جمعة الغضب لا تزال ثورة 25 يناير تحتفظ بالكثير من المشاهد المتجاهلة أو المعتم عليها، وخاصة تلك المرتبطة بدور الإخوان فيها، والكيفية التي سطت بها الجماعة علي الحلم المصري في التغيير، وقبل هذا وذاك ما يتعلق بثورية الإخوان المزعومة، التي تجسدت انتهازيتها علي نحو غير مسبوق يوم جمعة الغضب (28 يناير 2011) التي تحل ذكراه الخامسة غدًا الخميس، فيما كان قطف الثمار بالنسبة للتنظيم في الجمعة التالية والمعروفة إعلاميًا بجمعة الرحيل، حيث تمكن رجال المرشد يومها من الهيمنة تمامًا علي الكلمة العليا بالميدان لتبدأ رحلتهم الشهيرة لحصاد المكاسب السياسية الخاصة، وغالبيتها كانت وللأسف علي جثة الثوار. الانتهازية الثورية للإخوان، وللعجب تفضحها تعاليم رأسهم المؤسس وملهمهم الأكبر، حسن البنا، إذ قال صراحة قبل أكثر من سبعة عقود كاملة وتحت عنوان "الإخوان والقوة والثورة": "وأما الثورة؛ فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها". كلام صريح لا يحتمل أي تأويل أو التباس أو خجل، بأن التنظيم يعادي الثورة من الأساس، لا يعترف بجدواها، بل يعتبرها فعلًا بعيدًا كل البعد عن عقليته، ما يعني ببساطة أن أعضاء التنظيم غير ثوريين بالمرة، ولو زعموا ذلك؛ بينما يبقي تمسّحهم بالثورة، وحديثهم عن دماء شهدائها، فصلًا جديدًا من الانتهازية السياسية. يقول قيادي الإخوان المنشق سامح عيد تدليلًا علي زعم الجماعة الثورية في أحداث الثورة المصرية: "من دون 25 يناير لم تكن الجماعة، قد اقتنصت كرسي الحكم، ومن غير الحديث عما يدعيه التنظيم منذ عزل محمد مرسي، حول استعادة الثورة، لن تجد مبررًا تسوقه لقواعدها والمتعاطفين معها من المتدينين وغير المسيَّسين، من أجل خوض معارك دموية غير متكافئة وفاشلة مع الجيش والشرطة، لضرب وإسقاط الدولة المصرية." إن تفاصيل الالتحاق المتأخر من قبل الإخوان بثورة 25 يناير، ثم سرقتها لا تزال حاضرة في الأذهان، حيث استغلّت الجماعة تحكّمها في الميدان لفترات طويلة بنهاية يوم جمعة الغضب علي وجه التحديد، في مساومة نائب الرئيس الراحل، اللواء عمر سليمان، تللك المساومة التي تضاعفت بعد موقعة الجمل في 2 فبراير 2011? ووصلت ذروتها مع جمعة الرحيل في 4 فبراير من العام ذاته. يقطع سامح عيد أنه باطمئنان تام، لا يمكن الزعم بأي حال من الأحوال، أن شباب الإخوان أو غيرهم من أنصار التيار الإسلامي، كانوا هم من أشعلوا أو وجّهوا شرارة ثورة الخامس والعشرين من يناير في بدايتها.. والأدهي أن مكتب الإرشاد ساعتها، ووفق شهادات عدد من شباب وكوادر الجماعة المنشقين، أصدر تعليمات واضحة بعدم الخروج للتظاهر في 25 يناير، واكتفي فقط بأن أرسل محمد البلتاجي، ليتم تصويره أثناء مشاركته في أداء صلاة العصر مع باقي المتظاهرين، أمام دار القضاء العالي، حتي إذا ما نجحت الاحتجاجات وأثمرت عن أي نتائج إيجابية يُمكن للتنظيم ساعتها ادّعاء المشاركة فيها. ومع تصاعد الأحداث يومي 26 و27 يناير في الشارع، ضد الشرطة والداخلية من جانب الثوار، دفع التنظيم ببعض شبابه للتنسيق مع باقي الحركات، التي تقود المظاهرات قبل جمعة الغضب؛ كان منهم محمد القصاص قيادي حزب التيار المصري، ولكن مع التشديد علي أن الشباب الإخواني يشارك بصفته الشخصية ولا يعبر عن موقف رسمي للجماعة. لم يكن مستغربًا أبدًا إذن أن تمر الأيام الأولي للثورة، من دون ظهور مؤثر للإخوان، أو غيرهم بطبيعة الحال، لقد كانت الثورة بلا قيادة معينة أو متحدث رسم محدد، ولم يُشرف علي تنظيم تظاهراتها واعتصاماتها شخص بعينه، فالأمور تمت بعفوية شديدة، والكل ساهم بقدر استطاعته ودون ترتيب مُسبق. وما من شك في أن إعلان مبارك، عدم ترشّحه لولاية أخري والشروع في إجراء تعديلات علي المادتين 76 و77 من دستور 1971? وتوجيهه بتنقية عضوية مجلسي الشعب والشوري، بسرعة النظر في الطعون المقدّمة ضد عدد كبير من أعضائهما، قد دفع عددًا كبيرًا من الشباب لمغادرة ميدان التحرير والعودة لمنازلهم مساء الثلاثاء 1 فبراير 2011? إما اقتناعًا منهم بأن جزءًا لا بأس به قد تحقق من مطالبهم أو رغبة في التفكير وتدبّر الأمور بهدوء، فيما لم يتبق بميدان التحرير سوي عدة آلاف كان معظمهم من شباب الإخوان، بدا أن جماعتهم ومكتب إرشادها، وفق الباحث قي شئون الجماعة أحمد بان، يريدان المناورة بهم في مسألة الحوار، الذي كان قد دعا إليه نائب الرئيس، آنذاك اللواء عمر سليمان، مع القوي السياسية والحزبية، وقبله الإخوان بعد فواصل معتادة من المراوغة والتردد وانتهاز الفرص، وبعد أن التقي قياديا الإرشاد في تلك الفترة، محمد مرسي، ومحمد سعد الكتاتني، بسليمان سرًا، واتفقوا علي إخلاء التحرير من شبابهم، مقابل إخراج خيرت الشاطر وحسن مالك من السجن، وإعادة انتخابات البرلمان من جديد، دون أي حديث عن رحيل مبارك. وبالفعل تحقق لجماعة الإخوان ما أرادت، ومنحها البلطجية ومروّعو المتظاهرين، يوم موقعة الجمل في 2 فبراير2011? ورقة مناورة وضغط خطيرة للغاية لتحقيق مطالبهم، قبل الدخول في حوارها مع عمر سليمان، حيث تمكن شباب الإخوان ونظراؤهم من الإسلاميين، من صد الاعتداءات بشراسة وفرض سيطرتهم التامة علي ميدان التحرير، ما منحهم ببساطة شديدة فرصة العمر لاختطاف الثورة وتوجيهها حسب إرادتهم، أو إن تحرينا الدقة، وفق أهداف الجماعة وانتهازية صقورها. وبالتالي كان طبيعيًا حين يعود شباب الثورة الأصليون إلي ميدان التحرير، تعاطفًا مع زملائهم المعتدي عليهم، أو بعدما اهتزت ثقتهم مجددًا في إمكانية تحقيق مطالبهم، أن يجدوا المكان قد اكتسي بصبغة إسلامية خالصة، وأنهم أصبحوا غرباء في ثورتهم لتسلّم شباب الإخوان مقاليد الحكم في الميدان، وأن عبارات التحفيز والتشجيع من شاكلة "مش هانمشي.. هوه يمشي" والتي كانوا يرفعونها منذ اللحظات الأولي للثورة، قد تبدلت بعبارات تدغدغ المشاعر حولت الثورة السياسية لحرب دينية مثل "اصبروا وتجلدوا ضد الطغيان".. "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله".. "رحيل رأس النظام أو الاستشهاد".. "إن ينصركم الله فلا غالب لكم".. الأمر الذي جسّد معني آخر للثورة، بدت كشمس أغسطس الحارقة، يوم جمعة الرحيل 4 فبراير 2011. في جمعة الرحيل، التي كانت "آخر ساعة" عبر كاتب هذه السطور شاهدة علي تفاصيلها ساعة بساعة آنذاك، كان ميدان التحرير مختلفًا؛ بل ويمكن القول بقلب مستريح، إن شباب الإخوان حوّلوا المكان لحصن حربي بكل ما تحمله الكلمة من معني. الولوج لقلب ميدان التحرير يوم جمعة الرحيل كان أشبه بمغامرة محفوفة بمخاطر عدة، فلم يسمح للجميع بالدخول من منفذ واحد، الشباب من مدخل والسيدات والفتيات من مدخل آخر.. إجراءات التفتيش الصارمة التي طبقها الإخوة من شباب الإخوان وأصحاب اللحي الطويلة والجلاليب القصيرة علي مرتادي الاعتصام من الرجال هي ذاتها التي طبقتها الأخوات الإخوانيات في حق الجنس الناعم، الجيوب والحقائب فحصت بعناية، وتم تحسس جميع أجزاء الجسد خشية إخفاء سلاح أو ما شابه، والبطاقة الشخصية تقرأ بتمعن، وإذا كان صاحب البطاقة صحفيًا من العاملين بإحدي المؤسسات القومية "الأخبار، الأهرام، روزاليوسف" التي كان المتظاهرون يعادونها لأنها حكومية، فحظه في كل الأحوال كان عاثراً، فإن نجا من نظرات الريبة، فإنه سمع حتماً عبارة "اتقي الله يا فلان". ناهيك عن التهديد الجِدّي والمتكرر والعنيف من قبل مسئولي التفتيش للجميع بأن" من لم يكن معارضاً فمن الأفضل له عدم الدخول إلي الميدان "حفاظاً علي حياته".. يأتي هذا فيما كان متطوعون يوزعون علي القادمين صوراً ضوئية من فتوي للشيخ يوسف القرضاوي، بحتمية النزول للشارع في جمعة الرحيل وحرمة التخلي عن المتظاهرين بالبقاء في البيوت. تلك الإجراءات تكررت بحذافيرها أثناء الدخول عبر عدة نقاط تفتيش متتالية ومتباعدة حتي الوصول لقلب الميدان، الذي كان يوم جمعة الرحيل مشحوناً بالقلق والتوتر والترقب. وكان من المشاهد العادية في التحرير آنذاك أن تجد بين الحين والآخر شاباً ممسكاً بآخر فيما ينادي علي الجميع: "جاسوس، جاسوس..".. ودوماً ما كانت تتمحور جريمة ذلك الجاسوس حول جهره بإمكانية فض الاعتصام وإخلاء ميدان التحرير ولو مؤقتاً وضرورة منح قيادات الدولة وحكومتها الجديدة فرصة للوفاء بتعهداتها. والمثير أن هذا الجاسوس لم يكن يتم اصطحابه لقوات الجيش المتواجدة بالميدان بكثافة للفصل في أمره، وإنما كان يوجه لما يعرف بين الشباب الإخواني ب"النظام".. وهو الجهاز الإداري الذي يقود شباب الجماعة في الميدان. وبينما كانت الجماعة تناور بموقفها من الحوار مع نائب الرئيس وترهنه بضرورة تلبية رغبة المعتصمين في ميدان التحرير - والنسبة الأكبر منهم يوم جمعة الرحيل من الإسلاميين ومن شبابها- برحيل مبارك، كان المحامي الدكتور محمد سليم العوا، يمر علي مجموعات الشباب مذكراً إياهم بعدم "التزحزح من مكانهم والتشبث به حتي آخر نفس إلا بعد موافقة السلطة علي طلبهم"، مؤكداً أن الخسائر التي يتكبدها المصريون و"وقف حالهم" سيعوض بعد ذلك بمكاسب عدة أهمها في رأيه مكسب الحرية.. فيما كانت الأخوات اللاتي تميزن بالخمارات الفضفاضة والنقاب الأسود والكحلي يتجمعن، وكذا يتحركّن، في مجموعات في أطراف الميدان رافعين شعارات التنديد بالسلطة، أو منخرطين في إعداد الأطعمة أو تأمين المؤن أو تقديم المساعدة للمستشفي الميداني. أما الثوار العاديون "من غير الإسلاميين" من شباب 25 يناير الأساسيين، فكانوا يوم جمعة الرحيل متناثرين في مجموعات محدودة إلي جانب شوارع الفلكي وباب اللوق وطلعت حرب يغنون أناشيد وطنية وينظمون أشعارًا. في الوقت الذي اختفي فيه نوعاً ما الترديد الجماعي للشعارات، الذي كان يميز المعتصمين في الميدان، وذلك بعدما انشغل الإسلاميون بمعركة الاستشهاد المنتظرة، وكذا انشغلوا بكلمات المرشد الأعلي للثورة الإيرانية علي خامنئي، المحرضة للجيش المصري، للانقلاب علي النظام ونبوءته بتدشين شرق أوسط إسلامي، مستمد من التجربة الإيرانية، علي يد ثوار مصر وتونس من الاستشهاديين. ومثلما كان الدخول لميدان التحرير، يوم جمعة الرحيل صعبًا، فإن الخروج منه بدا مقلقًا بعدما سرت مخاوف علي لسان عدد من الإسلاميين وغيرهم بأن الجميع معرض للاعتقال بمجرد المغادرة، وهي كانت مناورة لضمان بقاء الجميع فيه. المثير أن الأيام التالية لجمعة الرحيل، شهدت تراجعًا ملحوظاً في التواجد الإسلامي بين المعتصمين ولاسيما بين الإخوان الاستشهاديين، حيث ترك عدد كبير منهم المكان عائدين لبيوتهم بصحبة أهلهم وذويهم الذين كانوا قد جاءوا إليهم بالمؤن من الدلتا والصعيد. والأغرب من ذلك أن الجماعة قبلت فجأة الحوار مع نائب الرئيس ليعود التواجد الأبرز بالميدان لمن تبقي من أصحاب الثورة الحقيقيين من غير المسيسين، الذين لا يجيدون المراوغة ولا يعرفون الانتهازية ولا يحملون أي أجندات خاصة كما هو حال التنظيم الذي كان قد أخذ ما أراد من مكاسب سياسية وصلت ذروتها فيما بعد باقتناص أغلبية البرلمان ثم كرسي الرئاسة..