إذن، الحراك السياسي والأمني في مصر الآن، إنما يتجه وبإصرار نحو توجيه ضربة نوعية للإرهاب بتجفيف مصادر تمويله الرئيسية، ولو كانت في معية دول أو أنظمة حكم.. الدولة المصرية وحتي من قبل دخولها رسميًا في إطار حملة المقاطعة الإقليمية للدوحة كان موقفها راسخًا في هذا الشأن، وهو ما عبر عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي، في كلمته بالقمة العربية الإسلامية الأمريكية بالرياض، مايو الماضي، حين قال نصًا إن "المواجهة الشاملة مع الإرهاب تعني بالضرورة.. مواجهة كافة أبعاد ظاهرة الإرهاب فيما يتصل بالتمويل.. والتسليح.. والدعم السياسي والأيديولوجي.. فالإرهابي ليس فقط من يحمل السلاح.. وإنما أيضا من يدربه.. ويموله.. ويسلحه.. ويوفر له الغطاء السياسي والأيديولوجي". وتابع في موضع آخر "دعوني أتحدث بصراحة وأسأل: أين تتوفر الملاذات الآمنة للتنظيمات الإرهابية لتدريب المقاتلين.. ومعالجة المصابين منهم.. وإجراء الإحلال والتبديل لعتادهم ومقاتليهم؟ مَن الذي يشتري منهم الموارد الطبيعية التي يسيطرون عليها.. كالبترول مثلاً؟ مَن الذي يتواطأ معهم عبر تجارة الآثار والمخدرات؟ ومِن أين يحصلون علي التبرعات المالية؟ وكيف يتوفر لهم وجود إعلامي عبر وسائل إعلام ارتضت أن تتحول لأبواق دعائية للتنظيمات الإرهابية؟" قبل أن يلخص الرئيس رؤية مصر لخطورة رعاة الإرهاب بقوله: إن "كل مَن يقوم بذلك هو شريكٌ أصيلٌ في الإرهاب.. فهناك.. بكل أسف.. دولاً تورطت في دعم وتمويل المنظمات الإرهابية وتوفير الملاذات الآمنة لهم... كما أن هناك دول تأبي أن تقدم ما لديها من معلومات وقواعد بيانات عن المقاتلين الإرهابيين الأجانب.. حتي مع الإنتربول". علي هذا النحو، بدت القاهرة أكثر حساسية، ومنذ فترة ضخمة لتتبع مصادر تمويل قوي التطرف علي أراضيها، حتي يتسني لها وضع خطة محكمة لمجابهة الإرهاب من جذوره، ووفق عملية شاملة، لا تعتمد فقط علي الشق الأمني وحسب. فالإرهاب السيناوي مثلًا تمكن علي مدار السنوات الثلاث الماضية، وبالأخص في المراحل الأولي من نشاطه، قبيل التدخلات الحاسمة للجيش لضبط الأوضاع علي أرض الميدان، من صناعة تحالفات تمويلية محلية وأخري عابرة للحدود. الجماعات المسلحة استفادت من عصابات التهريب ونسقت معها وشاركتها في عملياتها في بعض الأحيان، بيد أن الأنشطة تعددت وتنوعت وفق دراسات تحليلية وميدانية، بين تهريب السلاح والمخدرات، وتجارة البشر والأعضاء، فضلًا عن تسهيل الهجرات غير الشرعية بالنسبة للأفارقة إلي إسرائيل مقابل الحصول علي فدية، حسب الباحث في الشؤون الاقتصادية، إبراهيم الغيطاني. أضف إلي ذلك وجود تمويلات خارجية متدفقة جراء بيعة أنصار بيت المقدس لتنظيم داعش ومن ثم تحول الأول إلي ولاية سيناء في خريف العام 2014.. الكيان المركزي وأحباره طالما دعوا علانية لدعم جنود الخلافة المزعومة علي ضفاف النيل، ناهيك بالتعاون مع حماس وأنفاقها. تمويلات أخري جاءت من الجماعات الإرهابية النشطة بليبيا، فضلًا عن ملايين الدولارات من الدول الراعية للإرهاب، والتي تستهدف عادة وعلانية الدولة المصرية ونظام حكمها. وبالنظر إلي البيان المشترك الصادر من قبل مصر والسعودية والإمارات والبحرين، مساء الخميس، والذي تبني قائمة مشتركة ضمت 59 فردًا و12 كيانًا، سواء كان مقرها في قطر أو كانت مدعومة من قبلها، تم تصنيفها جميعًا كرؤوس ومنصات للإرهاب، فإن الدلالة الأبرز في تلك الخطوة، هي الرغبة في ضرب وتجفيف منابع تمويل ودعم التطرف والجماعات الدينية المسلحة، ناهيك بدحض نوافذ التحريض والفتنة من المنبع. ومصر تعاني الأمرين جراء الضربات الإرهابية الداعشية وغير الداعشية المتصاعدة في سيناء وخارجها، منذ سقوط دولة المرشد صيف العام 2013، بيد أن التحدي الأكبر للقاهرة ظل ولا يزال في مصادر التمويل والدعم الفني واللوجيستي والتسليحي المتدفق علي مختلف الكيانات المتطرفة النشطة علي ضفاف النيل. وزاد الأمر تعقيدًا، تباين وتعدد نوافذ الإرهاب في مصر، ما بين تنظيمات مركزية كولاية سيناء الداعشية/ أنصار بيت المقدس سابقًا، أو خلايا إخوانية نوعية، أو حتي كيانات جهادية هجين ذات منطلقات أيديولوجية متفاوتة بينما يجمعها هدف سياسي واحد، وهو ضرب الدولة. علاوة علي الذئاب المنفردة والمقاتلين الأجانب العابرين إلي شرق قناة السويس وعبر الأنفاق المنطلقة من قطاع غزة، أو أولئك المتسللون بطول الحدود الغربية مع ليبيا. كوكتيل تنظيمات معقد، أنتج إلي جانب فوضي الدماء والطائفية، فاتورة اقتصادية مفزعة تضر بلا شك بالدولة، ما يعني أن الإرهاب يحمل أهدافًا أكثر إيلامًا من مجرد "التفزيع بالدماء" تتمثل في ضرب بنية البلد الاستثمارية المالية. فالإخوان والدواعش اتحدوا ولو ضمنيًا لمضاعفة خسائر الدولة في السياحة والكهرباء والمواصلات والبنية الأساسية. صدق أو لا تصدق، فإنه وحسب دراسات وإحصاءات شبه رسمية يبلغ متوسط الخسائر السنوية بسبب التفجيرات والسيارات المفخخة وأصحاب الأحزمة الناسفة في مصر نحو 50 مليار جنيه. فدلالة خفض معدلات العمليات الدموية، وإن كانت تؤشر لنجاح منظومة الأمن المصري، جيشًا وشرطة في المكافحة، فإنها وفق الباحث في شؤون الجماعات المسلحة، أحمد كامل البحيري، تجزم في الوقت ذاته بارتفاع التكلفة، إذ إن وأد التفجيرات والاعتداءات المسلحة وخطط انتحاريي الأحزمة الناسفة يحتاج ترتيبات مالية ضخمة ويؤدي إلي خسائر اقتصادية فادحة جراء توجيه جزء من الميزانيات العامة لحماية الشارع والمواطن، ناهيك عن الأثر السلبي لاستمرار الإرهاب ولو كان يواصل انحساره، والمتمثل في هروب المستثمرين الأجانب علي وجه التحديد، خوفًا من عدم الاستقرار في الأوضاع. ما سبق يعني، أن الدولة لديها أزمة كبيرة في تحمل التكلفة الاقتصادية جراء ضربات الإرهاب، فيما أنها تعاني كذلك من صعوبات جمة للسيطرة علي مصادر التمويل المتعددة لتلك الجرائم البشعة. وتقف دول إقليمية ذات ثقل وتأثير سياسي، والأهم تمتلك سطوة مالية، كما هو الحال مع قطر حسب البيان الجديد لدول المقاطعة الرئيسية الأربع (مصر والسعودية والإمارات والبحرين)، ناهيك عن تركيا وربما إيران، ونفر من البلدان الغربية، كظهير سياسي وتمويلي وأيديولوجي (كنظام الإخواني رجب طيب أردوغان) للجماعات الدينية المسلحة في بلد الأهرامات، ما يضاعف من مشقة مجابهة العناصر الإرهابية في هذا الأخير. ولا يجب إغفال دور التنظيم الدولي للإخوان في الدعم المباشر للأبواق الإعلامية المحرضة ضد نظام ما بعد 3 يوليو 2013، وكذا في المساندة غير المباشر أو المستترة للكيانات المسلحة، وهو ما يتم غالبًا عبر أفرع جماعة المرشد المقاتلة في الأقطار المختلفة، كما في ليبيا أو غزة، أو حتي عبر الأجنحة غير السياسية المنتمية التي تدين بفكرة السمع والطاعة للجماعة الأم، في دول كالعراق وسوريا واليمن. إن خريطة التمويلات الإرهابية في مصر، علي مدار السنوات الأربع الماضية علي الأقل، تبدو شديدة التداخل والتفاصيل مزدحمة المصادر والمفاجآت في آن واحد. معلومات متداولة بشأن عمل لجنة حصر أموال الإخوان تشير مثلًا إلي أن الأخيرة سلمت بلاغات إلي نيابة أمن الدولة العليا، تفيد بوجود دلائل مثبتة عن تحويلات بنكية تخص الجماعة وأذرعتها العنيفة النشطة علي الأرض من خلايا نوعية وخلافه، تقدر بقرابة 6 مليارات جنيه، حوتها مستندات وشيكات إيداعات تخص عناصر غير مرصودة أمنيًا في مصر، تم إرسالها إليها انطلاقًا من قطر أو تركيا، ولكن عبر بنوك أجنبية وسيطة لها أفرع في باريس ولندن وعدد من المدن السويسرية، علي أمل أن يتم تغطيتها لتمر من خلال الجهاز المصرفي والبنك المركزي للقاهرة دون معوقات. حسب اللجنة أيضًا، فإنه أمكن رصد موظفين رفيعي المستوي في بنوك محلية وأجنبية بمصر تقوم علي رعاية تلك التدفقات الدموية حتي تصل لوكلاء التوزيع علي الخلايا والكيانات المتطرفة، سواء المشتغلة ضمن عجلة الإرهاب والعنف، أو تلك العاملة في معية قنوات التحريض السياسي والإعلامي. أضف إلي ذلك ما تم إجهاضه خلال الفترة الماضية من تدفقات تمويلية محلية تقليدية للإخوان علي وجه التحديد، كالمدارس والمستشفيات ودور المناسبات وشركات الصرافة ومحال تجارية ومصانع من كل شكل ولون، مملوكة لقادة في التنظيم بينما هدفها الأساسي توفير السيولة التمويلية بالملايين لأنشطة الجماعة المعلنة والمستترة. وكانت اللجنة أعلنت قبل 3 أشهر عن تقديمها نحو 530 بلاغًا منذ إنشائها إلي الجهات القضائية المختصة، ضد العشرات من قادة وكوادر الإخوان وحلفائهم لاتهامهم بتمويل الأعمال الإرهابية والإضرار باقتصاد البلاد، حيث تم قيدها جميعًا تحت رقم 653 لسنة 2017. وأخيرًا، فإن الأعوام القليلة الماضية كشفت كذلك عن نمط آخر لتمويل الخلايا والتنظيمات الدينية المسلحة، يمكن تسميته بالتمويل الذاتي، الذي يعتمد في مجمله علي انتهاج تلك الكيانات لقائمة من الجرائم الجنائية، كالاختطاف والسطو المسلح والسرقة بالإكراه وتزوير المستندات المالية وغيرها، وجميعها أمور مشرعنة بمنهاج وفتاوي مؤولة من جانب شيوخ وأئمة ومفتيي الإرهاب، سواء كان الأخير داعشيًا أو إخواني الهوي من قبل الخلايا النوعية المتسربة من معية التنظيم رغمًا عنه أو بالطناش من جانبه في إطار حربه مع الدولة.