تشابهت التفاصيل والتوقيتات والألم لايزال واحدًا، غير أن الخسارة تزداد فداحة وتكلفة.. ربما لن تحمل جريمتا تفجير قداس أحد الشعانين بكنيسة مارجرجس بطنطا ومحيط مار مرقس بشارع النبي دانيال بالإسكندرية، معلومات مغايرة علي نحو مؤثر أو كبير، عن تلك التي أحاطت بحادثة تفجير انتحاري لنفسه في الكنيسة البطرسية بالعباسية، قبل نحو 4 أشهر فقط، الأخيرة جرت قبل احتفال المصريين بعيد الميلاد المجيد بثلاثة أسابيع، لتتضاعف آثارها الطائفية جنبًا إلي جنب كونها عملية إرهابية خسيسة ذات أبعاد سياسية واجتماعية/ اقتصادية أيضًا. وها هي الكرة تعاد.. ليقع التفجيران الدمويان في مستهل أسبوع الآلام قبيل الاحتفال بعيد القيامة المجيد، ومرة أخري تسال الدماء بدناءة علي المذبح والآمنين يصلون.. الغموض الأولي بشأن طريقة تنفيذ الجريمتين، وعما إذا كانتا بواسطة انتحاري تقدم الصفوف الأولي للمصلين ليقتل نفسه والعشرات معه من الأبرياء في طنطا، أو كان الأمر تم بواسطة قنبلة بالإسكندرية، أو أن العكس هو الذي جري، إنما لن يغير من وقع الكارثة في شيء، فمن قتل قتل ومن أصيب أصيب، بيد أن أصابع التقصير، شاء من شاء وأبي من أبي، ستظل مرفوعة في وجه الأمن.. أن تحدث جرائم علي هذا النحو الفادح، وفي ظل كل التشديدات الأمنية المعقودة للسيطرة علي الوضع في أسبوع العيد، فذلك إنما يثير علامات استفهام لا حصر لها، ربما يجدر بالجميع الانتظار بضعة أيام في انتظار إجابة شافية. صحيح، أن جهاز أمني كاسكوتلانديارد أقر مؤخرًا، وفي أعقاب حادثة الدهس في لندن، بصعوبة توقع أو وقف شلال انتحاريي الذئاب المنفردة من المتطرفين الداعشيين وغير الداعشيين، بما يعني أن إمكانية تكرار الحوادث الإرهابية في مصر واردة أيضًا، إلا أن الإصرار علي استهداف الأقباط من قبل الكيانات والكوادر الدينية المسلحة في بلاد النيل، وتحديدًا علي هامش المناسبات الإسلامية والمسيحية، إنما هو جرس إنذار كبير لخطر داهم بات يهدد أمن الدولة المصرية وسلامها، ولم يعد هناك أي مفر، وفق الخبير بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، عمرو الشوبكي، إلا من التحرك بجدية لكشفه وإجهاضه قبل أن يحصد مزيدًا من الضحايا. البعض سيقول الآن، أن الجرائم الجديدة بطنطا والإسكندرية، إنما هي رد فعل يائس من جانب الدواعش لمقتل قياديهم السيناوي المهم، سالم سلمي الحمادين الملقب ب»أبو أنس الأنصاري»، في غارة للجيش منتصف مارس الماضي.. ربما.. لكن عمليات الثأر تكون دومًا عشوائية، فيما أن اختراق كنائس وحرمها يوم عيد، وفي ظل تشديدات أمنية كبيرة، لا يمكن أن يكون عفويًا أو وليد تخطيط منفعل ينشد الانتقام. هناك بالفعل بين مقتل الأنصاري وتفجيري كنيستي طنطا والإسكندرية، قرابة العشرين يومًا فاصلة، لكنها لا تبدو فترة زمنية كافية للتخطيط وتوفير الموارد والدعم اللوجيستي للتنفيذ علي هذا النحو الموجع، وبخاصة أن رأس الأقباط نفسه، البابا تواضروس الثاني كان قريبًا من التهديد هذه المرة. سيميل آخرون، ومنهم الباحث في مركز الأهرام للدراسات أيضًا، أحمد كامل البحيري، إلي أن منفذي حادثي طنطا والإسكندرية علي الأرجح ليسوا من دواعش سيناء، وإنما من منشقين عنهم، أو فصيل يتبع خلافتهم المزعومة، لكن لا يدار حسب هوي قيادة أرض الفيروز، يسمي نفسه دواعش مصر، علي أساس أن تفجير البطرسية تبناه هذا الكيان. لكنه كلام مردود عليه من وجهة نظر البعض الآخر، علي أساس أن الدواعش يميلون حاليًا إلي الانتشار خارج قواعدهم ومراكزهم في الأقطار لتخفيف الضغط عليهم.. نجدهم يضربون في بغداد ودمشق وعدد غير قليل من عواصم العالم الغربي، كلندن وستوكهولم، كرد فعل لسحقهم في الموصل وبمحيط الرقة، ومن ثم فمن البديهي الخروج بعيدًا عن سيناء في ظل الحصار الكبير للجيش عليهم هناك، وتوجيهه ضربات مؤثرة لهم ولأوكارهم ضمن عمليات حق الشهيد. المعضلة بالنسبة لمصر، أن الإرهاب الداعشي سواء في سيناء أو خارجها، إنما يركز ومنذ فترة علي تطييف المعركة، بجعل الأقباط في مرمي كل استهداف دموي. الإخوان باعتبارهم الكيان السياسي الأكثر عداوة مع دولة ما بعد 30 يونيو، وبغض النظر حتي ولو يكن أي من أفرادها متورط مباشرة في الأمر، هم من سيسعون بهلع أكثر من غيرهم للاستفادة من تلك العمليات سياسيًا بتسجيل نقاط تحريض علي السلطة وإبراز ما سيعتبرونه تقصيرًا من جانبها وفشل لها في مواجهة الإرهاب. فكما كان باديًا وبشدة في حادثة البطرسية الأخيرة، فإن الهدف الأساسي لجريمتي كنيستي طنطا والإسكندرية من جانب منفذيهما، هو تهديد الأقباط ومضاعفة مخاوفهم.. ونقل الدماء إلي أبوابهم.. ومن ثم تفجير غضب من جانب قادة ورموز المؤسسة الدينية المسيحية تجاه الدولة التي ستظهر وكأنها لا تحميهم، سواء في حالة الحوادث الطائفية العادية، أو في حالة العمليات الإرهابية الدموية التي تستهدفهم من حين لآخر. علاوة علي أهداف ضرب الاقتصاد، بمواصلة تخويف السائحين، وغالبيتهم من الغرب المسيحي، من القدوم إلي مصر، وكذا فتح المجال للشماتة الخارجية، وإظهار مصر كدول فاشلة، ومنح الفرصة للتدخل الأجنبي بدعوي حماية الأقليات.. إنها اللعبة الجديدة للجماعات الإرهابية النشطة في مصر في الوقت الراهن، وخاصة بعد أن تلاشت الفوارق الفكرية والسياسية والاستراتيجية بينها، لتصبح جماعات هجين تتعاون فيها رموز داعش مع لجان الإخوان النوعية مع »حازمون» والسلفية الجهادية وما تبقي من كوادر القاعدة وغيرها، بينما شعار الجميع: كلنا معًا لضرب نظام الحكم بسلاح الطائفية. السؤال، من هم أمراء داعش بصفتهم الأنشط حاليًا علي الساحة المحلية والإقليمية والدولية، الذين يخططون لضرب الدولة طائفيًا؟. إذا كل تلك النجاحات المسجلة في سيناء من جانب الدولة في دحض الإرهاب، فمن أين يأتي الانتحاريون وحاملو الأحزمة الناسفة والقنابل؟.. أين يختبئون؟.. الإجابة الشافية ربما علي التساؤلات سالفة الذكر، يكشفها النعي الذي أعلنه تنظيم داعش، وتحديدًا فرعه الأكثر نشاطًا بمصر »ولاية سيناء»، في أعقاب مقتل أحد مؤسسيه، »أبو أنس الأنصاري»، علي يد قوات الجيش منتصف الشهر الماضي، حيث رسم ربما ولأول مرة، صورة مقربة عن طبيعة ما تبقي من المقاتلين المتطرفين المنضوين تحت لواء الكيان الإرهابي المسلح. لعل أبرزها، أن التنظيم الذي تأسس تحت اسم »أنصار بيت المقدس»، قبل أن يبايع قبل أكثر من عامين، يملك تصنيفات بعينها لمختلف كوادره، وأنه يمتن للصفوة منها، ومن ثم ضمن إعلان خسارته للأنصاري، بنشره صورته، فضلًا عن نسج سيرة ذاتية للرجل، تمنحه قداسة كبيرة، ربما قصد منها رفع الروح المعنوية في صفوف القواعد، بعد سلسلة من الهزائم الفادحة التي تلقوها علي مدار الشهور الماضية علي يد القوات المسلحة.. من العلامات الجديرة بالتوقف كذلك، أن أمراء التنظيم من ذوي الخبرات العسكرية، وبخاصة أولئك المنتمين لجنسيات أجنبية، كالغزاويين، وهم علي الأرجح، كوادر سابقة بكتائب عز الدين القسام الحمساوية، انشقت وارتبطت بفكر السلفية الجهادية، قبل أن تعبر إلي مصر للانضمام إلي ولاية سيناء، أو كمحطة ترانزيت استعدادًا للانتقال إلي ليبيا. مع ملاحظة أن فئات المتعاونين، قد تضاعف دورها في التنظيم، فيما أن الشريحة الأكبر فيها من الصبية والمراهقين ممن ينخرطون في جمع المعلومات لحساب عناصر ولاية سيناء أو حتي اختصاصهم بمد الدواعش بالدعم اللوجيستي من أغذية ووسائل حياتية في مخابئهم. وفي هذا النقطة، فإن ما يجري في سيناء، سيجري خارجها علي الأرجح. ولم يزل العشرات من فلول داعش نشطة في سيناء، وهؤلاء كامنون علي الأرجح، في مناطق كانت قبل عامين خاضعة لتأثير ونفوذ التنظيم، حسب رصد الباحث أحمد كامل البحيري لمناطق العمليات الإرهابية الأكثر تكرارًا أو لتلك التي استهدفت فيها قوات الجيش عناصر متشددة، وتحديدًا في الشيخ زويد ورفح والعريش، مثل قري ومناطق الحمراوي، والحمدين، والجورة، والخوربة، والنصرانية، والمقاطعة، والمهدية، والبرص، ونجع شيبانة، وأبو طبل، والعقدة، والطويلة، والزهور، والعبور. إضافة إلي الفارين من جبل الحلال بعد فضه من عملية تمشيطه وتنظيفه الناجحة من قبل الجيش إلي تخوم المدن، أو إلي الصحاري، كما جري مع العناصر المطاردة حاليًا في محيط صحراء ودروب العياط. هناك عناصر داعشية أخري، كانت بدرنة الليبية علي الحدود المصرية الغربية، ولا تزال تكمن في الدروب الصحراوية، علي إثر فرارها من ضربات طيران قوي غربية عدة فضلًا عن الجيش الوطني وطردها من هناك، وهي تمثل خطرًا لا شك قابعا علي بوابة مترامية الأطراف لبلاد النيل.. من هؤلاء هشام عشماوي، أبو مهند، وهو ضابط صاعقة مصري مفصول، وكان القائد الميداني المؤثر في أنصار بيت المقدس، قبل أن يعلن انشقاقه عنه بعد البيعة لداعش في نوفمبر 2014، ومن ثم كون تنظيم »المرابطون»، والذي انضم إليه عدد من أهم العناصر الإرهابية، التي كانت خرجت بدورها من عباءة الكيان السيناوي رغبة في الحفاظ علي بيعة القاعدة وأيمن الظواهري وعدم الانصياع لخلافة أبو بكر البغدادي المزعومة.. من بين تلك العناصر المصاحبة لعشماوي، يأتي عماد عبد الحميد وهو ضابط مفصول أيضًا ويعرف حركيًا باسم رمزي، ومحمد نصر، الزعيم السابق لكتائب الفرقان التي استهدفت المجرة الملاحي لقناة السويس وسفنه العابرة بالأر بي جي غير مرة، إضافة إلي أسماء من شاكلة محمد السنقر وأحمد سيد بركات وشريف عبد السميع ورائض عويض وأحمد سالم سليمان، وجميعها علي قوائم الرصد والمطاردة الأمنية المصرية، رغم نقلهم النشاط الدموي إلي ليبيا. علي الضفة الأخري خارج سيناء، تحولت عناصر إخوانية شابة عدة، وبخاصة تلك العابرة من بوابة جناح قيادي التنظيم المقتول محمد كمال، ممن التحقوا بخلايا العنف النشطة، كحسم ولواء الثورة واللجان النوعية وغيرها، إلي حاضنة للمتسربين من التنظيمات الداعشية والقاعدية والسلفية الجهادية وحازمون، ناهيك بالمقاتلين المحليين العائدين من مناطق وبؤر الصراع بسوريا وليبيا والعراق وغيرها. إذ تلاشت الفوارق الفكرية والسياسية والاستراتيجية بين التنظيمات الإرهابية، كما أن الضربات الموجعة من قبل الجيش لولاية سيناء، الفرع الداعشي المصري الأشرس، دفع بكوادر عدة منها إلي عبور قناة السويس صوب العاصمة والدلتا وعدد من محافظات الصعيد، لتدخل في معية جماعات هجين تتعاون فيها كوادر البغدادي مع لجان الإخوان النوعية مع حازمون والسلفية الجهادية وما تبقي كوادر القاعدة وغيرها، بينما شعار الجميع: كلنا معًا لضرب نظام الحكم بسلاح الترويع والعنف والإرهاب والطائفية والمساومات السياسية والتكلفة الاقتصادية الباهظة. ويبقي أن رأس التنظيم الداعشي السيناوي أبو هاجر الهاشمي لا يزال طليقًا وإن كان مختفيًا.. ناهيك بكونه غير معروف أو محدد الهوية حتي الآن. المفاجأة الأكبر، أن أبو هاجر المجهول هذا، علي الأرجح غير مصري.. كنيته تشير إلي ذلك: »الهاشمي». التسريبات الصحفية التابعة لتنظيم داعش، كإصدار النبأ الإلكتروني، تجزم بالفرضية السابقة، مدعية أن أبو هاجر عراقي الجنسية، حيث كان ضابطًا سابقًا في جيش صدام حسين، قبل أن توكل إليه مهمة قيادة الجناح الداعشي المصري، عقب مقتل أبو دعاء الأنصاري، الذي يرجح أنه هو ذاته محمد فريج زيادة.. الأقباط صاروا الهدف.. من ناحية لأنهم مستهدفون ومكفرون من جانب الجماعات المتطرفة، ومن ناحية أخري لاستخدامهم كورقة ضغط علي الدولة، فالحذر الحذر قبل فوات الأوان.