بعد أقل من 3 أشهر من حادثة تفجير الكنيسة البطرسية بالعباسية، التي سقط فيها العشرات ما بين قتلي وجرحي، يوم احتفال المصريين بذكري المولد النبوي الشريف،عاد مشهد استهداف الأقباط مجددًا، ولكن هذه المرة في سيناء، وعبر دواعشها ممن تمكنوا خلال أيام قليلة من نحر 7 أشخاص، ما تسبب في عمليات نزوح للعشرات من الأسر غير المسلمة في اتجاه مدينة الإسماعيلية خوفًا علي حياتهم. إذن، ببساطة، وربما لأول مرة علي هذا النحو الفج، التقت ربما رغبة التنظيمات الدينية الإسلامية المسلحة والمسيسة، إخوانية الهوية أو داعشية الفكر والمنهج، من أجل زعزعة استقرار نظام الحكم في مصر، عبر ورقة الأقباط والفتنة الطائفية. علاوة علي أهداف ضرب الاقتصاد، وفتح المجال لتدخل الشماتة الخارجية، كان باديًا وبشدة في حادثة البطرسية الأخيرة، أن الهدف الأساسي له من جانب منفذيه، هو تهديد الأقباط ومضاعفة مخاوفهم.. ونقل الدماء إلي باب رمزهم الأكبر: الكاتدرائية.. وتفجير غضب ولو ظل مكتومًا من جانب قادة الأخيرة تجاه الدولة التي ستظهر وكأنها لا تحميهم، سواء في حالة الحوادث الطائفية العادية، أو في حالة العمليات الإرهابية الدموية التي تستهدفهم من حين لآخر. وهو الهدف ذاته التي أرادت الجماعات المسلحة في سيناء بزعامة داعش، أن تحرزه هذه المرة أيضًا، مع مزيد من الإثارة عبر إجبار المدنيين علي النزوح بعيدًا عن مساكنهم، فيما يشكل ضغطًا علي السلطة والدولة. إنها اللعبة الجديدة للجماعات الإرهابية النشطة في مصر في الوقت الراهن، وخاصة بعد أن تلاشت الفوارق الفكرية والسياسية والاستراتيجية بينها، لتصبح جماعات هجينة تتعاون فيها رموز داعش مع لجان الإخوان النوعية مع حازمون والسلفية الجهادية وما تبقي من كوادر القاعدة وغيرها، بينما شعار الجميع: كلنا معًا لضرب نظام الحكم بسلاح الطائفية. ويكره عموم الإسلاميين المتشددين الأقباط لأسباب عقائدية ترتبط بتكفيرهم وبأساطير أنهم يتآمرون مع الغرب المسيحي علي الدولة الإسلامية ومشروعها. عشرات الكتابات الفقهية من مختلف التوجهات والجماعات الإسلامية الراديكالية أو تلك التي تتشح بالتقية برداء السياسية، طالما طعنت في الأقباط المصريين، بل وأهانتهم، بتحريم إلقاء التحية عليهم، أو حظر تهنئتهم بالأعياد وهكذا. كره الإخوان وحلفائهم من الراديكاليين للكنيسة وللمسيحيين، ينطلق إلي جانب كونه محاولة يائسة لابتزاز الدولة، من موقف عقائدي متطرف. وبأريحية شديدة يمكن القطع بأن جميع قادة التنظيم ودعاته وشيوخه الراحلين والحاليين، قد تم الإمساك بهم متلبسين بتهمة التحريض علي الأقباط. وعليه لم يكن مستغربًا أن يدفع الأقباط الثمن غاليًا لمشاركتهم في 30 يونيو بسقوط العديد من ضحاياهم برصاص الغدر، سواء بعد عزل مرسي أو قبل وبعد فض تجمعي رابعة العدوية ونهضة مصر بالقوة، فضلًا عن حرق واقتحام وسلب ونهب العشرات من الكنائس ودور الرعاية الاجتماعية المسيحية في مختلف المحافظات المصرية (ما يقرب من 42 كنيسة وفق هيومان رايتس ووتش، أو 61 كنيسة وفق بعض التقارير الأخري)، إلي جانب حرب الإبادة النفسية، قبل الجسدية، التي يتعرض لها أقباط الصعيد كما حدث مثلًا في قرية دلجا بالمنيا وغيرها. ولأن الإخوان دومًا في طليعة التنظيمات الدينية التي تؤصل للعنف والطائفية، حتي لو لم يمارسونها بشكل مباشر، فكان داعش في الموعد أيضًا بطاقة حقد كبيرة تجاه الأقباط. علي سبيل المثال، كانت هناك مجموعة من الإشارات حملها الاغتيال المفاجئ للقس رافائيل موسي، كاهن كنيسة مار جرجس بالعريش، علي يد مسلحين من تنظيم ولاية سيناء الإرهابي/ داعش، كانوا قد استهدفوه بوابل من الرصاص بعد دقائق قليلة من انتهائه من قيادة قداس بالمدينة الساحلية الصيف الماضي. أولها، أن العملية هي الأولي التي يتبناها دواعش سيناء، لكنها الثانية لرجل دين مسيحي في العريش، حيث كان تنظيم أنصار بيت المقدس، وقبل أن يبايع الدولة الإسلامية وخليفتها المزعوم أبوبكر البغدادي، قد تبني اغتيالا قاسيا آخر مطلع يوليو 2013، وتحديدًا بعد ساعات من عزل الرئيس الإخواني، محمد مرسي، حيث أنزله مسلحون من سيارته، قبل أن يصوبوا فوهات بنادقهم الآلية ببشاعة تجاهه، فأردوه قتيلاً في الحال. ثم تتابعت بعض حوادث استهداف المنشآت والكنائس القبطية، وكان أشهرها علي الإطلاق جريمة الاعتداء علي مدعوين في حفل زفاف لعروسين بكنيسة بالوراق، أسقط قتلي وجرحي عدة في أكتوبر من العام 2013. الإشارة الثانية المهمة، في اغتيال قس العريش العام الماضي علي يد داعش، أنه جري بعد يوم واحد فقط من الذكري الثانية لتأسيس الدولة الإسلامية في (29 يونيو)، وكذا في يوم احتفال المصريين بإزاحة حكم الإخوان (30 يونيو)، ما يمثل فقهًا تكتيكيًا خاصًا بالتنظيمات الدينية المسلحة، والمهووسة بارتكاب التفجيرات والهجومات المسلحة في ذكري المناسبات التاريخية. ثالث الإشارات، إنما تتعلق بالهزائم الفادحة وخسائر الأرض الكبيرة المتوالية، والتي يتكبدها جنود الدواعش في معاقلهم الرئيسية بالعراق وسوريا، ومن ثم لجأ التنظيم إلي إطلاق نفير خلاياه النائمة وذئابه المنفردة حول العالم لتخفيف الضغط عليه في مدن وولايات الخلافة، من جهة، ولإحداث عمليات ذات طابع »الشو الإعلامي» للإيهام بأنه لا يزال مؤثرًا من جهة ثانية، فكان لسيناء وأحد رموزها الدينية المسيحية نصيبه من الدماء.. لكن الأخطر في الحكاية برمتها، دخول داعش علي الخط، بدعوة مسمومة أطلقت رسميًا في أكتوبر من العام 2015، لضرب الأقليات، ومن بينها الأقباط، في جميع أفرع خلافة أبو بكر البغدادي. كان النصف الثاني من العام الماضي، قد شهد تصاعد التحريضات في هذا الشأن من قبل شخص داعشي الهوي مجهول الهوية، يعرف بأبي إياد المصري، بدا أن جل همه ممارسة هجوم ممنهج علي أقباط مصر عبر حسابه الشخصي علي موقع التواصل الاجتماعي، فيس بوك، بل ووضعهم علي قوائم الاستهداف. عند تلك النقطة تحديدًا، غدت مصر في مرمي أخطار مغايرة مع داعش، حيث انتقلت الخطط الطائفية ضد الأقليات علي وجه التحديد، من الأصل إلي الفرع، أي من تنظيم الدولة بسوريا والعراق إلي بيت المقدس في سيناء. وفي الخطة الاستراتيجية الأم لداعش وأذرعها في مختلف البلدان والأقطار، والمعروفة ب»استراتيجية خاصة بالصراع العالمي ومكان التيار الجهادي منه»، يشير المنظر السياسي الأهم للتنظيم ولأشباهه من الكيانات المسلحة كالقاعدة وأخواتها، عبد الله بن محمد، صراحة، إلي ما لا يقبل أي تأويل بشأن التنكيل بالأقباط وهدر حقوقهم الوطنية والإنسانية، بل والدعوة إلي تهجيرهم من أراضيهم.. صحيح أنه كان يتحدث عن ضرورة إجبار أقباط وأقليات الشام علي الهجرة وترك بلاد المسلمين، إلا أن خريطة الدولة الداعشية المزعومة (الدولة الإسلامية) تضع سيناء ضمن حدود الشام. في هذا الشان قالت الاستراتيجية الدموية لداعش نصًا: »علينا ومن مبدأ تأمين قلب الدولة أن نعمل علي تهجير ثاني منطقة محظورة علي غير المسلمين بعد جزيرة العرب، وإن كانت مسألة إخراج المشركين من جزيرة العرب ضرورة فرضتها النصوص الشرعية فإن إخراج المشركين من الشام ضرورة فرضها الواقع السياسي والعسكري والثقافي» وتضيف في موضع آخر: »فلذلك أري أنه من الواجب علينا بعد أو قبل إعلان دولة الخلافة، بحسب الظرف، أن نعمل علي طرد اليهود وتهجير النصاري والدروز والنصيرية والبهائية بالإضافة إلي الشيعة وعبدة الشيطان وغيرهم من المشركين، من كافة الأراضي التابعة لمنطقة الشام... وفي اعتقادي أن أفضل مناخ لتنفيذ هذا المخطط يأتي في حالة من الحرب وليس في حالة من السلم، أي أنه من السهل علينا اتخاذ مثل هذا الإجراء قبيل انتهاء العمليات العسكرية الخاصة بتمهيد إعلان الخلافة لأن اللغط والصخب الذي يمكن أن ينتج عن مثل هذا الإجراء أو يمنع من تنفيذه يمكن أن يتلاشي مع غبار الحرب، لأن عمليات التهجير ستأتي كجزء من مشهد الحرب وليست منفصلة عنه». وحتي لو كانت سيناء بالنسبة للدواعش خارج الشام، فإن القاعدة المنطقية تقول إن ما يسري علي الشام سيسري علي مصر والعراق وليبيا، وغيرها من البلدان التي تعيش فيها أفرع للدلة الإسلامية المزعومة. وهو ما يفسر إذن سر عملية ذبح المواطنين المسيحيين المصريين في ليبيا في العام 2014، وكذلك يمكن من خلاله فهم كم التحريض المفجع من جانب المسمي بأبي إياد المصري علي رجال الدين المسيحي والكنائس والأديرة، والترويج لوجود أسلحة داخلها، مع تقديم إحصائيات تخص المساحة وأعداد المصليين الفعليين والمتوقع استعابهم مقارنة بأكبر الأديرة في البر المصري، وعلي رأسها دير أبو فانا بالمنيا، وذلك باستخدام هشتاجات دموية من شاكلة »أشعلوا نيران الحرب.. اقتلوا النصاري المحاربين.. استهدفوا القساوسة المحاربين..». المصري كان حدد كذلك الفئة التي يمكن أن تتولي مهمة ملاحقة المسيحيين بالاغتيالات والتفجيرات، وهي خلايا »الذئاب المنفردة»، والمعروفة بكونها جماعات تتميز بصغر عدد أفرادها وتعمل بخطط مستقلة ودون قيادة مركزية، ولكن تحت مظلة استراتيجية وأيديولوجية وعقائدية عريضة للفكر الظلامي. علي ما يبدو أن دعوة المصري الخسيسة، قد بدأت تحصد بعض الاستجابات من قبل الذئاب المنفردة، بدأت بمقتل القس رافائيل، في جريمة مؤسفة بررها الدواعش بزعم أن الضحية »كافر ومحارب للإسلام»، ومن ثم وجب اجتثاث روحه، وصولًا إلي تفجير البطرسية، وأخيرًا استهداف المسيحيين السيناويين وممتلكاتهم ودفعهم إلي الفرار، وهو النفير الذي أطلقه مؤخرًا (فبراير 2017) داعشي ثان ملثم ظهر في تسجيل مصور حديث تحت اسم أبو عبد الله المصري، حمل خطابًا مشابهًا لما سبق أن قاله أبو إياد المصري. الدواعش لا ينقلون إذن استراتيجية استهداف الأمن إلي قلب التراب المصري، ولكنهم الآن ينفخون كذلك في نيران إرهابهم الأعمي بطائفية مقيتة.