هو أيقونة الثورة.. رمز للصمود والتحدي والإرادة.. مرفأ الثوار الذين افترشوا أرضه.. والتفوا حول كعكته الحجرية منشدين الأغاني في عشق الوطن والحرية. ومثلما كان ميدان التحرير قبلة المتظاهرين المعتصمين والمحتضن لحماسهم والمجدد بعبقه وتضاريسه ودفئه لمشاعر الغضب والرفض والإصرار والعزيمة.. كان أيضا بؤرة للخطر في عيون الرافضين للثورة الكارهين للثوار.. المنتفعين من نظام فاسد والآكلين علي موائد سادته اللئام. صار الميدان رمزا وحصنا وصوتا معبرا بصدق عن آمال الثائرين وأحلام المحبطين وصرخات المظلومين الذين كسروا حاجز خوفهم فارتفعت أصواتهم بالرفض والاحتجاج. ولأنه كان شاهدا علي ثمانية عشر يوما من الصمود والتحدي ولأنه دخل التاريخ مقترنا اسمه بأسماء الشهداء والأبطال الذين سطروا بدمائهم في شوارعه أنصع صفحات النضال. لكل ذلك صار الميدان هدفا لأعداء الثورة من فلول النظام السابق وأعوانه وخدمه وحاشيته وجواريه وغلمانه. كان هم هؤلاء من اليوم الأول للثورة وحتي الآن تجريد الميدان من روحه.. وسحق إرادته وإطفاء جذوة الحماس فيه.. أرادوا كتم هدير الأصوات الرافضة ووأد المشاعر المنتفضة الغاضبة.. لم تكن وحدها موقعة الجمل التي عكست تلك المشاعر الحاقدة للثورة المتربصة المتوعدة للثوار والتي تبذل أقصي جهد لإزاحتهم عن الميدان.. فالمحاولات لم تتوقف لشق صفوف المتظاهرين ولتفتيت القوي السياسية واستقطاب بعضها لتشذ عن الجموع فتضعف هي في البداية ويضعف من بعدها الجميع . كان هم القوي المضادة منذ اليوم الأول لرحيل الرئيس السابق هو إدخال الثائرين في متاهات ليقعوا أسري للفتنة ينشغلوا في جدل عقيم ليضلوا الطريق ويحيدوا عن الهدف الأهم. وللأسف يبدو أن كثرة المحاولات كان لها مفعول السحر فآتت أكلها ووقعت القوي السياسية في فتنة الاختلاف متجاهلة وغافلة أن أبسط قواعد الديمقراطية التي قاتل الجميع من أجلها هو تعلم فن إدارة الخلافات. للأسف لم ينتبه الجميع فنجح المتربصون من سحب الميدان تدريجيا من تحت أقدام الثوار.. أو بمعني أدق نجحوا في إزاحتهم شيئا فشيئا ليتركوه أطلالا بعدما افتقد الروح التي ميزته علي مدار الثمانية عشر يوما هي عمر الثورة البيضاء. وقعت القوي السياسية في فخ الخلاف سريعا بداية من الاستفتاء ومروراً بالتعديل الدستوري وانتهاء بالجدل حول المليونيات واستمرار الاعتصام. خلاف جعل من السهل استقطاب بعض عناصر من هذه القوي واللعب علي أطماعها والنيل من عناصر أخري وتهديدها ومهاجمتها وكيل الاتهامات ضدها واستدراجها إلي خارج الميدان لتكون هدفا سهلا كما حدث في موقعة العباسية. وللأسف عندما تنبه الثوار لهذه الفخاخ المتتالية ودعوا لمليونية » لم الشمل« علي أمل أن تصلح ما أفسده الخلاف والتناحر المبكر.. إلا أن النتيجة لم تصب إلا عكس ما اشتهته سفن القوي السياسية بعدما خرق التيار السلفي الاتفاق ورفعوا شعارات أثارت حفيظة القوي الليبرالية لتظهر جموعه أقرب لحشود القوي المضادة للثورة. جاء تحرك السلفيين في جمعة لم الشمل الذي لم يكتمل ليعيد حديث البعض عن علاقة بعض عناصر التيار السلفي بالأمن وليثير حفيظتهم حول استمرار هذه العلاقة أو تطورها إلي طرف آخر وأعني به المجلس العسكري وهو ماعكسته الشعارات المؤيدة بشكل مبالغ فيه وممجوج .. ماحدث فتح باب التكهنات حول مدي استخدام بعض القوي المضادة للثورة للتيار السلفي كأداة لشق الصف الثوري بعدما فشلت كل المحاولات الأخري في تحقيق الهدف. ومرة أخري تتوالي الاتهامات وتندفع الشكوك وتنفجر الظنون لتنال من وحدة الصف.. فعلي جانب آخر بدا واضحا أن هناك من اخترق الميدان ليثير مزيدا من الفتنة بدعوات مخيفة حول غلق مجمع التحرير أو غلق قناة السويس أو إيقاف حركة مترو الأنفاق. أمام كل ماحدث بدت الأصابع المتربصة بالثورة لاتخفي علي عين عاقل.. وتحركها لايغيب عن ذهن ثائر.. ومع ذلك أغشيت العيون بفعل البحث عن المصلحة والمآرب الخاصة لتناسي بعض القوي الثورية الهم الأكبر.. وبدلا من لم الشمل تبعثر الجمع.. لم يعد الكل في واحد .. لم يتنبه الجميع للخطر المحدق بالثورة.. لم يعترفوا به ولم يتكاتفوا لمواجهته وبدلا من أن تتجنب القوي الليبرالية والعلمانية أخطاء التيار السلفي الذي أقدم علي استعراض قوته بشكل ممجوج في جمعة 82 يوليو الماضي.. اندفعت هذه القوي لتقع في نفس الخطأ بعدما تحالفت مع الصوفية للرد علي السلفية.. ليجعل المشهد في النهاية يبدو وكأن هناك تكتلات وتكتلات مضاءة.. استعراض لقوي يواجه بقوي منافسة.. تفرق الجمع فسهل الاصطياد.. لم يكن غريبا أن يتم اقتحام الميدان وفض الاعتصام بالقوة والتهديد بمنع الاعتصام أو المساومة في أفضل الأحوال لنقل المليونية إلي مكان آخر كأرض المعارض بمدينة نصر في البداية ولا نتعجب أن ينتهي الأمر بنقله إلي الصحراء فيما بعد. الميدان في خطر والثورة في خطر.. والثوار في مأزق أو لنقل هم عند مفترق طرق وعرة إذا لم يدركوا أخطاءهم سريعا سينتهي الأمر إلي ما لا تحمد عقباه.. يجب أن ينتبه الجميع أن المشهد جد خطير وأن محاولات إجهاض الثورة تجري علي قدم وساق وللأسف تغفل القوي السياسية كل ذلك ولاتلتفت إلي مايدبر لها بل وتسير وفق المخطط المرسوم لإجهاضها. علي الكل الحذر وإدراك أن الثورة هي أجمل ما صنعنا وأن التاريخ لم يرحم أحداً لو أضاعها. علي الجميع أن يتأكد أن المليونية الحقيقية لحب مصر لن تنجح إلا إذا ضم الميدان جميع القوي ليعيد المشهد كما كان عليه طوال الثمانية عشر يوما عندما كان الميدان مرفأ للجميع مسلما ومسيحيا سلفيا وشيوعيا إخوانيا وعلمانيا.. أما غير ذلك فيخسر الجميع ونضيع أجمل ما صنعنا ويضيع الكل معه.