مثلما هبت رياح التغيير علي البلدان العربية وأسقطت أنظمة ديكتاتورية مستبدة، انتقلت لتشعل الاحتجاجات والإضرابات في مشارق الأرض ومغاربها، فبدأت شرارتها علي أيدي حركة "احتلال وول ستريت" شارع المال ورمز النظام الرأسمالي الظالم، الذي يشجع الجشع واجتاحت الولاياتالأمريكية ثم توهجت في كل الميادين الأوروبية والآسيوية، انتفض المحتجون علي الأوضاع الاقتصادية المتردية.. وثاروا علي الرأسمالية المتوحشة وعلي المصرفيين المنتفعين بها.. تذمروا من سياسات حكومات بلادهم ودعمهم لرجال الأعمال وأصحاب الشركات تاركين شعوبهم تواجه مصيرها. بدت آثار يوم غضب عالمي ضد المصرفيين والساسة بعد احتجاجات اتسمت بالسلمية شهدتها ما يقرب من 70 مدينة من شرق آسيا إلي أوروبا وأمريكا الشمالية.. احتجاجات سلمية نددت بالرأسمالية وعدم المساواة والأزمة الاقتصادية. شارك محتجون في اليابان وفي أنحاء جنوب شرق آسيا في التظاهرات لكن بأعداد لم تتجاوز المئات علي الأكثر. وشهدت أيضاً اليونان موجة من الإضرابات التي جاء شعارها مناهضة السياسات المالية الرأسمالية المجحفة بحق الشعوب في العيش الكريم وامتلأ الميدان المواجه للبرلمان بالشباب الغاضبين فيما شهدت الميادين الأخري في المدن اليونانية المختلفة مظاهرات مشابهة انضم إليها مختلف الطبقات من مختلف الأعمار، واندلعت أعمال شغب وعنف في إيطاليا. وجاءت هذه الاحتجاجات عقب الأزمة التي تتخبط أوروبا فيها حالياً التي كشفت أن منطقة اليورو بحاجة إلي تريليون يورو بالإضافة إلي تمويل ضخم من أجل إعادة رسملة البنوك وضمان تغطية الديون السيادية وفي الحقيقة كان وجود اليورو حتي الآن بمثابة حصن ضد الكوارث فلولا وجوده لكانت الدول الأوروبية انهارت واحدة تلو الأخري تحت تأثير الديون وتدهور أنظمة المصارف فيها. وذكرت صحيفة الجارديان البريطانية أنه في حال انهيار عملة اليورو فإن سلسلة من الإخفاقات المصرفية ستلحق انهياره وستجر الدول الأوروبية كلها إلي الهاوية. ويري خبراء اقتصاديون أن أزمة الديون السيادية في أوروبا لا تسير بشكل واضح نحو الحل بل نحو مزيد من التأزم مما كان له الأثر علي الولاياتالمتحدة التي لا يبدو أنها قادرة علي تجاوز أزماتها الخانقة وبالتالي فهي ووفق كثير من المحللين لن تستطيع مواجهة أزمة جديدة قد تزعزع أركان اقتصادها المهتز. وتري حركة "احتلال وول ستريت" أن الإدارة الأمريكية تدخلت لحماية الشركات برأس مال الشعب، ولم تتدخل لحماية المواطن العادي الذي فقد عمله، ويقولون ما كان لواشنطن أن تتدخل إذا كانت فعلا تطبق الرأسمالية. فمنذ بداية الأزمة المالية العالمية عام 2008بدأت الإدارة الأمريكية بوضع خطة لإنقاذ البنوك والشركات المالية التي يملكها الأثرياء، واعتقدت الإدارة الأمريكية أنها بإنقاذها لوول ستريت، بما ضخته من أموال، قد خدمت الفقراء، لأن هذه البنوك هي التي توفر الوظائف لهم. وعلي عكس ما هو متوقع قامت المصارف الأمريكية برفض إقراض الكثير من القطاعات الصناعية والتجارية التي واجهت أزمات مالية أجبرتها علي إلغاء الكثير من الوظائف، بل وأخذت الأموال التي ضخها الاحتياط الفيدرالي لتستثمرها خارج الولاياتالمتحدة وتتاجر بها في الأسواق الآسيوية وأسواق الدول الناشئة الأخري، دون اعتبار لحقيقة أن هذه الأموال دفعت في المقام الأول والأخير لإخراج الاقتصاد من الكساد إلي الانتعاش، وتوفير فرص الوظائف للمواطن الأمريكي. بهذا المنطق يعتقد الكثير من خبراء المال والاقتصاد أن خطة التحفيز الشجاعة والضخمة التي نفذها بنك الاحتياط الفيدرالي، خطة ناجحة من حيث المبدأ، وأن أسباب الفشل ترجع إلي سياسة البنوك التجارية أو شركات وول ستريت. لذا قرر من دعوا إلي هذه الحركة الاحتجاجية العالمية بإصدار بيان تبناه ودعمه الكثير من المفكرين ورجال الأعمال، من بينهم نعومي تشومسكي، ونعومي كلاين، فإن فيهم أيضاً ممن يؤمنون بالرأسمالية واقتصاد السوق، لكنهم فقدوا ثقتهم فيها بعد أن اختطفها النظام الحالي، ويتهمون الأداء الاقتصادي والسياسي بأنه يتناقض مع مبادئ الديمقراطية والرأسمالية. ويقول هاري براون العالم الأمريكي، إن واشنطن ليست دولة ديمقراطية ولكنها دولة تحكم سرياً من قبل مجموعة من أصحاب المصالح، فالديمقراطية الحقيقية من وجهة نظره، بأن يأمر الشعب الكونجرس بإلغاء الإعفاءات الضريبية علي الأثرياء وإلغاء خطط إنقاذ البنوك بدلاً من رفع سقف الدين. ودعا هذا البيان إلي دمقرطة النظام المالي العالمي الحالي، خاصة بعد أن زادت الهوة بين الأغنياء والفقراء خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية، واتسع التفاوت الذي بدأ في بريطانيا وأمريكا في أواخر السبعينات، بين الطبقتين الفقيرة والغنية بشكل واضح. وأظهرت دراسة لمنظمة التنمية والتعاون الأوروبي نشرت في مايو الماضي، أن دولاً مثل الدنمارك وألمانيا والسويد والتي كان فيها التفاوت في الدخول منخفضا، لم تعد بمنأي عن خطر التفاوت الكبير، والنتيجة هي أنه في دول الغرب الصناعية يزيد متوسط دخل أغني 10٪ من السكان حوالي تسعة أضعاف عن أفقر 10٪ وهذا هو الفارق الهائل الذي يسبب المشاكل. وشبه الكاتب "أندرياس ويتام سميث" في مقال بصحيفة الإندبندنت البريطانية، إن ما يحدث حاليا من ثورات واحتجاجات ضد العولمة والرأسمالية في أنحاء متفرقة من العالم يشبه إلي حد بعيد الظروف التي سبقت ثورات أوروبا عام 1848 كما يصف هذه الاضطرابات مثل التي حدثت في أعقاب الحرب العالمية الأولي في فرنسا وألمانيا. وحذر الكاتب من خطورة استمرار هذه الاحتجاجات، مؤكداً أن هذا الاختلاف المفرط يسبب المتاعب ويقود إلي الانفجار، في ظل الركود الاقتصادي والبطالة المتزايدة، والصعوبات البالغة التي تواجه الشباب في الحصول علي فرص العمل، والضغط علي الدخول والمرتبات وارتفاع التضخم وارتفاع الإيجارات، فإن النتيجة الحتمية هي خروج الشباب إلي الشوارع كما حدث أمام كاتدرائية "سانت بول" في بريطانيا حيث رفع الشباب شعارات ضد عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والنظام غير العادل الذي يخدم الأغنياء والأقوياء، مستلهمين من الثورات العربية "الشعب يريد إسقاط النظام الرأسمالي الغربي" علي غرار "الشعب يريد إسقاط نظام بن علي ومبارك والقذافي والأسد وصالح". . ويشير الكاتب نيكولاس كريستوف في مقاله بصحيفة نيويورك تايمز إلي عدم العدالة في توزيع الثروات في الولاياتالمتحدة، حيث يؤكد أن أغني 400 أمريكي لديهم ثروة أكبر من مجموع 150 مليون أمريكي. وللإشارة، ويركز المحتجون ضد النظام الرأسمالي في الغرب عموماً احتجاجاتهم ضد سياسة التقشف التي تتبعها الحكومات الغربية الخاصة، التي يتضرر منها المواطنون البسطاء، ويطالبون بمزيد من العدالة الاجتماعية، وبزيادة الضرائب المفروضة علي الأغنياء.