سعر الدولار اليوم في 10 بنوك ببداية تعاملات الاثنين    حماية المستهلك: شركة الشحن شريكًا في مخالفة نقل السلع المغشوشة .. قريبا    توقعات حول نتائج لقاء زيلينسكي وترامب في الولايات المتحدة    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    المعهد القومي للمعايرة يحصل على الاعتراف الدولي ل 19 قدرة قياس جديدة    الرئيس الأوكراني يصل إلى الولايات المتحدة للقاء ترامب    جوزيف عون: لبنان على مسار الازدهار.. والورقة الأمريكية تفتح باب التعاون مع سوريا    مصابون إثر استهداف طائرات الاحتلال شقة سكنية وسط قطاع غزة    موعد مباراة الجزائر والنيجر في كأس أمم أفريقيا للمحليين    "على أغاني عمر كمال والجسمي".. إمام عاشور ينشر صورة مع والده ووالدته    الحالة المرورية اليوم، انسيابية على أغلب المحاور بالقاهرة والجيزة مع تباطؤ في بعض المناطق    تحذير عاجل من التعليم بشأن استخدام أسوار المدارس في أغراض الدعاية والإعلان    ريهام عبدالغفور تنعي تيمور تيمور: فراقك وجعني    انخفاض سعر الذهب اليوم في مصر ببداية تعاملات الاثنين    بكم العدس والفاصوليا؟.. أسعار البقوليات في أسواق الشرقية اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    كم سجل عيار 21 الآن؟ أسعار الذهب اليوم في بداية تعاملات الاثنين 18 أغسطس 2025    يسرا عن رحيل «تيمور تيمور»: صعب تلاقي حد بالصفات دي في حياتك    حكيم يشعل أجواء الساحل الشمالي الجمعة المقبلة بأجمل أغانيه    وظائف شاغرة ب«الكهرباء».. التخصصات المطلوبة وآخر موعد للتقديم    منها الشاي والقهوة.. مشروبات شائعة تحتوي على جزيئات بلاستيكية دقيقة    «حالتك سيئة وراجع نفسك».. أيمن الرمادي يطالب باستبعاد نجم الزمالك من التشكيل    تحرك الدفعة ال 17من شاحنات المساعدات إلي معبر كرم أبو سالم    مصرع سيدة في حادث سير ب شمال سيناء    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    كل ما تريد معرفته عن مسابقة توظيف بريد الجزائر 2025.. الموعد والشروط وطريقة التسجيل    قرارات صارمة من وزارة التربية والتعليم استعدادًا للعام الدراسي الجديد 20262025 (تعرف عليها)    إساءات للذات الإلهية.. جامعة الأزهر فرع أسيوط ترد على شكوى أستاذة عن توقف راتبها    تامر عبدالمنعم: «سينما الشعب» تتيح الفن للجميع وتدعم مواجهة التطرف    ترامب يهاجم «وسائل الإعلام الكاذبة» بشأن اختيار مكان انعقاد قمته مع بوتين    "أي حكم يغلط يتحاسب".. خبير تحكيمي يعلق على طرد محمد هاني بمباراة الأهلي وفاركو    أرتفاع الحديد.. أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    وصفة مغذية وسهلة التحضير، طريقة عمل كبد الفراخ    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    قد يكون مؤشر على مشكلة صحية.. أبرز أسباب تورم القدمين    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    هاجر الشرنوبي تدعو ل أنغام: «ربنا يعفي عنها»    احتجاجات غاضبة أمام مقر نتنياهو تتحول إلى مواجهات عنيفة    الأمم المتحدة: نصف مليون فلسطيني في غزة مهددون بالمجاعة    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    مصرع طفل أسفل عجلات القطار في أسيوط    التحقيق في مقتل لاعبة جودو برصاص زوجها داخل شقتهما بالإسكندرية    بحضور وزير قطاع الأعمال.. تخرج دفعة جديدة ب «الدراسات العليا في الإدارة»    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    السكة الحديد: تشغيل القطار الخامس لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    أمسية دينية بلمسة ياسين التهامى فى حفل مهرجان القلعة    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في واقعة مطاردة طريق الواحات    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صدق أو لا تصدق.. ثورة جياع في واشنطن وشباب نيويورك الغاضب يحاصرون منازل الأثرياء
نشر في القاهرة يوم 18 - 10 - 2011

من الشرق إلي الغرب، انتقلت رياح التغيير و"الثورة" هذه المرة، عندما اندلعت مظاهرات الغضب والاحتجاجات الشعبية العاصفة في "تفاحة أمريكا الكبيرة " نيويورك، منذ السابع عشر من سبتمبر الماضي وعلي مدي عدة أسابيع، معلنة هدفها باحتلال حي المال والأعمال في "وول ستريت "، امتدادا إلي عدة مدن أخري هي بوسطن وواشنطن وسان فرانسيسكو وشيكاغو ولوس انجلوس، ورافعة لشعارات كبيرة هي التغيير الشامل سياسيا واقتصاديا، علي أمل تحويل ساحة الحرية في واشنطن إلي ما أطلق عليه " النموذج الأمريكي " لميدان التحرير في القاهرة . وكان ملفتا إلي حد كبير، أن تكون مطالب المتظاهرين في الولايات المتحدة تتراوح بين الحقوق الاقتصادية وحق المستوي الأفضل للمعيشة، ورفض الاستسلام لحكم " القلة " التي تحتكر السلطة والثروة، ورفض الحياة في مجتمع يملك فيه 1 % كل شئ، فيما لا يمتلك 99 % من المجتمع شيئا وفقا لما أعلنته حركة " احتلوا وول ستريت "، ما يذكرنا بمطالب ثورات " الربيع العربي " التي مزجت بين مطالب الكرامة الوطنية والإنسانية، وحق العيش الكريم في مجتمعات ديمقراطية ونظم عادلة . ويأتي توقيت مظاهرات الغضب في الولايات المتحدة ليضيف مشكلات كبيرة أمام الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي يستعد لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية في2012 علي أمل نيل ثقة الأمريكيين لفترة رئاسة ثانية، بينما تواجه سياساته الداخلية أعلي موجة من النقد بسبب الفشل في تقديم طروحات جذرية لمعالجة الأزمة الاقتصادية المستحكمة في الولايات المتحدة . وقد لفتت حركة الاحتجاجات الشعبية في نيويورك الأنظار إلي خطورة المشكلة الاقتصادية وتداعياتها السلبية، وتوقع الكاتب الاقتصادي الأمريكي بول كروجمان أن تتحول تظاهرات الشباب الغاضبين، علي المدي الطويل، إلي " نقطة تحول " في المسار الأمريكي، و إلي حركة شعبية تصب جام غضبها علي الاتجاهات اليمينية الأمريكية، مشيرا إلي أن " الحكمة ليست حكرا دائما علي من يعملون في وول ستريت، بل ليس لديهم علي الأغلب سوي القليل من الحكمة ". النموذج الثوري أول ما لفت الانتباه في أحداث الاحتجاجات الشعبية في نيويورك والمدن الأمريكية الكبري أنها حاولت استلهام نموذج ثورات " الربيع العربي " التي تجتاح النظم السياسية في المنطقة العربية، وتحديدا نموذج ميدان التحرير في قلب القاهرة، هذا، علي الرغم من أن احتجاجات نيويورك لم تنفجر لسبب مباشر علي غرار أحداث تونس أو مصر، حيث تؤكد مصادر منظمي الحركة الاحتجاجية المسماة "احتلوا وول ستريت " أنه يجري الإعداد لها منذ عدة أشهر ، ومع ذلك فإنه يجري محاولة تقليد النموذج العربي والمصري في التظاهر والتجمع ونصب الخيام والترتيب لاعتصامات طويلة، وتنظيم حلقات عرض للمطالب، ورسم الشعارات والهتافات المعبرة عن مطالب الحركة، وتزويد المعتصمين بوجبات يومية مستمرة، وإقامة مركز طبي، ومطابخ، ومركز إعلامي، وصولا إلي تنظيم حفلات سمرومناقشات ليلية علي غرار ليالي ثورة ميدان التحرير، وعقد الاتفاقات بمواعيد منظمة عبر وسائل الميديا «الفيس بوك وتويتر- الخ». وفيما يبدو أيضا علي أنه من قبيل التشابه في ثورات الشرق والغرب، فإن وسائل الإعلام الأمريكية تجاهلت الحركة الاحتجاجية في بدايتها، مؤكدة أنها مجرد أحداث شغب بفعل " قلة مندسة " وجرت محاولات إعلامية للتعتيم علي الأحداث من خلال التحالف بين أساطين المال والسياسة والإعلام، وجري التهكم والسخرية من جانب المسئولين تجاه الأحداث ووصف البعض المحتجين بأنهم ليسوا سوي " بلطجية " للتعبير عن مطالب مشاغبين، وحركة بلا رأس ولاقيادة ولا مضمون حقيقي، أما المرشح الرئاسي الجمهوري «ميت رومني» فقد أدان المظاهرات ووصفها بأنها " حرب طبقية "، وسخرت قناة سي ان بي سي من المتظاهرين ووصفتهم بأنهم غير جادين. غير أن الواقع أثبت حقائق أكثر خطورة مما توقعته دوائر المال والسياسة الأمريكية، إذ بدا واضحا أن غضب الشباب الأمريكيين أوسع وأعمق مما يظنون، فالغضب الشعبي يتناول نقد ورفض النظام السياسي، والنظام الاقتصادي، وجشع الرأسمالية المعاصرة، والفساد المستشري بين السياسيين ورجال الأعمال والبنوك، والتحالف بين السياسيين والشركات ورجال الكونجرس الذين يصدرون تشريعات تحافظ علي مصالح الأغنياء وأصحاب الثروات الطائلة علي حساب الطبقتين المتوسطة والدنيا، ما أدي إلي رفع الشعار الرئيسي بين المحتجين وهو " أوقفوا الآلة " في إشارة إلي الرأسمالية المتوحشة التي تزيد الأغنياء ثراءً ، وتضاعف من فقر وعذاب الطبقات الفقيرة .وطبعا كان واضحا انتشار حالة الإحباط بين الشباب تجاه فشل الرئيس باراك أوباما الذي رفع شعار " التغيير " منذ ثلاث سنوات،ولكنه أخفق في إحداث هذا التغيير، بل زادت الأحوال سوءا من جراء البطالة «أكثر من 9 %» وزيادة الغلاء والأسعار، وتدهور الرعاية الصحية، وحرمان الفقراء مما يتمتع به الأغنياء من الرفاهية والتدليل من جانب النظام السياسي. ومثل كرة الثلج، كانت أحداث الاحتجاجات الشعبية في نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغو تكتسب يوما بعد يوم المؤيدين الغاضبين، ودعاة السلام والمدافعين عن البيئة، ومنتقدي سياسات أمريكا في الخارج، والمحاربين القدامي، ونقابة عمال السيارات، ونقابة عمال النقل، والاتحاد الموحد للمعلمين، ونقابة موظفي الكونجرس، ودعت مؤسسة " أدباسترز " التي تضم مفكرين وناشطين إلي تنظيم الاعتصامات لإظهار النقد لكل مظاهر الحياة في المجتمع الأمريكي . أيضا، جذبت احتجاجات نيويورك غير المسبوقة الشخصيات المعروفة ومنها المخرج المعارض مايكل مور والمفكر الأمريكي الرافض للسياسات الأمريكية ناعوم تشومسكي . ويؤكد الكاتب بول كروجمان أنه هو شخصيا يشارك المتظاهرين غضبهم من مشهد أغنياء أمريكا المتأنقين، والذين يرجعون ثرواتهم إلي الضمانات الحكومية، ويتذمرون من أية تعليقات يدلي بها الرئيس أوباما عنهم بالسوء، ولذلك فإنه من حق الشباب الغاضبين رفض نموذج الاستهلاك الأمريكي، ورفض الاستسلام لنفوذ أصحاب الثروات الذين وصفهم سابقا " تيودور روزفلت " بأنهم " لصوص الثروات الكبيرة " . ويبدو في الأفق الأمريكي مؤشرات مستمرة لتصعيد الانتقادات، ذلك أنه اعتبارا من 12 أكتوبر، تجددت سلسلة الاحتجاجات، ولكن هذه المرة في وسط مدينة شيكاغو، حيث احتشد الآلاف من المدرسين والقيادات الدينية والقيادات النقابية، للاحتجاج علي التفاوت الاقتصادي في أمريكا، واتجه المتظاهرون إلي مقر اجتماع اتحاد العاملين في الرهن العقاري، واتجه آخرون إلي فندق شهير، واستلهموا شعارات " حركة احتلال وول ستريت " في نيويورك، ولكنهم حددوا انتقاداتهم ضد ما يطلق عليه " صناعة المال " وطالبوا باستعادة منازلهم ومدارسهم ووظائفهم، مركزين علي أنهم يريدون بعث رسالة محددة عن " الأضرار التي تلحق بهم بسبب صناعة المال والثروات في أمريكا". وفي اليوم التالي، أي في 13 أكتوبر، قام شباب نيويورك بمحاصرة منازل الأثرياء وعدد من رجال الأعمال، منددين بفساد المؤسسات المالية وثراء الأغنياء الفاحش، ودعوا إلي حركة احتجاجات عالمية اعتبارا من 15 أكتوبر للمطالبة بتوفير فرص عمل أفضل، وعبر الانترنت ظهرات احصاءات أنه بحركة «احتلوا وول ستريت» الأمريكية فإن انتفاضات واحتجاجات الشباب الغاضبين وصلت حتي الآن إلي 1400 مدينة أمريكية وعالمية. الاقتصاد الأمريكي في السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ الأزمة المالية الحادة في 2008، شاعت مقولة مهمة مؤداها أن النموذج الاقتصادي الأمريكي في حكم النموذج المنهار أو علي وشك الانهيار ، حيث شهد العالم سقوط كبريات المصارف الأمريكية الاستثمارية «بنك ليمان برذرز + وبنك أوف أمريكا» مع خسارة مايقرب من تريليون دولار من سوق الأسهم خلال يوم واحد فقط، ما دفع الحكومة الأمريكية لضخ 700 مليون دولار من أموال دافعي الضرائب في محاولة لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي، وهي الأحداث التي كانت شاهدة علي ما أطلق عليه " انهيار وول ستريت " . وكان السؤال الأهم الذي أثير آنذاك هو : ما مصير النموذح الاقتصادي الأمريكي ؟ وكان لهذا السؤال أهميته القصوي بالنسبة للولايات المتحدة ومكانتها العالمية، حيث اعتبر المفكر الأمريكي فوكوياما أن صورة أمريكا في العالم تتعرض لامتحان شديد القسوة، مؤكدا علي أن استعادة سمعة أمريكا عالميا يرتبط بالسعي من أجل ضمان استمرار استقرار القطاع المالي داخل الولايات المتحدة . ومن المعروف أن النموذج الاقتصادي الأمريكي يرتكز أساسا علي فرض ضرائب محدودة، والتخفيف من حدة القيود والتنظيمات في النشاط التجاري، واعتبار أن هذه القواعد الرئيسية هي التي تضمن تحريك النمو الاقتصادي، كما سعت الولايات المتحدة عن طريق المؤسسات المالية الدولية الخاضعة لها ،أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلي نشر هذا النموذج الرأسمالي في الدول الأخري باعتباره نموذجا ناجحا يتعين اتباعه ، وتحديدا في الدول النامية، بغض النظر عن الاختلافات بين النظم الاقتصادية الأخري وظروفها الاقتصادية المختلفة. غير أن اندلاع الأزمة المالية الكبري في الولايات المتحدة أولا في 2008 بسبب أزمة الرهن العقاري، وانتقال تداعياتها بالتبعية إلي باقي أنحاء العالم، وقسوة الأزمة علي الشعوب الفقيرة علي وجه التحديد أثار موجة غضب عارمة في أوروبا وأمريكا اللاتينية ضد النموذج الاقتصادي الأمريكي الذي كان السبب الرئيسي في وقوع الأزمة المالية، وثارت الانتقادات الشديدة علي ما سمي بنموذج" رأسمالية راعي البقر". وعندما تولي الرئيس الأمريكي باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة اعتبارا من يناير 2009، فقد ورث تركة اقتصادية ثقيلة تسببت فيها سياسات الرئيس السابق جورج بوش، وتحت وطأة الأعباء التي فرضتها هذه السياسات الخاطئة بلغ مقدار الدين القومي للولايات المتحدة أكثر من 10 تريليونات دولار، يتحمل كل مواطن أمريكي نصيبا من هذا الدين يقدر بنحو 33 ألف دولار، واقترن ذلك بتراجع الناتج القومي الإجمالي الأمريكي مقارنة بالقوي الآسيوية الصاعدة، والتي أصبحت تتمتع بمعدلات للنمو تزيد ضعفا أو ضعفين علي معدل النمو الأمريكي . أما عن الأساليب الخاطئة التي صاحبت الأزمة المالية الأمريكية التي عصفت بالأمريكيين فإنها تراوحت بين سوء الإدارة والاستغلال بما أطاح بكل المصالح التي تتعلق بالمواطن الأمريكي العادي . فمن ناحية، استغل المصرفيون رفع القيود للتصرف بلا قيود وحصلوا لأنفسهم علي رواتب خيالية، وصنعوا الفقاعات عبر الإقراض المتهور، وعندما انفجرت الفقاعات تم انقاذهم بأموال دافعي الضرائب، واصدار تشريعات لم تنقذ الناس العاديين من ممارسات المصرفيين. وهنا لابد من معاينة النتائج شديدة القسوة التي انعكست علي المواطن الأمريكي العادي في المجال الاقتصادي، فقد ازدادت نسبة الفقر في مدينة نيويورك علي سبيل المثال بوتيرة أسرع من باقي المدن الأخري، وتدل المؤشرات علي أن 20 % من سكان نيويورك يعيشون تحت خط الفقر، وفي عام 2010 كان 6 . 1 مليون شخص في نيويورك أي 201 ، من إجمالي السكان يعيشون تحت خط الفقر، وهي نسبة أعلي من المعدل الوطني البالغ 1 . 15 % . وتعد الفئات من أصحاب الدخول المحدودة هي الأكثر تأثرا بانتشار الفقر، وذلك جراء حالة الانكماش الاقتصادي وأزمة البطالة وفقدان الوظائف . ويبدو مما يفسر جزئيا اندلاع احتجاجات نيويورك والمدن الأمريكية أن نسبة الفقر ارتفعت بصورة خاصة بين الشباب الأقل من 18 سنة، ووصل معدل الفقر بينهم وفقدان الوظائف إلي 30 %، وفي أوساط الأمريكيين من أصول لاتينية إلي 28 %، والأمريكيين من أصول أفريقية إلي 23 %، وتمثل النساء نسبة كبيرة من الذين تعرضوا للفقر بنسبة تفوق 40 %، وانخفض متوسط دخل الأسرة في نيويورك من 51101 دولار في العام في 2009 إلي 48743 في عام 2010، ويعيش 8 % من العائلات في نيويورك بأقل من 10 آلاف دولار في السنة، ويعتمد الكثيرون علي بونات الأغذية حتي نهاية الشهر، وهناك حوالي 15 % من سكان نيويورك لا يتمتعون بتأمين صحي . وفي الفترة من يونية 2009 عندما انتهي الركود بشكل رسمي، حتي يونية 2011 تراجع متوسط دخل الأسرة الأمريكية وفقا للتضخم بنسبة 7 .6 % ليصل إلي 909 . 49 دولار، ويقول روبرت بير إن هذه النتائج تفسر غضب الأمريكيين إزاء الاقتصاد، ما ساعد علي سيطرة شعور بالحزن والغضب علي المشهد السياسي
في المرحلة التي تسبق الحملة الانتخابية لعام 2012 . ويري عدد من الاقتصاديين أن هناك علامات في الولايات المتحدة علي قرب الدخول في مرحلة ركود جديدة . ويبدو الموقف الحالي وكأن هناك محاولة لترسيخ منهاجية طبقية صعبة في المجتمع الأمريكي، ومؤدي هذه المنهاجية أنه علي الفقراء تقبل الانخفاض في قسائم المساعدة الطبية والطعام، وعلي الطبقة المتوسطة أن تتقبل الخفض الكبير في الأموال المخصصة للرعاية الصحية، بينما في المقابل علي الشركات ومؤسسات الأثرياء أن تتقبل الانخفاض الكبير في الضرائب! وفي محاولة لاحتواء ظواهر الأزمة والضائقة الاقتصادية والفجوة الطبقية، فإن هناك من يطرحون حلولا جزئية منها فرض ضريبة علي كل معاملة مالية تجريها البنوك بهدف الحد من المضاربة التي تحدث التقلبات الحادة في الأسواق، ولكن طبعا يعارض أساطين المال والبنوك مثل هذه الحلول التي تتعارض مع مصالحهم المالية . وهناك مقترحات بضرورة تخفيف عبء الدين، وتحقيق العدالة الاقتصادية، والاستثمار في البنية التحتية للمساعدة في توفير الوظائف . النموذج الأمريكي اعترف الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن المظاهرات التي اجتاحت مدينة نيويورك والمدن الأمريكية الأخري احتجاجا علي ممارسات وول ستريت تعكس مشاعر احباط حقيقية وغضبا شعبيا بسبب الذين تسببوا في الأزمة المالية في الأوساط الأمريكية، بينما قال نائب الرئيس جو بايدن إن الاحتجاجات تشير إلي " عدم عدالة النظام الاجتماعي الأمريكي المطبق بين أبناء الشعب ". وفي خضم المطالب التي طرحها المتظاهرون يلاحظ انتقاداتهم للنموذج الأمريكي الذي يعيشون في ظله، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فهناك انتقادات تتناول الطبقة والنخبة السياسية واتهامها بالديكتاتورية الانتخابية، وفي ظل هذه الديكتاتورية يتصور السياسيون أن كل ما هو مطلوب من المواطنين هو أن يدلوا بأصواتهم في الانتخابات، ثم بعد ذلك لا صلة لهم بمجريات الأمور التي يتعين تركها كليا للسياسيين والأجهزة البيروقراطية، فيما يوصف بالاحتكار والجشع السياسي، وبالتالي ينتقد المتظاهرون ومن يؤيدونهم أسلوب الإدارة السياسية في الولايات المتحدة . وطبعا هناك الانتقادات الشديدة لزواج المصالح بين السياسيين ورجال الأعمال والشركات الصناعية والذين يتحالفون من أجل تكديس الأموال علي حساب الطبقات محدودة الدخل والطبقات الفقيرة . ويقال بالنسبة للتظاهرات في المدن الأمريكية إن الاقتصاد أشعلها، والسياسة وسعتها، وحروب أمريكا كانت قد أطلقت شرارة نقد النموذج برمته . ومن المفارقات، أنه بينما تتوجه سهام النقد حاليا للاقتصاد الأمريكي، فقد تم منح جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2011 للباحثين الأمريكيين في الاقتصاد الكلي توماس جي سارجنت وكريستوفر سيمز . وفي محاولة لتوضيح حقيقة الأهداف التي يسعي إليها متظاهرو نيويورك حددت " الجمعية العامة في نيويورك " التي تعبر عن المتظاهرين حقيقة أهدافها ببيان صدر في 24 سبتمبر جاء فيه " أنه اعتبارا من 17 سبتمبر جاء الناس من جميع أنحاء الولايات المتحدة للاحتجاج علي الظلم الصارخ في عصرنا الذي ترتكبه النخب السياسية والاقتصادية، نحن كأفراد ضد التهميش السياسي والظلم الاجتماعي والاقتصادي،- وقمنا بنجاح باحتلال وول ستريت اليوم، ونشعر بالفخر في ساحة الحرية، ونحن سياسيون مستقلون نعمل بوسائل العصيان المدني غير العنيف ونسعي لبناء التضامن علي أساس الاحترام المتبادل والقبول والمحبة، ونحن نمثل 99 % من الشعب الأمريكي، ونسعي لاستعادة مستقبلنا المرهون . وقد حددت الحركة مجموعة من المبادئ التي اعتبرتها عالمية وهي : 1- الانخراط في ديمقراطية شفافة قائمة علي المشاركة المباشرة، وممارسة المسئولية الشخصية والجماعية، والاعتراف بالمزايا المتأصلة في الأفراد . 2- التمكين ضد جميع أشكال الظلم «سياسيا واقتصاديا واجتماعيا» وإعادة تحديد قيمة العمل . 3- حرمة الحياة الخاصة الفردية . 4- الاقرار بأن التعليم حق من حقوق الإنسان . 5- وضع تصورات بديلة للنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، علي أساس توفير كل الإمكانية لإقرار مبدأ المساواة . ومن المعروف أن النموذج الأمريكي عموما يتعرض لانتقادات كبيرة منذ سنوات، ووفقا للتقرير الاستراتيجي العربي فإن هذا النموذج يواجه الاخفاق العسكري علي صعيد حربين خاضتهما العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان وتكبدت فيهما الولايات المتحدة خسائر بالغة بشريا وماديا، فضلا عن الاخفاق السياسي والدبلوماسي وتراجع القوة التأثيرية للولايات المتحدة عالميا ، وتراجع دورها الثقافي والمعلوماتي علي الساحة الدولية في مواجهة قوي صاعدة تنافس المنتج الأمريكي الثقافي، وفشل النموذج الأخلاقي الأمريكي الذي قام علي الهيمنة علي العالم وما أطلق عليه "نشر الديمقراطية وأسلوب الحياة الأمريكية " والذي ثبت أنه ما كان سوي " ذريعة " لترسيخ الهيمنة والانفراد بحكم العالم، فضلا عن الفضائح التي واكبت الممارسات غير الإنسانية في سجن جوانتانامو وسجن أبو غريب، ما انعكس سلبا علي النموذج الأخلاقي للولايات المتحدة والذي فقد مصداقيته كليا . محصلة واحتمالات يوحي المشهد الأمريكي حاليا بأن هناك فجوة بين توجهات الإدارة علي الصعيد الرسمي من ناحية، واهتمامات المواطن الأمريكي العادي من ناحية أخري، فبينما يبدو واضحا تركيز إدارة أوباما بصفة رئيسية علي مسألة " العجز في الموازنة "، فإن الشارع الأمريكي، والناخب الأمريكي تحديدا يستحوذ علي اهتماماته بالدرجة الأولي التفاقم في مشكلة البطالة وإيجاد الوظيفة المناسبة، وهي مشكلة تبدو الإدارة الأمريكية وكأنها أسقطتها من أجندتها الرئيسية، فلم تطرح في الكونجرس أية مشروعات قوانين بخصوص الوظائف، كما لم يقترح البيت الأبيض أية خطط حقيقية في هذا الصدد، ويتركز الاهتمام فقط علي كيفية تقليص النفقات «وفقا لنظرية تقول إن تقليص النفقات الحكومية يساعد بالفعل علي خلق الوظائف» . وهنا، نجد أن الطرف الذي يدفع ثمن هذه السياسات هم الشباب، وتحديدا من يفشلون في إيجاد الوظائف المناسبة . وابتداء من عام 2009 أكد بيتر أورزاغ الذي كان يعمل مديرا لشئون الموازنة في البيت الأبيض أن الشباب الأمريكي الذي تخرج أثناء فترة الركود وقت مطلع ثمانينات القرن الماضي عاني دائما من أضرار مادية في عائداته، وبالاعتماد علي متوسط فترة البطالة كمؤشر، سنجد أن الخريجين الجدد يواجهون صعوبة أكبر في العثور علي وظائف لائقة حاليا مما كان في الماضي . في الوقت نفسه، يحذر الاقتصادي بول كروجمان من أن الخطر الجلي يكمن في الشباب الأمريكيين، لأن الإدارة الأمريكية تنسي هؤلاء الملايين، ما يشير إلي جوهر المشكلة الأمريكية الراهنة. وتشير الاحصاءات إلي وصول عدد العاطلين عن العمل إلي قرابة خمسة أضعاف فرص العمل المتاحة، ويبلغ متوسط فترة البطالة التي يتعرض لها العامل العاطل إلي 37 أسبوعا، وهو رقم قياسي بالنسبة لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويبدو الأمر وكأن طبقة جديدة من العاطلين عن العمل في طريقها للتواجد علي الساحة الأمريكية، وتكشف الأرقام أن اجراءات التسريح والاستغناء عن العمالة تشهد ارتفاعا شديدا بالرغم من تأكيد البعض بأن الاقتصاد الأمريكي يعاني «انخفاضا في التوظيف» وليس من معدلات مرتفعة من الفصل من العمل، وهناك من يؤكد أن سدس العاملين الأمريكيين جميع أولئك العاجزين عن العثور علي وظيفة أو يجدون أنفسهم محصورين في وظائف بدوام جزئي في حين أنهم يحتاجون إلي وظائف بدوام كامل قد تم فعليا التخلي عنهم . وفي خضم المشهد الأمريكي الذي يقترب من " التصعيد الشبابي " يطرح الكثيرون التساؤل الأهم وهو : أين الزعيم الملهم الذي أسر بشخصيته وشعاراته وطموحاته خيال الشباب والمجتمع الأمريكي ؟ كما يتساءل الكاتب روبرت بير لماذا يصف الرئيس أوباما الموقف الأمريكي الراهن فقط بأنه " مجرد لحظة طارئة " ؟ بينما يطرح بول كروجمان تساؤله في صورة أكثر حدة بقوله " من هذا الرجل الممل الخجول الذي لا يبدو مؤيدا أومدافعا عن أي شئ ؟ ، ما الذي فعلوه بالرئيس أوباما ؟ " . وتبدو هذه التساؤلات عنوانا لاحتمالات مستقبلية مفتوحة بالنسبة للرئيس أوباما وأيضا بالنسبة لمستقبل إدارته وسياساته . ومنذ أيام، فاز الجمهوريون في انتخابات فرعية لشغل مقعد في مجلس النواب الأمريكي عن الدائرة التاسعة في نيويورك، ما يشكل انتصارا تاريخيا في هذا المعقل الديمقراطي ونكسة كبري للرئيس أوباما، المرشح لولاية ثانية في انتخابات 2012، وجاء هذا الفوز في هذه الدائرة ليسجل أول فوز انتخابي للجمهوريين في الدائرة منذ عام 1923 «وكانت انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في نوفمبر 2010 قد انتهت بفقدان الحزب الديمقراطي سيطرته علي مجلس النواب، وخسارته 60 مقعدا لمصلحة الحزب الجمهوري» . وبحسب استطلاع للرأي أجرته نيويورك تايمز وسي بي أس نيوز فقد نظر 53 % من الأمريكيين نظرة سلبية إلي أداء أوباما وإدارته في مسألة إيجاد الوظائف الجديدة تحديدا، بالرغم من أن أوباما كان قد طرح خطة تتكلف 447 مليار دولار وتتضمن تخفيضات ضريبية وانفاقا جديدا لإنعاش سوق العمل الراكد، ولكن تظل مشكلة أوباما المباشرة متمثلة في المعركة الشرسة التي يشنها عليه الجمهوريون، والتي تساعد في جعل المشكلة الاقتصادية الأمريكية حجر عثرة أمام أوباما . ولكن علي صعيد آخر، تبدو مشاكل أوباما أكثر تعقيدا بكثير من المشكلة الاقتصادية الداخلية، بل تتدخل فيها أيضا مصير الأزمة الراهنة في منطقة اليورو الأوروبية، ويقول الكاتب عزرا كلين في الواشنطن بوست إن المستشارة الألمانية انجيلا ميركل قد تكون هي من يحدد من سيفوز في انتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة، فالانتخابات تقودها حالة الاقتصاد، ومن ناحيته يؤكد بنك جولدمان ساكس أنه إذا سار الاتحاد الأوروبي علي النهج الذي يتبعه الآن، فإن الضغط المالي من المرجح أن يتسبب في إبطاء نمو الاقتصاد الأمريكي ليصل به إلي حافة الركود مع عام 2012 .

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.