المصريون شعب صبور ومبتكر بطبيعته لا ينتظر من حكوماته أن تمد له يد العون أو تقديم حلول وهمية تبيع له الوقت الذي يزيد محنته بلا أمل حقيقي في الحل. فحسب إحصائية أخيرة للبنك الدولي قدرت أعداد المصريين تحت خط الفقر بأكثر من 04٪ يعيشون في العشوائيات داخل عشش صفيح أو علب كرتونية وقد يفضل بعضهم العيش تحت الكباري أو يتخذ من قارب صيده مقرا له كما أن معظمهم عزل نفسه عن واقع مجتمعه بمحض إرادته لا يعلمون شيئا عما يدور في بلادهم من تغيرات سياسية وحتي بعد أن قامت ثورة يناير فلم تفلح في تغيير تقديرهم لهذه الحياة ومحاولة تغييرها للأفضل كما يتمني غالبية المصريين. المهمشون في مصر يعانون أزمات متكررة توْرق بالهم كأنابيب الغاز وطوابير العيش تشعر وكأنهم يعيشون في عالمهم الخاص بعيدا عن صخب الحياة المدنية وضجيجها فهل بعد أن سقط النظام الديكتاتوري ورحلت حكوماته ستتغير أحوالهم للأحسن وتضعهم علي خريطة اهتمامها؟ هذا ما ستفصح عنه الأيام القادمة. علي شاطئ ترعة الإسماعيلية تلك الترعة المليئة بالخير الوفير والمارة علي أراضي ثلاث محافظات هي القاهرة والشرقية والإسماعيلية تجود علي ساكنيها بما قدر الله لها أن تجود به عليهم وعلي جانبي الترعة تجد فدادين الأراضي الزراعية والتي تسقي من مياهها وفي بعض الحالات تروي ظمأ العطاشي أيضا والغريب أن هذه الترعة تشبه إلي حد كبير الأم الحنون ذات الصدر الرحب الواسع الذي لا يضيق بما يفعله أبناؤها فتغفر لهم خطاياهم مهما عظمت فها هن سيدات قرية سرياقوس بالقليوبية يقفن علي شاطئها ليغسلن أوعيتهن وملابس أسرهن يحيط بهن الأبناء الذين يركضون ويلعبون حول المياه غير عابئين بتحذيرات أمهاتهن من أن البحر غدار لا يبقي علي عزيز أو غال. علي مقربة منهن وقفت عشرات القوارب الخشبية المحملة بأسر لم ترتض غير البحر مسكنا لها وقواربها مأوي لهم فهم بشر يحملون الجنسية المصرية ولكنهم بعيدون كل البعد عن همومها وآلامها فلا يخرجون إلي الشارع سوي لقضاء الحاجات الضرورية يخافون من الزحام وفضلوا الابتعاد عن صخب المدينة ومواجهة الأبراج الشامخة التي تقف بغرور وكبرياء علي شاطئ النيل. أما القوارب التي يعيشون فيها فلا يتعدي طولها الثلاثة أمتار وأما عرضها فهو متر واحد علي الشاطئ ومزود به فتحتان الأولي تعد بمثابة حجرة المعيشة ومزودة بكافة الحاجات من الأواني وموقد النار الصغير والذي يستخدم في إعداد وجبة الغداء المكونة من السمك وبعض حبات الأرز والتي لا يخرجون الي الشارع إلا لشرائها وأما الفتحة الثانية الخلفية فتستخدم في تخزين أدوات الصيد من الشباك والصنانير وعلي جانبي القارب توجد المجاديف التي تستخدم في تحريكه أما منتصفه فيعد مقر قيادة القارب وحجرة نوم الأسرة والتي لا يهم أعدادها يفترشون أرض القارب ويستخدمون البطاطين الرثة غطاء يقيهم برد الشتاء. أسرة عم فتحي إحدي تلك الأسر والتي تعود أصولها إلي محافظة المنوفية لأب نزح من قريته واستقر علي شاطئ القناطر الخيرية ثم تزوج من ابنة أحد الصيادين وأنجب أحد عشر ولدا عملوا في نفس المهنة إلي أن تفرقت بهم السبل فمنهم من استقر في جزيرة الوراق وآخر بطرة ولكنهم يلتقون باستمرار في الأعياد والمناسبات . يقول عم فتحي والذي تجاوز عمره الخمسين عاما وهو يفترش أرض القارب تجاوره زجاجة المياه والتي لا تفارقه نظرا لمرضه بسكر الدم: البحر كل حياتي فقد ولدت علي متن قارب أبي وظللت في البحر 25 سنة لم أفارقه قط فأنا كالسمك إذا خرج من مياهه مات علي الفور وقد تزوجت من إحدي قريباتي من المنوفية واتفقنا علي أن أعد لها قارب الزوجية وأزوده بكافة الحاجات واحتفلنا بالزفاف علي متنه وشهد بعد ذلك إنجابنا خمسة أبناء ورثوا المهنة، أما بناتي فأولاهن تزوجت من أحد أبناء عمومتها في القناطر الخيرية وانتقلت لتعيش معه في قاربه والصغري مخطوبة لصياد آخر ولكن بطرة البلد . ويستكمل فتحي قائلا : أحاطتني الأمراض من كافة النواحي فأصبت بضغط الدم العالي وانزلاق غضروفي منعني من استكمال العمل إضافة لأمراض السكر والكبد لذلك أناشد حكومات ما بعد الثورة أن تتيح لنا فرصة العلاج علي نفقة الدولة أو حتي توفير الأدوية بأسعار زهيدة لتكون في متناول الأيدي فتكلفة شرائها قد تصل في بعض الأحيان إلي أكثر من مائتي جنيه وهذا بالطبع مبلغ خرافي لا أستطيع تسديده فاذا توافر لدي أسارع لشرائه وذا لم يتوافر فهذه حكمة الله وأتعرض إلي مضاعفات خطيرة نتيجة عدم تناول الدواء بانتظام . وتناولت الزوجة أم وائل طرف الحديث أثناء قيادتها لدفة القارب :الحياة علي سطح البحر سهلة وبسيطة خالية من التعقيدات وقد اخترنا هذه الحياة بمحض إرادتنا فقد تزوجت بعد أن تجاوزت السابعة عشرة وأنجبت أبنائي علي سطحه فالداية حضرت إلي هنا خصيصا بعد أن رفضت الولادة خارجه فكان شاهدا علي زواجي وولادتي وأوصيتهم أن تخرج جنازتي من هنا أيضا وعن طبيعة الحياة فنحن لا نخرج إلي الشارع سوي لملء جراكن المياه من المسجد القريب منا ولقضاء حاجاتنا كذلك لملء موقد النار الصغير والذي لا نفلح في ملئه في كثير من الأوقات نظرا لاْزمات الأنابيب المتتالية وفي أحلك الظروف نضطر للاعتماد علي وجبات خفيفة علي الأزمة تنفرج. وتستكمل أم وائل قائلة: وقد وفقنا الله في تزويج الابن الأكبر والآن نقف علي قدم وساق لإعداد قارب الزوجية لأخيه الثاني والذي سيسكن بجوارنا من ابنة أحد الصيادين وأما الابنة الصغري فسوف تلحق بأخيها بعد أن وفقنا في توفير حاجاتها من بطاطين وأواني معدنية والتي لا تحتاج الا لغيرها ولكن أغلب المشاكل تكمن في المضايقات المستمرة والمتعمدة من شرطة المسطحات المائية والتي لا تكف عن تقرير الغرامات المبالغ فيها والتي قد تصل إلي الخمسمائة جنيه دون مراعاة لأحوالنا كذلك عند الحصول علي تراخيص الصيد فمعظم الصيادين لا يمتلكون شهادات ميلاد أو بطاقات للرقم القومي مما يعقد الأمور ونضطر لدفع الرشاوي لتسيير العجلة فالبحر أصبح بخيلا بما يجود به علينا فحصيلة ما نصطاده يصل إلي الاثنين أو الثلاثة كيلو فقط وهذا لا يعوض المجهود الشاق الذي نبذله. بعد ذلك انتقلنا إلي قارب آخر لصياد ويدعي موسي وهو رجل يقترب عمره من الستين ربيعا يعيش علي ظهر المركب منذ ثلاثين عاما مع زوجته بعد أن وفقه الله في تزويج جميع أبنائه وانتقلوا للعيش علي قواربهم الزوجية فيقول: ورثت هذا القارب من أجدادي وآبائي وتفانيت في الحفاظ عليه إلا أن التعديات علي الترع والنيل زادت بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة مما انعكس علي رزقنا إضافة للتلوث الذي أحاط بنا من جميع النواحي والتعقيدات الروتينية التي تمارسها علينا إدارة التراخيص فنضطر لدفع الرشاوي لنسير أمورنا. الناس اللي تحت الكوبري حاولت مصر منذ بداية الألفية الثالثة اللحاق بركب التقدم وحل مشكلة التكدس السكاني فتفانت في بناء الكباري العالية واستعانت بأساتذة الطرق علها تحفظ ماء وجهها أمام العالم إلا أن الكباري ساهمت أيضا في حل مشكلة الإسكان في مصر فتحتها تعيش مئات الأسر تستظل بظلالها وتقيها الأمطار وحرارة الشمس فهم أناس يعيشون تحت خط الفقر ليس لهم مأوي أو مسكن فلم يجدوا سوي سكني الكباري فربما تكون أحن عليهم من حكوماتهم التي تغافلت عنهم ولم تنظر اليهم بعين الشفقة والرحمة ونتساءل هل كان هذا القطاع بعيدا عن أعين الوزراء ولم يروهم أثناء مرورهم بمواكبهم الفخمة ؟أم تعمدوا غض أبصارهم حتي لا يروا حقيقة ما جنوه في حق الشعب المصري؟ تحت كوبري المظلات هذا الكوبري العتيق الذي يربط الجيزةوالقاهرة بمدن شبرا الخيمة وأبو زعبل بالقليوبية تحاذيه ترعة الإسماعيلية ولفت نظرنا عربة كارو متهالكة مرصوص عليها قطع كرتون يقف بجوارها حصانان أنهكهما العمل فوقفا ليلتقطا أنفاسهما وليتفحصا وجوه المارة . أشياء متكورة علي الأرض ملفوفة في بطاطين رثة لا تستطيع أن تحدد معالمها أو تتعرف علي كينونتها ولكن سرعان ما بدأت هذه الأشياء في التحرك وإصدار همهمات ورويدا رويدا نفضت البطاطين عنها فأفصحت عن هويتها الآدمية كان الشخص الأول ويدعي محمود وهو شاب مفتول العضلات قوي البنيان لم يتعد عمره الثلاثين عاما يرتدي بنطلون جينز بال يعلوه تي شيرت كان لونه أبيض في الماضي ولكن تبدل لونه إلي الأسود يقف ليعيد ترتيب القطع الكرتونية المتناثرة علي العربة إذن هم يعملون في جمع الكرتون وبيعه للمصانع . والمسكن عبارة عن حصيرة مفروشة علي الأرض موضوع بجوارها موقد صغير لإعداد الطعام تجاوره الأواني والملابس معلقة علي حبل غسيل مثبت علي مرسي الترعة والبطاطين وضعت علي أحد جوانب العربة وجركن كبير مملوء عن آخره بالمياه تجاوره أكواب الشاي الرخيصة وكيس سكر مكتوب عليه أنه مصنع تحت عين وزارة التضامن الاجتماعي . بدأ محمود حديثه بحمد الله علي نعمة الستر والصحة وراحة البال والمفقودة عند كثير من البشر فقال: منذ أن تفتحت عيناي علي الدنيا لم أجد سوي الحب والرعاية من والدي واللذان كانا يعملان في جمع القمامة في بلدتنا بأبو صوير بالإسماعيلية وكانا يملكان كوخا خشبيا ولكن تبدلت الأحوال معهما وقل الرزق فقررا الرحيل عن القرية واللحاق بقطار القاهرة العتيقة والمتخمة بأعمال لا تجد من يعملها إلا أن أحلامه تبخرت بعد أن يئس من الحصول علي مسكن يعيش فيه فاختار هذا الكوبري للعيش تحته وكان يخرج إلي العمل في الصباح الباكر ولا يعود إلا آخر النهار. أما إحسان فتحدثت بشجاعة تحسد عليها فقالت: ولدت هنا أنا وإخوتي وتعلمت الشجاعة والجرأة وأن آخذ كافة حقوقي بيدي دون أي خوف وأثناء الفوضي التي أعقبت الثورة كنت أحمل السلاح الأبيض وأضع بجواري زجاجة مياه نار لتكون بمثابة أداة تخويف لكل من تسول له نفسه الاقتراب مني وعن أمنياتها مع الحكومة الجديدة فقالت أنها لا تريد شيئا من الحكومة الحالية أو القادمة سوي ألا يضايقوهم ولا يطالبوهم بترك مسكنهم في يوم من الأيام فالكوبري برهن علي حنوه علينا وفتحه أبوابه لنعيش تحته.