لا يكاد يمر فصل الخريف من كل عام إلا وتظهرُ السحابة السوداء في سماء القاهرة الكبري، حاجبةً الشمس ومُلقية بآثارها السلبية علي البيئة وصحة المواطنين. وهي الأزمة التي تبدأ مع موسم حصاد الأرز نتيجة حرق المزارعين لمخلفاته، ما يؤدي إلي تلوث الهواء. دفع ذلك وزارتي البيئة والزراعة لمجابهة السحابة السوداء بالتوسع في تطبيق استراتيجية جديدة، بتشديد الرقابة علي عمليات الحرق، من خلال منظومة الإنذار المُبكر التي تعمل علي رصد البؤر، بالتوازي مع تطبيق خطة متكاملة لإعادة تدوير المخلفات الزراعية وخلق أسواق جديدة لها، وهو ما انعكس إيجابًا علي خفض معدلات الحرق، مع استمرار حملات التوعية للمزارعين. هناك العديد من العوامل تتسبب في حدوث نوبات تلوث الهواء الحاد أو ما يُطلق عليه "السحابة السوداء"، كما يوضح الدكتور محمد سعد عبدالله مدير وحدة الإنذار المبكر بوزارة البيئة، فمنها ما هو طبيعي نتيجة الظروف الجوية، حيث يساعد مُناخ القاهرة في هذه الفترة علي زيادة تركيز الجُسيمات العالقة في الهواء، مع بطء حركة الرياح نسبيًا ما يؤدي إلي تراكُم الملوثات وارتفاع نسبتها، بالإضافة إلي تكرار ظاهرة الانعكاس الحراري، أثناء فترات الليل ما يساعد علي زيادة تركيزها في الهواء، حيث تتضمن مصادر هذه الملوثات الأنشطة الصناعية المختلفة، كذلك انبعاثات حرائق المخلفات الصلبة، وبالطبع الحرق المكشوف للمخلفات الزراعية، فعملية حرق قش الأرز تحتل 40٪ من نسبة الملوثات المكوّنة للظاهرة، وهي ما نعمل علي مكافحتها بشكل أساسي. يتابع: السياسة التي اتبعتها الوزارة لمواجهة هذه الظاهرة تقوم علي عدّة محاور، أولها عملية الرصد اللحظي التي تجري داخل غرفة العمليات المركزية بالوزارة، من خلال نظام الإنذار المُبكر والتي تتم عن طريق الأقمار الصناعية، وفيها نقوم بتحليل الصور المُلتقطة بواسطة هذه الأقمار، لتحديد بؤر ونقاط الحرق وإحداثيات وعناوين هذه النقاط من خلال قواعد البيانات. كما تعتمد المنظومة علي اتخاذ خطوات استباقية لمعرفة المناطق الأكثر تأثرًا بنوبات التلوث، ودراسة العوامل الجوية المُتوقعة لمدة ثلاثة أيام قادمة، باستخدام مجموعة من النماذج الحسابية والبرامج الحديثة، التي تتبع المسارات الساخنة للكُتل الهوائية المؤثرة علي كل منطقة. ويشير عبدالله إلي أن هذه البرامج تقيس درجة التهوية وسرعة واتجاهات الرياح، ومدي تأثيرها علي تركيز أو تشتيت الملوثات، وهذا ما أدي لنجاحنا في وضع خطط استباقية لتوزيع محاور التفتيش، التي تتعامل مع مصادر التلوث قبل تحركها باتجاه القاهرة الكبري. نقوم أيضًا بمتابعة مستمرة لحالة وجودة الهواء من خلال منظومة تغطي كافة أنحاء الجمهورية، وتضم 92 محطة رصد تعمل بشكل إلكتروني علي مدار العام، وتقوم بإجراء حساب لمتوسطات تركيز الملوثات للتدخل الفوري في حالة ارتفاعها. ويؤكد الدكتور أحمد رخا رئيس الإدارة المركزية للتفتيش والالتزام البيئي بوزارة البيئة، أن الجانب الميداني في منظومة مواجهة ظاهرة السحابة السوداء، يعتمد علي فرق عمل محاور التفتيش السريع. لدينا حوالي 70 محورًا موزعين علي مراكز محافظات الدلتا، ليس لهم مسارات ثابتة وإنما يتم توجيههم إلي بؤر الحرق، بناء علي معلومات الأقمار الصناعية وتوجيهات وحدة الإنذار المُبكر. هذه الفرق مُرتبطة بغرفة العمليات من خلال برامج الاتصال المُباشر، ويتم متابعة سيارات التفتيش ورصد تحركاتها عن طريق ال GPS بحيث نضمن إحكام منظومة الرقابة علي مدار الساعة. غير أن تحركات فرق العمل تتم بالتنسيق مع وزارة الزراعة وإدارة الحماية المدنية للسيطرة علي بؤر الحرق. وتشمل الإجراءات القانونية تسجيل المحاضر والمخالفات وتحويلها إلي النيابة العامة، حيث تتحدد عقوبة الحرق المكشوف للمخلفات الزراعية بغرامة تتراوح مابين 5 - 100 ألف جنيه كحدٍ أقصي أو الحبس لمدة تصل إلي سنة، كما تُغلّظ العقوبة في حالة العود وتكرار المُخالفة، وذلك وفق ما ينص عليه قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 وتعديلاته اللاحقة. هناك مؤشرات حقيقية لتقييم نجاح المنظومة هذا الموسم، أهمها انخفاض عدد المحاضر عن الموسم الماضي، حيث حررنا سبعة آلاف محضر مُقابل 10 آلاف خلال العام الماضي، وهذا ناتج عن انخفاض معدلات حرق القش لزيادة الوعي لدي الفلاحين. ما ساهم في تحقيق تقدم في السيطرة علي هذه الظاهرة كما يري الدكتور أحمد، زيادة إقبال الفلاحين علي عملية إعادة تدوير قش الرز بدلاً من حرقه. وذلك مع تقديم حوافز لمتعهدي جمع المخلفات الزراعية، أصبح لدينا سوقًا حقيقية رائجة تعتمد علي العرض والطلب. حيث وصل عدد مواقع الجمع إلي 488 موقعًا بزيادة 140 عن العام الماضي. توسعنا في منظومة "المزارع الصغير" بتوفير ما يزيد عن 1000 مُعدة من المكابس والمفارم والجرارات. غير أن الوزارة تقدم دعمًا للمزارعين بواقع 50 جنيها علي الطن الواحد، لتغطية تكلفة الجمع والنقل والتخزين، كما يستفيد الفلاح بثمن القش المفروم الذي وصل إلي 400 جنيه للطن. مُتابعًا: قمنا أيضًا بصرف مستلزمات الإنتاج اللازمة لتحويل القش إلي سماد عضوي "كومبوست" وأعلاف حيوانية، وتشمل البلاستيك ومواد الأمونيا واليوريا وغيرها. لدينا هذا الموسم 2.4 مليون طن من القش نعمل علي 40٪ منه. لأن هناك جزءًا كبيرًا يعده الفلاح لاستخدامه في البيئة الريفية. جمعنا حتي الآن 220 ألف طن من القش المُستهدف إعادة تدويره بالتعاون مع وزارة الزراعة، وإجمالي ما تم إعادة تدويره وصل إلي 110 ألف طن. فرغم انخفاض المساحة المزروعة من محصول الأرز عن العام الماضي، إلا أن التحدي يظل كبيرًا حيث وصلت إلي مليون و600 ألف فدان، في حين أن المسموح به مليون و200 ألف فدان فقط. ولتحقيق البُعد البيئي تمتد خطة التفتيش إلي مكافحة المصادر الأخري للتلوث، ومنها الأنشطة الحرفية والورش والمصانع الصغيرة المُلوثة للبيئة، غير مكامير الفحم التي بدأنا في إحلالها وتطويرها ضمن منظومة جديدة. من جانبه يشير فريد واصل نقيب الفلاحين إلي أن هذا الموسم مختلف بشكل كبير، فمعدل حرق قش الأرز قل بالفعل لكن لم يتم القضاء علي الظاهرة. السياسة التي كانت مُتبعة في السابق كانت تؤدي إلي الصدام مع المُزارعين وتحرير المحاضر والمخالفات، حيث كانت تلقي الأزمة علي الفلاح دون إيجاد بديل حقيقي أو حل لها. ولم يحدث التغيير إلا بعدما أدركت الحكومة فشل هذه السياسة، وبدأت بدعم منظومة إعادة تدوير قش الأرز. هناك اهتمام من جانب الدولة إلا أنه غير كافٍ. الفلاح بدأ يتجاوب لكن المشكلات التي تواجه المنظومة تؤثر عليه، فالدعم المُقدم لا يغطي تكلفة جمع القش التي تصل إلي 300 جنيه للفدان الواحد. فضلاً عن عدم توافر عدد كاف من المكابس رغم زيادة المعدات هذا الموسم، خاصة أن المحصول يتم حصاده بثمان محافظات في نفس الوقت. ويشدد واصل علي أهمية التوسع في سوق تدوير المخلفات الزراعية لخلق مجالات أخري، من شأنها أن ترفع الطلب علي القش من جانب المتعهدين، وتزيد من قيمته ما يُساعد المزارعين ويحفزهم. حيث يُمكن استخدامه لإنتاج الطاقة في مصانع الأسمنت ومحطات الكهرباء، كذلك في مصانع الورق ويمكن أيضًا استغلاله في صناعة الموبيليا عن طريق تحويله إلي أخشاب "HDF". كما تمتد أهمية إعادة التدوير إلي مخلفات الذرة الصفراء، والتي نحتاج إلي خطة متكاملة لزراعتها، مقابل تخفيض مساحات محصول الأرز الذي يزرع سنويًا بصورة هائلة. الفلاح يلجأ إلي ذلك لأنه لا يجد بديلاً مجديًا في المحاصيل الشتوية. وهو ما يمنع من القضاء علي مشكلة السحابة السوداء بشكل جذري. مضيفًا: وتزيد أهمية ذلك لكون محصول الأرز يستهلك كميات هائلة من المياه في ظل الأزمة التي نُعانيها. ونجد أن إنتاجنا يفيض عن الاحتياج المحلي، فنحن نستهلك سنويًا ثلاثة أطنان بينما نُنتج 5 ملايين طن من الأرز، كما أن تكلفة زراعته تفوق تكلفة الذرة الصفراء التي تعد البديل الوحيد، إلا أن المشكلة الحقيقية التي تحد من إمكانية التوسع في زراعتها، عدم قدرة المحصول المحلي علي المنافسة في ظل استمرار استيراد الذرة الصفراء. نحن نستورد 7 ملايين طن سنويًا للأعلاف. يجب أن تفرض رسوما علي الذرة المستوردة حتي نحمي منتجنا المحلي. كما نحتاج إلي التوسع في صناعة الأعلاف لزيادة الإقبال عليها.