كانت زيارة العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، لموسكو مقررة أواخر العام الماضي، ولكنها تأجلت حسب تحليلات وتقارير إخبارية احتجاجا علي التدخل العسكري الروسي في سورية، الذي عزز وجود الرئيس السوري بشار الاسد، ومكن قوات جيشه من استعادة زمام المبادرة ميدانيا في أكثر من جبهة. الإعلام الرسمي السعودي شن طوال الأشهر القليلة الماضية حملات شرسة ضد روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، بسبب سياسته الداعمة للرئيس السوري، وإيران وحلفائها في العراق وسورية ولبنان، الأمر الذي أعطي انطباعا بأن الزيارة الملكية إلي موسكو لن تتم، لأن الزيارات التي قام بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلي العاصمة الروسية أكثر من مرة، لم تنجح في تغيير موقف القيادة الروسية من دعم النظام السوري، رغم "المغريات" المادية الكثيرة التي طرحت اثناء المباحثات، ومن بينها شراء مفاعلات نووية، وصفقات أسلحة روسية واستثمارات تفوق قيمتها عشرين مليار دولار. هناك خلافات رئيسية بين المضيف الروسي بوتين وضيفه السعودي الملك سلمان يمكن إيجازها في نقطتين رئيسيتين: أولاً: الحرب المستعرة في سوريا، ودعم المملكة العربية السعودية للمعارضة المسلحة وتزويدها بالمال والسلاح، وتوفير مقر لها في الرياض، وإصرارها، وعبر تصريحات مسؤوليها، وخاصة عادل الجبير وزير الخارجية، بحتمية رحيل الرئيس بشار الأسد قبل بدء أي عملية سياسية، تطبيقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، الأمر الذي رفضته موسكو بشدة وما زالت. ثانياً: الصدام الحاد بين البلدين حول السياسات النفطية، وكيفية وقف الانهيار الحالي في أسعار النفط، فالمملكة العربية السعودية ضخت أكثر من مليوني برميل إضافي من النفط، وأغرقت الأسواق لشلّ الاقتصادين الروسي والإيراني، قبل أن تكتشف أن واشنطن حليفها التاريخي تتفاوض مع إيران سرا، وتنسق مع موسكو حول تغيير الأولويات في سورية، وبما يؤدي إلي بقاء الرئيس السوري ونظامه، والتركيز علي القضاء علي تنظيم داعش الذي فقد بالفعل معاقله الرئيسية في سورياوالعراق. لاعب ثالث علي صفحات جريدة "أرجومينتي إي فاكتي" يقول جريجوري كوساتش، الأكاديمي المستعرب المختص بشؤون الشرق الأوسط، الذي أعرب عن ثقته بأن المباحثات بين القيادتين الروسية والسعودية تناولت حتما لاعبا إقليميا ثالثا هو إيران. ويتابع كوساتش: حقا إنه حدث تاريخي، لأن العلاقات بين البلدين علي مدي التاريخ السوفييتي والروسي لم تسجل زيارة أعلي رجل في هرم السلطة السعودية إلي موسكو. وقد استمر التداول حول الزيارة الحالية فترة سنتين علي الأقل. وكان يتم تأجيلها دائما. حتي أن وزير الخارجية سيرجي لافروف ورئيسة مجلس الاتحاد الروسي فالنتينا ماتفيينكو ذهبا إلي الرياض خصيصا من أجل هذه المسألة. وإذا تحدثنا عن مصالح السعودية، فهي تسعي في المقام الأول لتحجيم العلاقات بين روسياوإيران إلي أقل مما هي عليه حاليا. وذلك لأن إيران هي العدو الاستراتيجي للسعودية في منطقة الشرق الأوسط. غير أن الرياض في نهجها مع موسكو، اختارت تكتيكا واقعيا. والآن، تسعي السعودية لتوسيع التعاون الاقتصادي مع روسيا، وتحويل هذا التعاون إلي قاعدة متينة تترك أثرها في التقليل من التناقضات السياسية وتخفيف حدتها، وبالتالي إحالتها إلي المشهد الخلفي. وقد جربت السعودية استراتيجية مماثلة إلي حد ما مع الصين. ورغم الخلافات في وجهات النظر السياسية بين البلدين، فإن هذا لم يحل دون التعاون الاقتصادي الذي بلغ درجات عالية بين البلدين. ويكفي الإشارة إلي مشاركة المملكة السعودية في المشروع الصيني "طريق واحد، حزام واحد" للاستنتاج بأن هناك فرصة واقعية للتخفيف من حدة التناقضات السياسية. وفي الوقت الراهن، يتحدث السعوديون عن إمكانات عديدة لتطوير العلاقة مع روسيا، بما في ذلك الاستثمار المالي في قطاعات مختلفة من الاقتصاد الروسي، في مجالات النفط وبناء الطرق، وحتي شراء الأسلحة العسكرية الروسية وغير ذلك. ولدفع عجلة العلاقات بين البلدين وإعطائها زخما حقيقيا توجد كل الأسس المطلوبة لذلك: تم توقيع مذكرة تفاهم في مجال بناء محطات الطاقة النووية، ويجري التفاوض علي التعاون المشترك في مجال بناء خطوط سكك الحديد وكذلك إطلاق الأقمار الصناعية السعودية بواسطة الصواريخ الروسية. وكل هذا يتم بشكل رئيس للتخفيف من التناقضات، وقبل كل شيء من أجل أن تكون روسيا قادرة علي انتهاج سلوك إقليمي لا تترك فيه علاقتها مع طهران آثارا سلبية علي علاقتها مع الرياض. وعلي سبيل المثال، تدور مفاوضات بين الجانبين منذ فترة طويلة حول توريد الأسلحة الروسية إلي السعودية. ومن الواضح أن الجيش السعودي يوجد لديه ما يكفي من الأسلحة الأمريكية والبريطانية والفرنسية، وليس من داع لإعادة تسليحه، وعلاقة السعودية مع الولاياتالمتحدة تبقي حجر الزاوية في السياسة السعودية الخارجية. إذاً، لماذا يطلب السعوديون الأسلحة الروسية؟ هم يقولون: "سوف تحصلون علي المال". ويقولون أيضا إن "أهم شيء هو ألا توردوا الأسلحة إلي إيران، ونحن سوف نشتري ما توردونه إلي هناك، وسوف نستخدمه" كما يقولون! ومن المعروف أن المملكة العربية السعودية اليوم هي القوة الرائدة في العالمين العربي والإسلامي. ومن المستحيل تطوير العلاقات مع هذين العالمين من دون بناء علاقات سليمة مع السعودية. والرئيس بوتين يدرك جيدا هذه المسألة، لذا، بذل الرئيس الروسي مساعي نشيطة من أجل أن تنضم روسيا إلي منظمة التعاون الإسلامي (انضمت روسيا في عام 2005 إلي هذه المنظمة بصفة عضو مراقب، وكان اسمها منظمة المؤتمر الإسلامي) كما يشجع بوتين علي الاتصالات بين قادة الكيانات الروسية الإسلامية والمملكة السعودية، حيث تستطيع الرياض توظيف الاستثمارات في هذه المناطق. وبالطبع توجد تناقضات سياسية بين المملكة السعودية وروسيا. وقد جرت محاولات من قبلنا للتدخل في الشأن اليمني الداخلي، كما نادي بعضٌ منا بضرورة الوقوف إلي جانب قطر في أزمة الخليج الحالية، ولكن هذا لم يحصل وبقي موقفنا محايدا. وكان من الواضح أن الزيارة أتت أكلها من ناحية أخري، حيث دفعت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"، وبعد فترة من التردد والتسويف والمماطلة، إلي الإعلان أن وزارة الخارجية وافقت علي صفقة قيمتها 15 مليار دولار لبيع نظام ثاد الدفاعي المضاد للصواريخ للسعودية. ولم تخطئ أعين المراقبين أن الإعلان جاء عقب إعلان سابق عن قيام المملكة بشراء نظام إس-400 الروسي للدفاع الجوي خلال تواجد العاهل السعودي في موسكو. وتستخدم منظومة صواريخ ثاد لصد أي هجمات بصواريخ باليستية. وتفتح الموافقة الطريق أمام السعودية لشراء 44 منصة إطلاق و360 صاروخا ومحطات تحكم وأجهزة رادار. وقالت وكالة التعاون الأمني الدفاعي في البنتاجون في بيان "الصفقة ستدعم الأمن القومي الأمريكي ومصالح السياسة الخارجية وستدعم أمن السعودية ومنطقة الخليج في وجه التهديدات الإيرانية وغيرها من التهديدات الإقليمية". محل الخلاف ورغم كل ذلك لم تتوافر علي الصعيد السياسي أي علامة علي تحقيق انفراجة حقيقية بشأن القضايا محل الخلاف بين موسكووالرياض ومن بينها حقيقة مساندة كل دولة طرف يحارب طرفا آخر في الحرب الأهلية السورية. ولكن لم تظهر أيضا علامة علي أي خلاف علني. وركز وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ، في اطلاعه وسائل الإعلام علي سير المحادثات بين بوتين والملك سلمان، علي الأرضية المشتركة بين البلدين. وقال لافروف إن الزعيمين اتفقا علي أهمية مكافحة الإرهاب والتوصل لحلول سلمية للصراعات في الشرق الأوسط وعلي مبدأ وحدة الأراضي. ومن تصريحات لافروف فإنه من الواضح أن هدف الزيارة كان توطيد العلاقات الثنائية وفصلها عن القضايا موضع الخلاف في المنطقة، لا سيما أن السعودية كقوة مؤثرة تلعب دورا هاماً في الشرق الأوسط. ويمكن قراءة الترجمة الفعلية لذلك في المباحثات التي أجرتها شركة أرامكو النفطية السعودية مع شركة سيبور الروسية وهي أكبر شركة بترو كيماويات في روسيا، ما أسفر عن توقيع مذكرة تفاهم، بهدف إنشاء مشروع مشترك بينهما في السعودية، إضافة إلي توقيع كل من شركة "غازبروم" الروسية، و"أرامكو"، علي مذكرة تفاهم حول التعاون في مشاريع الغاز، بما في ذلك الغاز الطبيعي المسال. وجاء في بيان صحفي صدر عن الشركة "الوثيقة تعكس نية الجانبين دراسة آفاق التعاون في كل مراحل تشكيل السعر بدءا من التنقيب والاستخراج، والنقل، والتخزين، وصولا إلي مشاريع في مجال الغاز الطبيعي المسال". كما أعلن رئيس صندوق الاستثمارات المباشرة الروسي، كريل ديميرتيف، في وقت سابق، أن الصندوق المشترك بين صندوق الاستثمار الروسي المباشر، وصندوق الاستثمارات العامة السيادي السعودي، وشركة أرامكو السعودية العملاقة، يخطط للاستثمار في مشاريع الخدمات النفط الروسية، والتقنيات لإنتاج النفط، وفي إطار هذا الاتفاق، ستعطي أرامكو عقودا لشركات روسية. وأضاف رئيس صندوق الاستثمارات المباشرة الروسي أنه "من المهم جدا بالنسبة لنا أن أرامكو انضمت أيضا إلي هذا الاتفاق، وعليه، هي ليس فقط ستمول المشاريع، ولكن أيضا ستمنح للشركات العقود التي من شأنها أن يسمح لشركاتنا دخول السوق السعودي بنجاح". أما وزير الطاقة الروسي، ألكسندر نوفاك، فأعلن، في وقت سابق، أن روسيا والمملكة العربية السعودية ستقومان بتأسيس صندوق مشترك برأسمال مليار دولار لتطوير مشاريع مشتركة.