مشهد من أحد مقاطع فيلم «حكايات عنيفة» لم يحدث في تاريخ السينما المصرية، أن وصل فيلم كوميدي إلي مرتبة أو مكانة مميزة، تتيح له العرض في مهرجانات محلية أو عالمية، رغم أن هناك عددا لا بأس به من الأفلام الكوميدية الراقية التي تصلح للمنافسة ليس بسبب موضوعاتها فقط، ولكن لأنها جيدة حرفيا وبصريا، مثل بين السماء والأرض والبداية "صلاح أبو سيف" أرض النفاق "فطين عبد الوهاب"، والأيدي الناعمة محمود ذو الفقار، سمع هس والإرهاب والكباب "شريف عرفة"، واضح جدا القفزات الزمنية في إنتاج تلك الأفلام، بمعني أننا خلال مايزيد علي خمسين عاما، من عمر صناعة السينما المصرية، لم نقدم إلا عددا لايزيد علي أصابع اليد الواحدة من الأفلام الكوميدية، التي تحمل أفكارا قيمة، وسينما جيدة أيضا! ودأبت لجان التحكيم في المهرجانات المحلية، علي اعتبار أن السينما الكوميدية، تجارية ولا تصلح للتقييم والتنافس، ولكن السينما العالمية تجاوزت هذا التصنيف من زمن، وضعت الفيلم الكوميدي جيد الصنع في المكانة التي يستحقها فعلا، واستطاع أن يحصد أهم الجوائز في بعض السنوات، حيث حصل الإيطالي روبيرتو بينيني علي الأوسكار 1997 عن فيلم "الحياة حلوة"، وقد تم تخصيص جائزة لأفضل فيلم كوميدي أو موسيقي في جوائز الجولدن جلوب، وهذا العام نافس فيلم "فندق بودابست الكبير" علي جائزة الأوسكار، كما نافس الفيلم الأرجنتيني الجميلwild tales علي أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية! قد يكون الجمهور المصري، معذورا في اعتبار أن الأفلام الكوميدية مجرد عمل تافه، يضيع ساعتين من وقتك، يقوم فيها مهرج، يعتبر نفسه ممثلا، بتقديم وصلات من السماجة، يعتبرها فناً، وهي في الحقيقة لاتمت للفن بصلة، ولكن الغريب العجيب أن هناك فئة من الجمهور، تدرك وتميز الغث من السمين، ولاتتورط، في متابعة السينما الرخيصة، ولاتكتفي بذلك بل تشجع السينما الجميلة مهما كانت جهة الإنتاج، وهو ما يمكن أن تلحظه من الإقبال الهائل علي فيلم wild tales أو قصص متوحشة، الذي يعرض الآن في سينما زاوية! الفيلم من إخراج وتأليف "ديمان سيزفرون"، ويشارك في بطولته جمع من نجوم السينما الأرجنتينية علي رأسهم، ريكاردو دارين، الذي قد يكون المشاهد المصري العاشق للسينما قد تعرف عليه، من خلال فيلمه الجميل "السر في أعينهم" والتسع ملكات، فيلم قصص متوحشة، يضم خمس حكايات متفرقة، لايجمع بينها إلا الحالة، التي يصل فيها شخص، ما، إلي قمة الغضب، فيأتي بأفعال عنيفة مدمرة أحيانا، ينتمي الفيلم للكوميديا السوداء، وهو يقدم نقدا اجتماعيا سياسيا، لما يدور في المجتمع الأرجنتيني وينسحب علي كثير من المجتمعات، ويبدو في بعض مواضيعه شديد الشبه، بما يحدث في بعض بلادنا العربية! حيث يتعرض المواطن لقهر من الدولة وممثليها فلا يستطيع أن يرد هذا القهر، إلا بالعنف! تبدأ الحكاية الأولي، التي يمكن أن نطلق عليها ماقبل الحدث ب"AVANT TETR" حيث نتابع مجموعة من ركاب طائرة، لايجمع بينهم أي مشترك، ولكن مع استغراقهم في الحديث يقفز دائما اسم شخص ما، كان كل منهم علي علاقة به، انتهت بموقف سيئ، ومع دهشتهم لأن جميعهم يعرفون نفس الشخص، تزداد الدهشة والرعب، عندما يدركون أن هذا الشخص هو قائد الطائرة، وقد جمعهم لينتقم منهم جميعا، لمواقفهم السيئة معه، فيهوي بالطائرة، علي منزل عائلته، حيث ساهم أبواه في سلسلة العذاب التي تعرض لها! أما القصة الثانية فهي لشخص يقود سيارته في طريق سريع، ويفاجأ بقائد سيارة أخري، يزعجه ويضيق عليه الطريق، فيسبه ويجري، ولكن سيارته تتعطل بعد عدة كيلومترات، ويلحق به الآخر، ويدخلان في سلسلة من التصرفات الهمجية، الناتجة عن شدة الغضب التي اعترت كليهما، بسبب لفظ أو تصرف عشوائي، ينتهي بانفجار السيارتين واحتراقهما معا، وقصة ثالثة عن رجل بالغ الثراء، والنفوذ يقوم ابنه المدلل بعمل حادثة بشعة تؤدي إلي مقتل طفل لأسرة فقيرة، وخوفا من أن يتعرض الابن المدلل للعقاب، يقوم الأب الثري بإقناع سائقه بالادعاء بأنه هو الذي كان يقود السيارة، ويعده بأن يعوضه عن سنوات السجن بمبلغ ضخم، يسيل لعاب الرجل الغلبان، ولكن السائق الذي باع نفسه مقابل إغراء المال يتعرض للقتل من والد الطفل بمجرد خروجه من منزل الثري! أما درة الحكايات الخمس، فهي التي قام ريكاردو دارين ببطولتها، وموضوعها عن مهندس يعمل في مجال التفجيرات، الخاصة بالمباني، والمنشآت، يعاني بعض الخلل في حياته الأسرية نتيجة انشغاله الدائم بالعمل، يحدث أن يذهب لشراء تورتة لعيد ميلاد ابنته، وعندما يخرج من محل الحلويات، يكتشف أن إدارة المرور قد سحبت سيارته، وأصبح عليه أن يدفع غرامة مالية ضخمة كي يستردها وعبثا يحاول أن يقنع أي شخص أنه كان يقف في المكان المخصص، إلا أنه لايجد مجيبا، ويتكرر الموقف معه أكثر من مرة، ويجد أن الشكوي لا تجدي ولا تؤدي إلي الاهتمام بما يقوله، وأن عليه أن يدفع الغرامة، صاغراً، وطبعا يمكن أن تتوقع بقية الأحداث، حيث يفجر الرجل مركز إدارة المرور، ولكنه يجد ترحيبا وتصفيقا من المواطنين المغبونين، الذين يصدمهم تعنت الحكومة معهم!.. الفيلم مش حكايات فقط، ولكنه لغة سينمائية شديدة الرقي، وتصوير بارع ومونتاج دقيق، وأداء مذهل من مجموعة النجوم المشاركين في العمل، دون أن ينشغل أيهم بحجم اسمه أو ترتيبه علي الأفيش!