بعد شهور من نجاح ثورتي مصر وتونس، فوجئ الجميع في منتصف أكتوبر بانطلاق مظاهرات غاضبة في أغلب دول العالم وتحديدا في عقر دار الغرب، الأمر الذي أثار تساؤلات لا حصر لها حول ما إذا كانت تلك الاحتجاجات رد فعل متأخر على الأزمة المالية عام 2008؟, أم إنها مؤشر على انطلاق "الربيع العالمي" وأفول نجم النظام الرأسمالي؟ ورغم أنه من المبكر جدا تقديم إجابة وافية في هذا الصدد, إلا أن حركة الاحتجاجات وما تخللها من أعمال عنف ترجح أن الأسوأ مازال بالانتظار في حال تواصلت "تجاوزات الرأسمالية" و"ظلم النظام المالي العالمي", خاصة وأن المتظاهرين ركزوا على انتقاد أعلى السلطات المالية في العالم مثل "بورصة وول ستريت" في نيويورك وحي "سيتي" المالي في لندن والبنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت . البداية فى مدريد ولعل إلقاء نظرة على نشأة الحركة الاحتجاجية وانتشارها كالنار في الهشيم في أنحاء العالم يدعم أيضا صحة ما سبق, فهي انطلقت في 15 مايو 2011 في مدريد بأسبانيا ، أي قبل حوالي خمسة أشهر, متأثرة بشكل أو بآخر بثورات الربيع العربي . وسرعان ما امتدت إلى داخل الولاياتالمتحدة ذاتها عبر حركة "احتلوا وول ستريت" في نيويورك , لتنتشر بعد ذلك في حوالي مائتي مدينة أمريكية . ففى 17 سبتمبر الماضي، تظاهر آلاف الأمريكيين بالقرب من شارع وول ستريت في نيويورك، احتجاجا على ما أسموه الجشع والفساد والاقتطاعات في الميزانيات الاجتماعية. ولم يقف الأمر عند ما سبق، فقد حاول المتظاهرون احتلال شارع وول ستريت، الذي يرمز إلى النشاط المالي العالمي، إلا أن الشرطة سارعت بإغلاق جميع الطرق والمنافذ المؤدية إليه، كما قامت بإغلاق الشوارع المتفرعة منه والتي توجد فيها كبرى المصارف الأمريكية . ورغم الإجراءات السابقة، إلا أن المتظاهرين شددوا على التصعيد وأعربوا عن أملهم في تحويل شارع وول ستريت إلى "ميدان تحرير أمريكي" على غرار ميدان التحرير في القاهرة عندما تظاهر ملايين المصريين وأسقطوا نظام حسني مبارك في فبراير الماضي . كما رفع المتظاهرون لافتات كتب عليها "الفساد، هذا يكفي ، يكفي اقتطاعات في الميزانيات، نيويورك تقول لا لجشع وول ستريت". بل ونقلت وسائل الإعلام الأمريكية عن بيان للمتظاهرين على شبكة الإنترنت القول حينها :"الشيء الوحيد الذي يجمعنا هو أننا نشكل 99% من الشعب الأمريكي الذي لم يعد يتغاضى عن جشع وفساد ال1% المتبقي" ، وذلك في إشارة إلى النظام المالي الذي تمثله بورصة "وول ستريت " والذي يصب فقط في صالح الأغنياء والأقوياء . وسرعان ما امتدت الاحتجاجات السابقة إلى حوالي مائتي مدينة أمريكية ، بل وفوجئ الجميع بدعوات عبر الإنترنت لاحتجاجات عالمية واسعة في 15 أكتوبر تتخذ من "احتلوا وول ستريت" شعارا لها ويقول منظموها إنها تطال 951 مدينة في 82 بلدا. وجاء في بيان على الصفحة الرئيسة لموقع "متحدون من أجل تغيير عالمي" الذي أنشأه المنظمون لتنسيق تحركاتهم أن الاحتجاجات ستمتد من أمريكا إلى آسيا ومن إفريقيا إلى أوروبا ضد السياسات الاقتصادية التي أنتجت الفقر والفوارق الاجتماعية وشجعت الجشع والطمع . وتابع البيان "سنلتقي في الساحات والشوارع لندشن التغيير العالمي الذي نريده، سنتظاهر سلميا وسنطالب وسنحتج إلى أن نحقق هذا التغيير". الربيع العالمي وبالفعل ، انطلقت الاحتجاجات في موعدها في مدن باستراليا ونيوزيلندا ، ثم انتقلت إلى آسيا وأوروبا وأنحاء أخرى من العالم لتعود مساء 15 أكتوبر إلى نقطة انطلاقها في نيويورك , فيما أطلق عليه بوادر "الربيع العالمي". وكانت البداية في هذا الصدد في الشارع الرئيس في أوكلاند بنيوزيلندا، حيث ردد حوالي ثلاثة آلاف شخص الهتافات وقرعوا الطبول احتجاجا على ما سموه جشع الشركات. وفي سيدني بأستراليا , تظاهر نحو ألفي شخص من بينهم شيوعيون ونقابيون خارج مقر بنك الاحتياطي . كما خرج المئات في العاصمة اليابانية طوكيو بمشاركة محتجين مناهضين للطاقة النووية، وفي مانيلا عاصمة الفلبين, نظم عشرات الأشخاص مسيرة إلى السفارة الأمريكية, رافعين لافتات تقول "تسقط الإمبريالية الأمريكية" و"الفلبين ليست للبيع". وتجمع أيضا أكثر من ألف شخص عند بورصة تايبيه وهتفوا "نحن 99% من تايوان" وقالوا إن النمو الاقتصادي لم يصب إلا في مصلحة الشركات في حين أن أجور الطبقة الوسطى لا تكاد تغطي تكاليف الإسكان والتعليم والرعاية. وسار كذلك حوالى 250 كوريا جنوبيا في شوارع سول احتجاجا على ما وصفوه جشع الشركات واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وحمل الناشطون لافتات بالإنجليزية والكورية كتب عليها "أنا لست صرافكم الآلي" و"ضرائب لرؤوس المال" و"وظائف للعمال". كما شهدت جنوب إفريقيا مظاهرات مماثلة في مدن رئيسة منها جوهانسبيرج ودوربان وكيب تاون ، وحمل عشرات المتظاهرين لافتات بعثت برسائل سياسية منها "فلتنصتوا للشعب" و"فليتقاسم الشعب الثروات". أعمال عنف في روما وفي أوروبا , شهدت إيطاليا قيام متظاهرين بإشعال النار في مبنى تابع لوزارة الدفاع في روما ، وفي محاكاة لاحتلال متنزه "زوكوتي" قرب وول ستريت في نيويورك , اعتصم بعض المحتجين قبالة مقر بنك إيطاليا المركزي . وتجمع أيضا نحو ألف شخص في مدينة فرانكفورت العاصمة المالية لألمانيا أمام مقر البنك المركزي الأوروبي ، احتجاجا على ما وصفوه "تجاوزات الرأسمالية" ورفع المتظاهرون لافتات كتب عليها "أنتم تضاربون بحياتنا" و"أنتم تقامرون بمستقبلنا". وفي العاصمة البريطانية لندن , شارك نحو خمسة آلاف شخص في مظاهرات تحت عنوان "احتلوا بورصة لندن"، والتي حظيت بتأييد ما يزيد على 15 ألف شخص على موقع "فيسبوك", حسبما ذكرت صحيفة "الجارديان". وفي نيويورك , دعت حركة "احتلوا وول ستريت" التي تحتل حديقة "زوكوتي" منذ 17 سبتمبر الماضي إلى التجمع في ساحة "تايمز سكوير" , وتجمع المئات أيضا في طوكيو باليابان ومدريد باسبانيا وكذلك في زيورخ بسويسرا وأثينا باليونان . ورغم أن هناك أصواتا شككت في استمرارية الحركة الاحتجاجية العالمية بسبب عدم بروز زعيم واضح يقودها ، إلا أن الهتافات التي تخللتها والتحليلات التي صاحبتها ترجح أنها مجرد "بروفة" على طريق التصدي ل "الرأسمالية المتوحشة" , خاصة وأن هناك تحذيرات من أن العالم على شفا أزمة "كساد" جديدة . فالدعوات إلى احتجاجات 15 أكتوبر والتي نشطت على صفحات موقعي التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"تويتر" شددت على جشع الشركات وأكدت أن القوى الحاكمة تخدم مصلحة قلة قليلة وتتجاهل أوضاع الأغلبية عبر سياسات التقشف الحكومية . وقال المنظمون على موقعهم الإلكتروني :" إن هدفنا هو إطلاق التغيير العالمي الذي نريده , بصوت موحد سنجعل السياسيين والنخب المالية يعملون لخدمتنا , إن الأمر بيدنا نحن الشعوب لنقرر مستقبلنا". كابوس الثلاثينيات ورغم أن الشعارات السابقة تبدو مختلفة بعض الشيء عن تلك التي تم تردديها في الثورات العربية والتي ركزت على إسقاط الأنظمة الاستبدادية , إلا أن الكاتب الأمريكي ديفيد إغناتيوس أشار إلى أن حركة "احتلوا وول ستريت" تشبه في شكلها ومحتواها الثورات الشعبية التي تشهدها الساحات العربية إلى حد كبير. وأضاف إغناتيوس في مقال نشرته له صحيفة "واشنطن بوست" في منتصف أكتوبر أن الحركات الاحتجاجية في أنحاء متفرقة من العالم هي ثورات ضد جماعات النخب ومن أجل التغيير وتتخذ شكلا من أشكال السخط المتمثلة في "الربيع العالمي". وتابع " قد يكون للناشطين المناهضين للشركات الذين تجمعوا في منهاتن بنيويورك أجندة مختلفة عن تلك التي للمتظاهرين في ميدان التحرير في القاهرة، أو ربما مختلفة عن أهداف مظاهرات الصيف الماضي التي وصلت درجة اندلاع أعمال الشغب في شوارع كل من بريطانيا واليونان، أو عن تلك المسيرات المناهضة للفساد في نيودلهي، ولكنها جميعها تشترك في بعض المضامين". واستطرد " ففي حين تفتقر هذه الحركات في معظمها للقيادة أو للأيديولوجيات الواضحة لدرجة يصعب معها تصنيفها، فإن المحتجين يشتركون في بعض الأمور الأساسية، والتي من بينها رفض النخب السياسية التقليدية , كما أن من بين الأمور المشتركة بين الاحتجاجات العالمية هو الاعتقاد بأن العولمة تعود بالفائدة على الأغنياء أكثر من الجماهير، وكذلك الغضب بشأن الفساد السياسي، إضافة إلى الترابط والقوة الجمعية التي تعززها شبكات التواصل مثل فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى". ورغم أن إغناتيوس شدد على أن الربيع العربي يبقى الحركة الشعبية في العالم الأكثر قوة ، إلا أنه سرعان ما أشار مجددا إلى أن ما يجمع بين الاحتجاجات الشعبية العالمية هو كونها تعبر عن السخط على القادة الذين يعجزون عن الحفاظ على العدالة الاجتماعية، إضافة إلى الغضب إثر التداعيات السلبية للتغيرات الاقتصادية العالمية. وحذر الكاتب الأمريكي في هذا الصدد من احتمال تعاظم الغضب الشعبي في العالم ضد الرأسمالية في ظل ما وصفه بالجشع والحماقة المرتكبة في السنوات الأخيرة، مما قد يجعل الأمور تنفلت من زمامها لتماثل في صداها تلك التغيرات الاقتصادية في ثلاثينيات القرن الماضي، فيزداد الفارق بين اليسار واليمين، وبالتالي تنشأ حركات خطيرة تعبر عن استيائها عبر الاحتكام للسلاح. المأزق الأمريكي ويبدو أن الأمر لن يقتصر على احتمال اشتعال حدة الغضب الشعبي في العالم ، حيث تساءلت الكاتبة الأمريكية كاترينا هوفيل عما إذا كانت ما أسمتها شرارة حركة "احتلوا وول ستريت" ستؤدي إلى إعادة تشكيل سياسات الولاياتالمتحدة؟. وقالت الكاتبة في مقال نشرته لها صحيفة "واشنطن بوست" في منتصف أكتوبر إن منظمي الاحتجاجات استلهموا الفكرة من أولئك الذين تظاهروا في بلدان أخرى في العالم وممن احتلوا ميادين وساحات في مدريد وأثينا وتونس والقاهرة وغيرها. ونسبت هوفيل إلى أحد منظمي حركة "احتلوا وول ستريت" ديفيد غرابر قوله إن نجاح طريقتهم في الاحتجاج اقتضت احتلال إحدى الساحات العامة ومن ثم بدء التخطيط منها باعتبارها تشكل مقر قيادة للاحتجاجات ونقطة انطلاق إلى مواقع أخرى. وأضافت الكاتبة أن الأيام القادمة تفرض تحديات على حركة محتجي وول ستريت الوليدة وأن نجاح الحركة في الاختبارات القادمة من شأنه تأجيج الشارع وبالتالي إبقاء الشعلة مضاءة وإعادة تشكيل السياسات الأمريكية برمتها. واللافت للانتباه أن صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية كانت ذكرت أيضا في 18 سبتمبر الماضي أن الربيع العربي تسبب في تحديات وسيناريوهات سيئة لم يتخيلها البيت الأبيض. وأضافت الصحيفة " هذه التحديات تعرقل أو على الأقل تقلل من النفوذ الأمريكي في المنطقة، فالرئيس الفلسطيني يسعى لعضوية كاملة في الأممالمتحدة وسط صد محموم من الدبلوماسية الأمريكية، وجاء تحركه وسط تدهور سريع في العلاقات بين مصر وإسرائيل، وبين إسرائيل وتركيا، وهذه الأطراف الثلاثة كانت أقوى حلفاء واشنطن في المنطقة". وتابعت أن الدبلوماسية الأمريكية لم تكن سهلة في الشرق الأوسط أبدا، ولكن الأحداث الأخيرة في المنطقة أثارت مخاوف الولاياتالمتحدة من أنها قد تكون مجبرة على اختيار موقف دبلوماسي مع أحد أصدقائها، أو في الحال الأسوأ حدوث النزاعات العسكرية بين هؤلاء الأصدقاء. واستطردت الصحيفة " هناك نتائج افتراضية مرعبة حاليا ، فماذا سيحدث لو أن تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي والتي تلتزم الولاياتالمتحدة بالدفاع عنها بموجب معاهدة الحلف أرسلت سفنا حربية لمرافقة السفن إلى غزة في تحد للحصار الإسرائيلي كما هدد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان؟". وأشارت "نيويورك تايمز" أيضا إلى أن أحداثا مثل طرد السفير الإسرائيلي من أنقرة واقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة والمظاهرات المعادية أمام السفارة الإسرائيلية في الأردن أشعلت وضعا طارئا وأجبرت إدارة أوباما على إعادة تقييم بعض الافتراضات الأساسية في السياسة الأمريكية. ونقلت الصحيفة عن روبرت مالي وهو محلل بالمجموعة الدولية للأزمات قوله :"أصبحت المنطقة غير متماسكة، وكل الأدوات التي كانت تتعامل بها أمريكا في الماضي لم تعد صالحة اليوم". والخلاصة أن مأزق الولاياتالمتحدة يتصاعد يوما بعد يوم بسبب أخطائها في العراق وأفغانستان وتداعيات ثورات الربيع العربي , ولذا ظهر الارتباك واضحا على الرئيس باراك أوباما الذي لم يستطع فعل شيء سوى انتقاد فشل أوروبا في التغلب على الأزمة المالية لمنطقة اليورو والاستغاثة بمجموعة العشرين التي تشكل 85% من الاقتصاد العالمي لإنقاذ بلاده من تفاقم معدلات البطالة وشبح الركود.