في ظل موجة الغلاء التي تعصف بالبلاد ينتاب المصريون حلماً يعد من أبسط حقوقهم التي يجب علي الدولة أن تكفلها لهم ألا وهو حق الطعام النظيف، فقد أصبح مشكلة تؤرق الأذهان خاصة بعد أن بات الفلاح يستخدم المبيدات الزراعية بصورة متفشية لدحر الآفات الزراعية والحشرات الضارة، ما جعل المحاصيل بلا طعم أو قيمة غذائية، والكارثة أن أغلب تلك المبيدات محظورة دوليا وممنوع تداولها بالأسواق.. أما المفاجأة التي كشفتها وزارة الزراعة، فهي أن 25% من منافذ بيع المبيدات الزراعية غير مرخصة وتبيع منتجات مسرطنة. »الفينيك« و»بودرة السيراميك« و»الجير الحي« أكثر المواد المستخدمة في الغش الظاهرة تنتشر في محافظات الدلتا وخاصة الشرقيةوالدقهلية هناك مصانع وشركات تعمل تحت "بير السلم" تنتجها وتوزعها عن طريق محال ومنافذ بيع غير مرخصة بمثابة "دكاكين للموت"، لا تتبع وزارة الزراعة، ولا تعلم عنها شيئا، ناهيك عن أنها ليست محالاً بالمعني المعروف، فما هي إلا دكاكين صغيرة بداخل بيوت القري والنجوع، تستغل جهل المزارعين لتوزع عليهم بضاعتها المغشوشة بخلاف أسعارها الرخيصة التي هي في متناول أيديهم، ولك أن تعلم أن رئيس لجنة المبيدات بالوزارة الدكتور محمد عبدالمجيد صرح بأن هناك أكثر من 25% من تلك المحلات ليست مرخصة وتروج لمنتجات منتهية الصلاحية، كما أن مصر تستهلك أكثر من 8 آلاف طن مبيدات سنويا من أمريكا وبعض الدول الأوروبية وقد نافس المارد الصيني علي هذا السوق بضراوة وحجز لنفسه مقعدا ليتصدر قائمة مصدري تلك السموم. ولكن لا نستطيع أن نحمل الفلاح وحده تلك المسئولية ففي عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك تم استيراد آلاف الأطنان من المبيدات المسرطنة وتحديدا من إسرائيل علي يد يوسف والي وزير الزراعة وقتذاك، واستعان بأكثر من 2000 خبير إسرائيلي لمتابعة مشروعهم الغادر الذي استهدف إبادة جماعية للمصريين وتدمير المحاصيل الزراعية. وقد فتح الباب علي مصراعيه لمافيا وأباطرة تلك المبيدات في ظل غياب البنك الزراعي والجمعيات الزراعية التي لا توفر السماد والمبيدات للفلاحين البائسين فيلجأون إلي تلك المنافذ لينقذوا محاصيلهم بمبيدات مسرطنة تؤثر علي جودة أراضيهم، إضافة لتأثيرها علي البيئة وعلي حيواناتهم. ويلجأ التجار لعدة طرق لغش المبيدات أبرزها وضع مادتي الفينيك وبودرة السيراميك علي المبيدات بحسب حالته، سواء أكان صلبا أو سائلا فهي مواد قادرة علي إذابة المواد الفعالة والتفاعل معها ليعطي لونا ناصع البياض تغطيه طبقة كبيرة من الرغاوي ليباع بأسعار مرتفعة باعتباره مستوردا تم تهريبه عن طريق ميناء بورسعيد أو من خلال الأنفاق في سيناء أو حدود مصر مع ليبيا كما يقوم أصحاب مصانع البلاستيك بتقليد العبوات والملصق فيستغلون عدم وجود رقابة علي تلك الأسواق من قبل وزارة الزراعة ليغرقوها ببضاعتهم ويجنون أرباحا خيالية تصل إلي أكثر من 2 مليار جنيه بحسب إحصائية حديثة لمركز بحوث المبيدات. وتنتشر تلك الظاهرة في محافظات الدلتا خاصة بالدقهلية التي تضم أوكار غش المبيدات خاصة بمركز فاقوس وقري الحسينية القريبة من مدينة الصالحية الجديدة المحتضنة عشرات الفدادين من الأراضي الزراعية المملوكة لشباب الخريجين الذين يواجهون مصاعب كبري أهمها غياب دور المرشد الزراعي وعدم تواجد عدد كاف من المهندسين الزراعيين ليقوموا بدورهم التوعوي فيلجأون لشراء تلك المبيدات بغض النظر عن مصدرها أو خطورتها، وفي الدقهلية هناك قريتا سلكا ونوسا الغيط اللتان تقومان بدورالموزع الرئيسي للمبيدات علي القري المجاورة ومحافظتي الغربية والقليوبية الشهيرة بزراعة البصل والثوم اللذين يعتمدان في الأساس علي المبيدات الزراعية. "آخرساعة" حاولت رصد تلك الظاهرة المتنامية التي تهدد صحة المصريين وتزيد من نسب الإصابات بالسرطانات المختلفة, كما بينت دور الجهات الرقابية للحد من انتشار تلك الدكاكين ومسئولية وزارة الزراعة الممثلة في لجنة المبيدات. يقف محمود طايع هذا الشاب الثلاثيني ذو البشرة السمراء ينظر مليا إلي أرضه في كفر أبو زهرة بالقليوبية, التي لا يتواني عن بذل الرخيص والنفيس لحماية حبها وجمالها مهما كلفه الأمر فالأرض هي العرض كما كان يردد والده وجده, وبحلول شهر سبتمبر يقف علي قدم وساق لزراعة البصل والثوم. إلا أنه لاحظ حشائش غريبة و"نبات ديل القط" بدأت تغزو أرضه فأسرع علي الفور إلي "فرج الحايس" صاحب أحد محلات بيع المبيدات الذي اكتسب شهرة كبري سريعا فهو يبيع مبيدات مستوردة مشهودا لها بالكفاءة والجودة وقادرة علي إبادة تلك الحشائش التي تتفشي في المحصول، ولم يكن "فرج" هذا إلا فلاحا لم يكمل تعليمه وإنما قادر علي اصطياد زبونه بحرفنة وترويج لبضاعته التالفة التي يأتي بها من منطقة "تحت الربع" الكائنة بالدرب الأحمر عن طريق أحد كبار التجار الذي يمتلك مصنعا كبيرا بباب الخلق يقوم بإعادة إنتاج تلك المبيدات المهربة عن طريق مواني الاسكندرية وبورسعيد ليخلطها بخلطة سحرية من الفنيك وبودرة قتل الحشرات المنزلية لتأتي بنتائج مذهلة حسب اعتقاده ليتم توزيعها بعد ذلك تحت مسميات جذابة "كهرمون الطماطم " ليعمل علي زيادة حجم حبات الطماطم وزيادة الإنتاج إضافة إلي "التيمك" و"إبروديون"، المقاومين للبياضة الزغبية والندوة البدرية. أما بسيوني حسان (مزارع) من قرية كفر العمار بالقليوبية التي تشتهر بزراعة المشمش فيقول: منذ سنوات حدث تناقص في المحصول وعانينا من سوء حالته مما جعلنا نلجأ إلي الرش سواء باستخدام بودرة "التيفون" للقضاء علي العنكبوت والحشائش الخضرية والحشرات المختلفة أو باستخدام مبيد "بيركينكس" لتحسين جودة المحصول وزيادة إنتاجيته ومن المعروف أن هذا النوع من المبيد له أضرار كبيرة أهمها تهييج الجلد والحساسية المفرطة إضافة إلي إصابة الحيوانات بالإسهال وتقليل خصوبة التربة وليس هذا النوع فقط بل ثمة أنواع أخري نتهافت عليها ولا نجد أحدا من الإرشاد الزراعي يبين لنا مدي خطورتها. انتقلنا للحديث مع أحد تجار المبيدات ذ طلب الاكتفاء بالإشارة لاسمه بالأحرف الأولي (س.ع) وقال: تنتشر منافذ ومحلات بيع المبيدات في أغلب القري والنجوع علي الطرق لتبيع أنواعا خاصة من المبيدات يتم تهريبها من الخارج خاصة من الصين وهولندا إلي منطقة تحت الربع بالدرب الأحمر الذي يعد أكبر أسواق تلك المبيدات ونحصل عليها من هؤلاء التجار بأسعار غالية لنبيعها بمحلاتنا فيتهافت عليها الفلاحون نظرا لجودتها العالية فهي تزيد من إنتاجية المحاصيل إضافة إلي أن الجمعيات الزراعية لاتوردها للفلاح أو يتم توزيعها بالواسطة. وعن مصانع بير السلم التي تنتج مبيدات مغشوشة فقال: لا شك أن هناك الكثير من مصانع بير السلم التي تغش المبيدات الأصلية عن طريق إضافة الفينيك وبودرة السيراميك أو الجير الحي علي المبيد مما يجعله يتفاعل مع المحلول الكيمائي للمبيد فيؤثر علي المادة الفعالة ويتحول إلي مواد سامة تؤثر علي المحصول وعلي التربة. ويضيف: تتربع محافظتا الشرقيةوالدقهلية علي عرش المحافظات المصدرة لتلك المبيدات خاصة لمدن القناة وسيناء وبالتحديد قري مركز فاقوس ومركز أجا حيث إنهما يصدران مبيد "ملوبيت" الذي يسبب سرطان الاثني عشر، كما أن مبيد أورست الإسرائيلي الذي ينتشر في سيناء ومدن القناة والشرقية والنوبارية فهو يحدث أوراما سرطانية في الكلي والكبد ويكثر استخدام هذا المبيد في الكنتالوب والبطيخ والخيار. من جهته يقول مجاهد العزبي أحد مهندسي وزارة الزراعة: لا شك أن غياب دور الإرشاد الزراعي جعل الفلاحين فريسة سهلة لجشع التجار الذين لا هم لهم سوي جني الأرباح الخيالية وراء غش المبيدات فيلجأون لتزوير صلاحية المبيدات المنتهية وبيعها بالأسواق أو في المحلات غير المرخصة المنتشرة بالقري والكفور الفقيرة فيلجأ الفلاح إليها دون معرفة أخطارها أو صلاحيتها كذلك فإن الجمعيات الزراعية والبنك الزراعي يتقاعسان عن إمدادهم بما يحتاجونه. أما الدكتور خليل المالكي، أستاذ المبيدات بمركز البحوث الزراعية رئيس لجنة مبيدات الآفات الأسبق بوزارة الزراعة فيقول: تستخدم المبيدات الزراعية للقضاء علي الحشرات الضارة والحشائش التي تلتهم النبات وتفقده قيمته الغذائية وأغلبها يتم تسجيله طبقا لنظام الحماية الأمريكية بعد استخدامها في بلد المنشأ ليثبت مدي أمانها وبعد تصديرها إلينا تقوم الوزارة قبل اعتماد المبيد بتجربته علي مدار موسمين زراعيين متتالين كما يقوم المعمل المركزي لتحليل متبقيات المبيدات بجمع بعض الفواكه لتحليلها لوقفها نهائيا أو اعتمادها. ويضيف المالكي: هناك بعض الفلاحين يستخدمونها أسوأ استخدام فبعضهم لا يعلم الطريقة المثلي للرش أو ميعاد استخدامها. ويتفق معه الدكتور الدكتور راضي شاكر استشاري البيئة وأستاذ الكيمياء بجامعة الأزهر، ويري ضرورة إصدار قانون يحمي المجتمع من تلوث البيئة والأضرار الصحية الناتجة عن استخدام مبيدات الآفات. يضيف: يجب علي الوزارة أن تقوم بحملات تفتيشية علي مصانع بير السلم والمحلات غير المرخصة التي تنشر هذا الوباء بل أنها تهرب المبيدات المسرطنة إلي مصر وأهمها" دي دي تي" و"ليندان" و"الدرين" و"دابل درين" و"هيناكلور" أما الدكتور محمد عبد المجيد رئيس لجنة المبيدات بالوزارة فيقول: تقوم الوزارة بحملات تفتيشية علي تلك المحلات لضبط المخالف منها وإغلاقه.