هل يُمكنك تخيُّل أن تكون حياتك كلها على ظهر مركب في النيل؟ لحظة.. قبل أن تختلط عليك صور خيالاتك؛ فلا أقصد بالمركب تلك التي تُشبه الفنادق العائمة أو الخمس نجوم، ولكن أقصد مراكب الصيد الخشبية البسيطة التي نشاهدها تجوب مياه النيل، وعلى ظهرها صياد بسيط تُساعده زوجته وأبناؤه؛ إما في قيادة المركب "القارب"، أو في وضع شباك الصيد بالمياه. قد يكون الأمر عادياً لا يحتاج إلى خيالات، فمن المعتاد مشاهدة مراكب الصيد النيلية، وعليها الصيادون يُلقون بشباكهم، ويلمّونها بما يجود الله عليهم به من رزق من هذا النهر الخالد، ولكن ما رأيك لو تخيّلت أن هناك أُسراً بأكملها تمارس كل أنشطة حياتها على ظهر هذه المراكب الصغيرة؛ فهي مسكنهم الذي يُؤويهم، ومكان عملهم في نفس الوقت، ويعشقون حياتهم وسط المياه، يخافون زحام الشوارع، التي لا يخرجون إليها إلا عند الضرورة القصوى. أظن أن الأمر في هذه الحالة يُصبح غير عادي، وأن العديد من التساؤلات سوف تقفز إلى ذهنك؛ فكيف يكون شكل المعيشة على مركب صغير؟ كيف تتعامل الأسر مع بعضها البعض؟ وماذا يأكلون وكيف يتزوّجون؟ وغيرها من التساؤلات التي سوف أحاول البحث عن إجاباتها معك من خلال جولة بين عدد من هذه الأُسر. "الشرقاوي": المركب كل حياتي.. أعيش عليه أنا وزوجتي وأبنائي الثلاثة مسكن ومكان للعمل داخل مركب بدأت جولتي من شاطئ النيل بمنطقة الورّاق، حيث اصطحبني أحد أصحاب المراكب معه داخل المياه، ورفض أن يكون حديثنا على الشاطئ؛ المركب الصغير -والمعروف باسم القارب- لا يتعدّى طوله الأربعة أمتار، وعرضه لا يتجاوز المتر الواحد، تصميمه الداخلي سمح بوجود فتحتين؛ واحدة في المقدّمة لتخزين القليل من متطلبات المعيشة مثل موقد نار والأغطية والملابس، والأخرى في الجزء الخلفي لحفظ أدوات الصيد، أما المساحة المتبقية في منتصف المركب؛ فهي بمثابة "الصالون" حيث يجلس بها أفراد الأسرة، وهي أيضاً مكان قيادة المركب، ومعلق بها المجاديف، ومكان للنوم صيفاً. "عيسى الشرقاوي" صاحب المركب الصغير قال: "ورثت مهنة الصيد عن آبائي وأجدادي كما ورثت هذا المركب، الذي أعتبره كل حياتي؛ فأعيش عليه أنا وزوجتي وأبنائي الثلاثة، وكان زواجي داخل المركب، فالزوجة ابنة أحد الصيادين أيضاً، ولا أنسى يوم زفافنا؛ حيث تجمّع زملائي بمراكبهم وأخذنا نتجوّل في النيل لأكثر من 5 ساعات، في جو من البهجة والمرح". عشة على شاطئ النيل لكل صياد عشة صغيرة؛ يُقيمها على شواطئ النيل الهادئة؛ مثل: "جزيرة الورّاق أو بالقرب من القناطر الخيرية.. وغيرها)، ويقتصر استخدام العشة على تخزين أدوات الصيد الكبيرة أو الإقامة بها في بعض الأوقات القليلة؛ خاصة في فصل الشتاء للحماية من برودة الجو والأمطار. وأضاف "الشرقاوي": أعمل أنا وأسرتي طوال اليوم منذ أذان الفجر وحتى غروب الشمس، ونوزّع العمل فيما بيننا، فأقوم بإعداد الشباك وتوزيعها في الماء، وزوجتي تُساعدني في قيادة المركب، أما أبنائي فيُساعدونني أيضاً في العمل وتصنيع الشباك وغير ذلك، ولم أفكر يوماً في إلحاقهم بالمدارس؛ لأنني لا أريدهم أن يخرجوا إلى الشارع، وأريدهم أن يَرثوا حياة النيل، بكل هدوئها وصفائها، فالشارع كله مشاكل. الصيادون يُلقون بشباكهم ويلمّونها بما يجود الله عليهم به من رزق الخروج للشارع لشراء الأرز والشاي تناولت الزوجة "إيمان" أطراف الحديث -وهي تمارس عملها في قيادة دفة المركب- قائلة: "لا أعرف في الحياة سوى أسرتي التي تعيش معي على ظهر المركب، وصديقاتي من زوجات أصحاب المراكب النيلية، ولا أخرج للشارع سوى للضرورة، مثل شراء الأرز -الذي يُعتبر وجبتنا الرئيسية- مع السمك علاوة على الشاي والسكر، وأُمارس كل أعمالي المنزلية على ظهر "القارب"، فأقوم بطهي الطعام على موقد نار صغير أو على نار الحطب، وغسيل الملابس يكون في مياه النيل". وأوضحت: "ابني الأكبر تزوّج قبل شهر واحد؛ بعد أن استقلّ بمركب خاص به والذي نعتبره "عش الزوجية" بعد أن قُمنا بإعداده له وفرشه بالبطاطين، وتوفير مستلزمات العمل له هو وزوجته -وهي ابنة لأحد الصيادين أيضاً- وحالياً نقوم بإعداد مركب آخر لزواج الابن الثاني، ثم يأتي دور الابن الأخير إن شاء الله، وقد تمّت ولادتي لأبنائي في المركب أيضاً؛ على يد إحدى الدايات، التي حضرت خصيصاً على ظهر المركب للقيام بذلك، ورفضت أن أذهب إليها". بيع السمك في الفنادق والعائمات انتقلت من مركب "عيسى" إلى مركب آخر، وصاحبه يُدعى "عم جمعة" وقال: "أُسَر الصيادين عادة ما تتجمع في المناسبات؛ مثل الأعياد حيث نتبادل التهاني، وفي شهر رمضان نقوم بعمل إفطار جماعي كل يوم على ظهر مراكبنا، وأضاف: أعيش وأسرتي -المكونة من خمسة أفراد- على ظهر ثلاثة مراكب، نجوب بهم النيل، من حلوان وحتى القناطر الخيرية يومياً بحثاً عن الرزق، ونقوم ببيع ما نصطاده من أسماك لمسئولي المطاعم بالفنادق الواقعة على النيل أو لأصحاب المراكب العائمة، ويُقبلون عليه لطزاجته، علاوة على انخفاض سعره، مقارنة بمثيله في أي مكان، فنبيع كيلو سمك البلطي بسبعة عشر جنيها والقراميط بعشرين، ولا نفضّل الذهاب للبيع بالأسواق البعيدة عن شاطئ النيل". وأشار "عم جمعة" إلى أن المودة تحكم أُسَر المراكب، والمشاكل التي قد تحدث على فترات متباعدة -نتيجة التعدي على مناطق صيد الغير مثلاً- يتم حلها ودياً، من خلال جلسات عرفية، يرأسها شيخ الصيادين. أُسَر الصيادين تعشق الحياة البسيطة.. فهل نترك من رضي بحاله في "حاله"؟ الأبناء بدون شهادات ميلاد أما الابن الأكبر في أسرة "عم جمعة" ويُدعى "محمد" فقال: "لم أهتم كما لم يهتم أبي باستخراج شهادة ميلاد لي إلا عندما قررت أن أقوم بعمل ترخيص مركب، واستوجب الأمر توافر بطاقة شخصية لإنهاء الإجراءات القانونية، وأوضح أنهم يتمسكون باستخدام المراكب (القوارب) الخشبية ذات المجاديف الخشبية، ولا يميلون إلى استخدام الماكينات الكهربائية بديلاً عنها، وأوضح أن تكلفة صناعة المركب وتجهيزه تتعدّى العشرين ألف جنيه، ويتم تجديده وصيانته سنوياً". جنازة على ظهر القارب عند كورنيش النيل بمنطقة "طرة" صعدت إلى مركب أسرة صياد آخر، وكان جميع أفرادها منهمكين في العمل، وأوضح صاحب القارب الصغير واسمه "ربيع النادي" أنه أوصى أبناءه أن تكون جنازته وتلقّي العزاء على ظهر مركبه، وأشار إلى أنه مثل السمك.. لو خرج من المياه يموت. هناك الكثيرون كهذه الأُسَر يعشقون الحياة البسيطة، بعيداً عن صخب المدينة لا يطلبون "حاجة" من مسئول، راضين بحالهم، ولكنهم يخشون أن يأتي يوم ويُحرَمون منها، فالتعديات على شواطئ نهر النيل تتزايد، العائمات التي تناطح الأبراج في طولها تزيد، علاوة على تلويث مياه النيل مصدر رزقهم.. والسؤال: هل نترك من رضي بحاله في "حاله"؟