه ولكن أغلب الحالات تتعرض لإيذاء نفسي قاس مما يجعلها غير قادرة علي الكلام ونتفهم ذلك وبناء الثقة معهم يجعلهم يتحدثون معنا ويروون لنا ظروفهم".