ليس هناك أدني شك أن النيل كان ومازال هو مصدر حياة كل المصريين.. اعتمدوا عليه في الزراعة.. والآن هو مصدر الرزق الوحيد لفئات مجتمعية كثيرة.. فلاحون وصيادون وعمال مراكب نقل وبائعو الورود.. وعربات الحنطور وبائعو الشاي والتسالي والليل، إلا أن ظاهرة عشق الصيد بالسنارة ظلت تشغل الكثيرين منذ الصغر.. ولأن صيد السمك بالشبكة أكثر متعة وإثارة وتشويقا.. وذلك بعد أن قررت خوض مهمة بدأت في السادسة صباحا مع طه الصياد الذي يملك قاربا صغيرا علي شاطئ النيل في منطقة الوراق.. تعلمنا منه خلال جولات كثيرة في المياه الكثير عن المهنة.. زادت الرغبة في إبحاري داخل نسيج حياة رواد النيل الذين يقضون معظم أوقاتهم علي شواطئه.. ولسان حالهم جميعا يقول إن الأرزاق يقسمها الله. في البداية لم أستطع أن أمنع نفسي من المتعة والإثارة والتشويق التي تصاحب صيد السمك بالشبكة.. خاصة أن الفكرة كانت تدعوني للتأمل والدهشة وظللت أتابعها علي مدار أسبوعين وفي أوقات متفاوتة من فوق الكوبري العلوي للمناطق المطلة علي النيل في المعادي ومصر القديمة والقناطر الخيرية.. وبالفعل اقتربت من أحد الصيادين عمره 40سنة ويدعي طه عويس ويسكن في منزل صغير علي شاطئ النيل في منطقة الوراق وطلبت منه تحديد ميعاد للركوب معه في مركب الصيد.. ومعايشة الأمر علي الطبيعة.. ورغم أنه كان مستغربا من طلبي.. لكن بعد إلحاحي طلب مني الحضور بعد يومين.. وحضرت وطلب مني استبدال ملابس الخروج التي حضرت بها وارتداء جلابيته.. ولكني أصررت علي النزول بملابسي.. وانطلقت في المركب أنا وزميلي المصور سامح مسلم ومعنا المراكبي عم طه عويس وزميله حسام الدين عبدالحميد.. وبدأت عملية التجديف بالخشبتين الطويلتين علي طرفي المركب وبنوع من حب الاستطلاع حاولت أخذ المجدافين علي اعتبار أن المسألة سهلة.. ولكن للحق كانت العملية صعبة لأني لم أتمكن من ضبط اتزان المركب.. وسرعان ما عاد المجداف لحسام مساعد المراكبي.. وما أجمل ما شاهدته عندما قام طه المراكبي بفرد الشبكة في المياه أثناء انطلاق المراكب بطريقة تشير لفن وخبرة في آن واحد.. وبعد أن تم فردها كلها.. وجدت نفسي بعد فترة سير بالمركب أنظر لمقدمة الشبكة عندما عاد الصياد للمها بطريقة معينة حتي لا تنعقد وتتداخل ببعضها.. وفي هذه المرة اصطدنا سمكة واحد.. وهذا دعاني للاستفسار عن الكثير في مناخ البحر والصيادين وعرفت أن الشبكة طولها حوالي 50 مترا وعرضها حوالي متران ونصف المتر ويوجد قطع من الحديد تسمي "بالثقّال" في طرف الشبكة السفلي وقطع بلاستيكية صغيرة واسمها "الغمازات" في طرف الشبكة العلوي، وبعد فترة توقف قليلة كرر طه الصياد عملية فرد الشبكة مرة أخري.. ورغم ذلك مازالت صورة السمكة وهي متعلقة بالشبكة وتحاول الفرار منها لا تفارق عيني.. وتباعا تكررت عملية فرد ولم الشبكة قرابة 10مرات.. وفي كل مرة كان يختلف عدد الأسماك التي يتم صيدها ولكنه لم يزد عن خمس أو ست سمكات.. ولذا اضطر طه الصياد لإيضاح أن السمك يهرب من المياه الباردة ليدخل الحشائش والأعشاب ويختبئ في المناطق الدافئة، ولكنه عندما اقترب من الجانب الآخر من الشاطئ قام برمي الشبكة بخشبة طويلة بحيث تبعد عن الحشائش بحوالي نصف متر.. ثم أمسك بخشبة طويلة موجودة معه اسمها "المدرة" مربوط فيها حبل صغير وهذه المرة يضربها في المياه بين الشبكة والشاطئ حتي يتم تطفيش السمك وتحريكه من مكان سكونه ليدخل الشبكة.. وبالفعل قام المراكبي بمجموعة من الضربات وللحق كانت هذه أفضل مرة تقوم فيها الشبكة باصطياد سمك. وبسؤال طه الصياد لماذا لا تفكر في رمي الشبكة مرة أخري في نفس المكان.. أوضح لنا بعدم فعل ذلك لأنه لن يكون له فائدة.. فالسمك سيكون تحرك من المكان ولن يعود إليه إلا بعد فترة.. فالشبكة عندما تلمس جسم السمكة من بعيد تبدو وكأنها كالسيف. وفي هذا التوقيت توقف طه وأشار إلي أنه يمارس مهنة الصيد منذ 25سنة ويقول وهو ينظر لسطح النيل ويأخذ نفسا عميقا.. قديما كان الخير في النيل وافرا.. أما الآن فالأسماك صارت قليلة وشحيحة بسبب التلوث الموجود في المياه نتيجة لإلقاء مخلفات المصانع والمطاعم النيلية في مياهه.. مما تسبب في الإضرار بالثروة السمكية كما أن الحكومة توقفت عن إلقاء الزريعة السمكية في النيل. - ويواصل حديثه بقوله: إن أفضل أوقات الصيد هي الفترة من بعد صلاة الفجر حتي الساعة التاسعة صباحا.. وبالطبع ما يحصل عليه الصياد رزق من عند الله.. ومن جديد استمرت جولتنا ذهابا وإيابا وسط مياه النيل والصياد يقوم برمي الشبكة ولمها أحيانا.. ومرة تصيب وأخري تخيب ولا يجد بها سمكة واحدة، وقد يبدو للبعض أن هذه المهنة سهلة، لكن الوقوف علي طرف مركب صغير يحتاج لنوع من الاتزان والثبات، كما أن طريقة لم الشبكة نفسها ليست سهلة، والأهم من هذا كله هو الصبر وعدم التعجل في طلب الرزق.. فهذه المهنة ليست لها حسابات ولا منطق ولا شطارة أو مهارة بل هي أرزاق. ويلتقط خيوط الحديث الصياد حسام الدين عبدالحميد ولكونه صديق طه صاحب المركب يعتبر نفسه مساعدا له إلا أن أسرته وأعمامه يمتلكون أكثر من مركب من المراكب التي تجوب النيل طولا وعرضا في الرحلات النيلية الترفيهية والصيد وغيرها مشيرا إلي أن النيل كان ومازال هو مصدر الخير والبركة لمصر.. - ويضيف أنه قبل ثورة 25 يناير كان هناك انتعاش كبير ورزق وفير بسبب انتعاش حركة السياحة لمصر بعد الثورة عشنا فترة من الفوضي والتعدي الدائم علي النيل وتراجع الدخل بصورة كبيرة بسبب تراجع حركة السياحة وخاصة العربية وتوقف المصريين عن الرحلات النيلية بسبب انعدام الأمن في هذه الفترة.. ثم عاد وأشار إلي أن النيل بدأ يستعيد عافيته من جديد.. وبدأت حركة الرحلات النيلية في الانتعاش في ظل حالة الهدوء والاستقرار التي تشهدها مصر حاليا. أما الريس سعيد حنطور.. فيقول: النيل هو مكان عملي وسكني لأنني أقضي عليه أكثر من ثلثي يومي مع حصاني وحنطوري من العاشرة صباحا وأحيانا أظل حتي الفجر أيام الصيف التي يتوافد فيها الناس علي النيل. ويضيف عم سعيد حنطور قائلا.. هذه الأيام لا تسر.. وإن كانت قد تشهد انتعاشا ورواجا خلال الاحتفالات وبعد انتهاء الامتحانات في المدارس وخلال الإجازات وشهر رمضان وبسؤال عم سعيد عن تسعيرة ركوب الحنطور أجاب بعدم وجود تسعيرة محددة حيث تخضع الأمور للتفاوض والتراضي لأننا نعمل من أجل لقمة العيش.. أم محمد.. أنها "ست ب100راجل" ورثت سيارة الذرة عن أهلها البسطاء وأشارت إلي أن ما تحصل عليه يوميا من بيع الذرة.. أرزاق.. من عند الله. وبجواره بائع الشاي والعصائر يقف عم شيخون بائع تسالي اللب الأبيض والسوبر والفول السوداني ويؤكد أنه مع باقي الباعة الجائلين علي الكورنيش يتعرضون في كثير من الأحيان لحملات من شرطة المرافق خاصة خلال الفترة من الصباح حتي الظهيرة، لكنهم مستمرون بالتواجد علي ضفاف النيل لأنهم لا يستطيعون الحياة بعيدا عنه، لأنه يعتبر المصدر الوحيد المتاح أمامهم لإعالة أسرهم.