مثل كرة الثلج التي تدحرجت في شوراع المدن التونسية والمصرية وحملت معها رياح التغيير السياسي لبلدان عربية عديدة, جاءت مظاهرات الحركات الرافضة لطريقة إدارة الإقتصاد الأمريكي والعالمي في مدينة نيويورك وامتدت إلي مدن أمريكية كثيرة في الأسبوعين الأخيرين تدشينا لحالة الغضب من سياسة إفلات النخب المالية من العقاب منذ اندلاع الازمة المالية الكبري قبل ثلاثة أعوام. وعندما هاجمت الشرطة الأمريكية المتظاهرين علي جسر بروكلين ليلة السبت الماضي كتب متظاهر علي حسابه الشخصي بموقع فيس بوك قائلا' لم يعاقب مدير واحد من البنوك التي تسببت في الأزمة المالية بينما قبضوا علي ألف متظاهر لمجرد رفضهم السياسات الحالية'. في الأيام الأخيرة, وعلي وقع إلهام إستخدام ثوار الربيع العربي لوسائل الميديا الإجتماعية, بدأ المتظاهرون- في حي المال الشهير' وول ستريت' بقلب نيويورك- بمظاهرة وإعتصام يحمل إسم' احتلال وول ستريت' ثم تطور الأمر إلي صفحات كثيرة علي الفيس بوك من فروع في مختلف أنحاء أمريكا تحت لواء صفحة إلكترونية واحدة اليوم هي' نحتل معا' التي تربط بين المتظاهرين ضد جشع الرأسمالية المعاصرة وجني الإرباح علي حساب الملايين من الفقراء في الطبقتين الوسطي ودون الوسطي وهو ما أدي إلي زيادة مستويات الفقر وإرتفاع غير مسبوق في معدل البطالة عالميا. ليلة المظاهرة الأولي في وول ستريت يوم17سبتمبر الماضي, استقللت سيارة أجرة لرؤية ما يحدث وفتحت حوارا مع سائق التاكسي وبمجرد أن تطرقت إلي ما يجري في قلب حي المال حتي انطلق السائق هنري محملا الطبقة الحاكمة المسئولية عما يحدث وقال أن' هناك عصابة تسيطر علي الاقتصاد الأمريكي وتساندها عصابة أخري تفتح شهية الأمريكيين لخوض حروب خارجية وكلتاهما تجني أرباحا طائلة من السيطرة علي عنصري الثروة والقوة'. وقال هنري' أنا ضابط محارب سابق في فيتنام, وهذا هو حالي اليوم, أعيش علي قيادة سيارة أجرة ولا أجد رعاية كافية في بلد حاربت من أجله'. في تلك الليلة قامت الشرطة بإجلاء المتظاهرين' المحتلين' من قلب حي المال, فما كان من ثوار' وول ستريت' إلا أن احتموا بحديقة عامة هي اليوم قاعدة عملياتهم. وحتي الآن, تعرض شبكات الأخبار الأمريكية التقليدية- وهي جزء من منظومة الإقتصاد المسيطر- تغطية محدودة للمظاهرات او تنعت المتظاهرين بالقلة أو المحتجين دون ان تستفيض في شرح أسباب الغضب وربما تقفز الميديا متأخرة لتفرد مساحات أكبر- مثلما يحدث في سيناريو الإعلام الحكومي في الدول العربية عندما تتفاقم الأحداث. ويعبر خوان كول, المنتمي للتيار الليبرالي التقدمي والاستاذ بجامعة ميشيجين, عن رؤية الجماعات الإحتجاجية الجديدة ويقول' الحكومة الأمريكية تنطوي علي نوع من الديكتاتورية الانتخابية حيث يري السياسيون والجهاز البيروقراطي أنه بمجرد أن يلقي الناخب ببطاقة الإقتراع في الصندوق عليه أن يلتزم الصمت ويترك السياسيين المنتخبين يديرون شئونهم- حتي لو كانت ضد مصالح جمعية الإنتخاب- ولم يكن متخيلا أن يحل عام2011دون إصلاح حقيقي لوول ستريت- وهو ما يمنع وقوع أزمة كبري مثلما حدث في عام2008. ومع تعمق أزمة الإقتصاد الأمريكي وتعثر الرئيس باراك أوباما في مواجهة المدافعين عن مصالح الشركات الكبري في الكونجرس, تزداد خطورة الوضع ويشير خوان كول إلي أن' الناخب الأمريكي صوت للتغيير قبل ثلاثة أعوام إلا أن المشرعين اختطفوا العملية السياسية ومن ورائهم الشركات المالية والصناعية من خلال تمويل الحملات الإنتخابية ثم قاموا بصياغة التشريعات التي من المفترض أن تنظم أعمالهم'. كل وعود إصلاح النظام المالي ووقف سيطرة1% من الشعب علي مقدرات ومدخرات99% من خلال تشريعات تصحح أخطاء الأزمات المالية تبخرت تحت وطأة التحالف بين المشرعين ولوبي وول ستريت. من اللافت أن واحدة من إستراتيجيات الحركة الاحتجاجية الجديدة التأثير في العملية الإنتخابية القادمة نوفمبر2012من خلال السعي للإطاحة بأكثر من نصف نواب الكونجرس المرتبطين بمصالح مع المتبرعين لحملاتهم الإنتخابية وهو نفس الحال السياسية في الشرق والغرب والتي تواجه تحديا مهما اليوم في ظل تنامي الحركات الشعبية الرافضة لزواج المصلحة وتكديس المكاسب في جيوب الطبقة الشديدة الثراء علي حساب الأغلبية. وقد صوت غالبية المشاركين في المظاهرات الجديدة لمصلحة باراك أوباما في عام2088 وفي حال اتساع نطاق الإحتجاجات-بدعم من الإتحادات العمالية والنقابية التي أعلنت مساندتها للتظاهرات مثل الإتحاد القومي للمدرسين- يمكن أن يحصل أوباما علي فرصة المضي في خطط إصلاحية أكثر جرأة وربما يفقد الفرصة لو رجح الإعتبارات الإنتخابية والإحتياج إلي أموال الطبقة القادرة علي تمويل حملة إنتخابية شرسة. في وصف ما يحدث في' وول ستريت' قال نيكولاس كريستوف- الكاتب المعروف في نيويورك تايمز أن هناك قواسم مشتركة بين مظاهرات ميدان التحرير ووول ستريت حيث الطرفان الرئيسيان في الحالتين هما الشباب الذي يشعر بمزيد من التهميش والغربة في مجتمعه ويرفض النظام السياسي والنظام الإقتصادي القائم والمشترك الثاني هو الإستخدام الكثيف للميديا الإجتماعية في الحشد عبر فيس بوك وتويتر. وقد أعد المتظاهرون العدة للتظاهر لفترة ربما تطول الشتاء بكامله ووضعوا نظاما يسمح لهم بالحصول علي كل مستلزماتهم عبر الإنترنت ومنها علي سبيل المثال طلب وجبات سريعة عبر الموقع الخاص بالحركة الإحتجاجية. وقامت واحدة من سلاسل' البيتزا' الشهيرة بطرح صف خاص يحمل إسم' أوكيوباي-سبشيل' وهو ما يعني أن الحركة الإحتجاجية صارت مسموعة في عاصمة المال والإعمال. كما زحف المتظاهرون علي ميدان' ماكفرسون' القريب من البيت الأبيض في واشنطن ويجهزون لمعركة طويلة. ولا توجد قائمة محددة بمطالب ثوار' وول ستريت' ولكنهم يتفقون علي خطورة مسلك معظم المؤسسات المالية الأمريكية التي تقوم بتعميم المخاطر علي الجميع وتخصص الأرباح لنفسها فقط ويريدون سياسات إجتماعية جديدة تقوم علي العدل في توزيع مخاطر العملية الإقتصادية والحد من فساد العملية السياسية بإستخدام سلاح المال طوال الوقت. وقد حددت مجموعات تسمي نفسها' الجمعية العامة في مدينة نيويورك' عددا من المبادئ الرئيسية لتوجهات الحركة الإحتجاجية في إعلان جماعي يوم24سبتمبر الماضي يتضمن:' في17 سبتمبر2011, جاء الناس من جميع أنحاء الولاياتالمتحدة والعالم للاحتجاج علي الظلم الصارخ في عصرنا الذي ترتكبه النخب الاقتصادية والسياسية.. نحن كأفراد ضد التهميش السياسي والظلم الاجتماعي والاقتصادي.. وقمنا بنجاح بإحتلال وول ستريت. اليوم, نشعر بالفخر في ساحة الحرية.. نحن سياسيون مستقلون نعمل بوسائل العصيان المدني غير العنيف ونسعي لبناء التضامن علي أساس الاحترام المتبادل, والقبول, والمحبة.. نحن نمثل نسبة99%, ونسعي لإستعادة مستقبلنا المرهون'. وحددت الحركة مجموعة مبادئ عالمية هي' الانخراط في ديمقراطية شفافة قائمة علي المشاركة المباشرة, وممارسة المسئولية الشخصية والجماعية, والاعتراف بالمزايا المتأصلة في الأفراد, والتمكين ضد كل اشكال الظلم, وإعادة تحديد قيمة العمل, وحرمة الحياة الخاصة الفردية, الاعتقاد بأن التعليم هو حق من حقوق الإنسان, ووضع تصور بديل جديد للنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بحيث توفر إمكانية أكبر للمساواة'. خريف نيويورك ليس مثل أي خريف, فهو يحمل عادة تقلبات من لفحات برودة وأمطار وبرق ورعد, ومشهد' المحتلين الجدد' الساعين وراء العدالة الإجتماعية جديد تماما علي عاصمة الرأسمالية ويرفع حرارة المدينة الكبيرة التي لم تتخيل يوما أن يتحول قلبها النابض إلي معقل للنوع العصري من التظاهرات التي يحتمي ثوارها في الخيام ويترابطون عبر الميديا الجديدة التي وحدت مطالب الطبقتين الوسطي والفقيرة في عالم متعب من الجشع والنهب وتبعث أملا في إمكانية تصحيح مسار الرأسمالية العالمية!