كعادتها كل عام، استطاعت الافلام المعروضة بمهرجان كان السينمائى الدولى ان تمنح فرصة ضخمة لتأمل حال الانسان فى العالم. ليس فقط بأفلام المسابقة لكن بكل الاقسام الموازية. وجعلتنا نستطيع ان نرى ان الظرف العالمى الخالى يدخل الإنسان فى متاهات وانفاق مظلمة ربما أكثر من التى كان يعانيها فى ظل ازمنة اقل تطورا، وعوالم اقل فرصا من الممنوحة له اليوم. شاهدنا حفنة من الافلام لاهم صناع السينما فى العالم عن فشل الانظمة الاجتماعية الاوروبية فى ضمان الحد الادنى من الكرامة لمواطنيها. منها فيلم ( يومان وليلة) لمخرجى بلجيكا الاكبر الأخوان بيير ولوك داردان، الذى ارتكز على موقف درامى عبقرى يترجم الخلل فى المجتمعات المسماة نيولبيرالية. فالفيلم التى قامت ببطولته النجمة الفرنسية ماريون كوتيار يحكى عن ساندرا الموظفة فى احد مصانع الطاقة الشمسية التى تتعرض لانذار بالفصل من العمل بسبب مرضها بالاكتئاب اكثر من مرة. لكن مديرها يعقد الموقف بقيامه باقتراع سرى بين زملائها لاستبعادها فيوافقون. الحبكة الدرامية قائمة على طلبها من المدير اعادة اجراء الاقتراع مرة اخرى لانها تتهمه بالتأثير عليهم. وطوال الفيلم تقوم ساندرا بالمرور على زملائها لاقناعهم بالتصويت لها، خاصة بعد ان قال المدير لهم انه سيخصم مبلغ 1000 يورو قيمة مكافأتهم السنوية لتدبير مرتب زميلتهم. وعلى قدر ما تواجه ساندرا بردود فعل كثيرة عنيفة من بعضهم، تدفعها للانتحار بعد احدى المرات. لكنها تفاجأ برقة قلب كثيرين حتى ممن هم ظروفهم اسوأ منها ماديا. مثل شاب من افريقيا عقده مؤقت ومهدد من المدير، ورجل من اصول عربية، بل وسيدة بلجيكية زميلة لها تركت زوجها وطلبت منه الطلاق عندما كاد يضربها بسبب رغبتها فى الوقوف بجانب زميلتها. التباين فى المواقف الانسانية تجده فى اى بلد بالطبع، لكن الصدمة هنا ان نظاما اجتماعيا اوروبيا مثل البلجيكى -التى تستضيف مقر الاتحاد الاوروبي- لا يوجد به ضمانات كافية لحماية الموظفين من الطرد فى اى لحظة. وهو ما يضحد الاساطير عن احترام البشر الى اقصى حد فى البلدان الاوروبية. وليس الحال بافضل فى روسيا مثلا، ففيلم Leviathan الحائز على جائزة السيناريو بالمهرجان يتحدث عن نهاية العالم بالمعنى الانسانى والفلسفى من خلال رجل مهدد بالطرد من بيته فى شمال روسيا مع زوجته وابنه، من عمدة المدينة الذى حصل على الارض المقام عليها بيت، بحيلة وبسعر بخس . وعنوان الفيلم المستمد من الكتاب المقدس معناه «وحش يمزج بين الحوت والتمساح والثعبان فى ذات الوقت»، وهو رمز للمجتمع الذى يلتهم الانسان بفضل كثرة الصراعات التى يخوضها والاطماع التى تحيك به. عمدة المدينة الثمل البارد الذى يريد طرد الرجل يذكرك ببطل فيلم كل رجال الملك (1949) وكذلك بشكل بوريس يلتسين !! يلجأ البطل لصديقه المحامى الذى قدم لانقاذه من موسكو ليتضح بعد ذلك ان هذا لم يكن هدفه. بل اقامة علاقة مع زوجة صديقه وهذا ما نجح فيه. يظهر الفيلم عالم من الرجال المليئين بالعنف النفسى والجسدى ينفثون نارا طوال الوقت ورغبة فى الايذاء. بينما يسخر الفيلم فى مشهدين بالمحكمة من تلاوة آلية لنصوص قوانين جائرة لا تطبق الا على الضعفاء. كثيرة هى ملامح التأثر فى هذا الفيلم بالافلام العالمية الشبيهة مثل العهد القديم لاليا كازان، والتضحية للروسى العظيم تاركوفسكى وكذلك بأعمال تشيكوف. وبفيلمه السابق الينا وبهذا الفيلم اصبح المخرج اندريه زفياجنتسيف من اهم مخرجى روسيا واروربا. اما ما سمى بتحفة المهرجان هذا العام فكان فيلم ( البيات الشتوى ) للمخرج نورى بلجى سيلان. و نحن هنا بإزاء ترنيمة اخرى حادة من عذابات البشر. قصة الممثل المتقاعد أيدن الذى مازال يحلم بلعب دور ( آله) رغم أنه تقاعد ويقيم بفندق يديره ضمن عدة املاك فى منطقة الاناضول. وعندما يهجم الشتاء تبدأ معاناة الشخصيات فى الظهور. يبدو البطل كرجل نبيل مشغول الان بكتبه ومقالاته فى مجتمع جاهل وبدائى حتى يسقط القناع عنه ليبدو شخصا انانيا ومستعبدا للاخرين كما تتهمه زوجته الشابة التى بدأت تبحث عن طلاقها منه، رغم انشغالها فى العمل بالمشروعات الخيرية. اهل القرى المجاورة يكرهونه لاذلالهم عن طريق رجاله وحتى اخته تعبر عن كونه شخصا لا يحتمل. ومساحة الفيلم الطويلة ( 3 ساعات ونصف) سمحت بروح تأملية هائلة سواء لعالم القاهرين او المقهورين. البيات الشتوى الذى يذكرنا بأعمال المخرج السويدى الاشهر انجمار برجمان، يظهر الى اى درك سحيق من التوحش والبؤس وصلت النفس البشرية فى المجتمع الحديث. امام القرية حمدى لا يتوقف عن اذلال نفسه تزلفا للبطل الغنى، بينما يترك الاخير نفسه لشيطان الكبر والغرور وعبادة الذات. وبعد لقطات رائعة للاناضول فى وقت الشتاء مع مصوره المعتاد جوخان ترياكي، لا يجد البطل حلا لانقاذ حياته الا بالذهاب لمدينة اسطنبول مع زوجته. لكن بلا جدوى حيث لا امل فى انقاذ نفوس تيبست بفعل تحكم اسوأ الطباع فيها فى أسوأ الظروف. آفة الفيلم انه متخم بالحوار حيث لا مكان لاى متفرج لكى يتأمل أو يتفاعل، لكنه فى النهاية نوع من السينما السيكولوجية وجدت لها صدى عند متفرجى المهرجان ولجنة تحكيمه. يبقى ألطف افلام المسابقة الرسمية وليس اعظمها هو ( حكايات متوحشة) للارجنتينى داميان زيفرون وانتاج المخرج الاسبانى الكبير بدرو المودوبار. وعن حق استطاعت القصص التى يحكيها الفيلم ان تؤكد لنا ان الحياة فى احد وجوهها هى العبث بعينه. لست قصص عن ستة شخصيات تصاب بالغضب والجنون بسبب مواقف اجتماعية تخرجها عن العقل وتضطرها لفعل اشياء غريبة خارج السياق المقبول. اول قصة قبل التترات عن موديل تكتشف على متن طائرة ان حبيبها السابق جمع كل من قهروه وظلموه فى حياته على متن طائرة لينتقم منهم جميعا باسقاط الطائرة. حتى الناقد الذى كتب عنه بشكل سيئ وصديقه الذى خانه ومعلمته التى ضربته، الكل. وقصة اخرى عن مشاجرة لفظية بين سائقين على الطريق تتطور لسلسلة من ردود الفعل الانتقامية التى تؤدى بهما لكى يحترقا سويا. وثالثة عن مهندس يقرر تفجير موقف ادارة المرور التى دأبت على سحب سيارته بالونش لوقوفها بأماكن مخالفة لكن ليست عليها علامات ممنوع الانتظار. وقصة اخرى عن رجل ثرى يريد التغطية على جريمة قتل خطأ قام بها ابنه الشاب وهو يقود، فيقع فى سلسلة من المؤامرات من محاميه والمحقق. وشابة تكتشف اثناء حفل زفافها ان عريسها دعا احدى عشيقاته للفرح، فتقرر تحويل الحفل لفضيحة كبيرة وتخونه مع الطباخ على سطح الفندق ثم تحطم عظام العشيقة، قبل ان ترتمى فى احضانه صافحة عنه فى النهاية. الروح الكوميدية الوثابة بالفيلم لا تمنعنا من تحليل المجتمع الارجنتينى وما فعله بشخصياته الى حد وصولهم لهذا الجنون. ثمة ثقوب وخلل بالنظام الاجتماعى هناك يصل بالفرد الى هذا الخرف. طبعا تحتل الهوة كبيرة بين الاغنياء والفقراء رأس المثلث وانتشار الفساد احد اضلاعه، وانهيار القيم يحتل الضلع الاخير. كل تلك الافلام وغيرها اثبتت ان وضع الانسان فى العالم الان هو منتهى البؤس، وانه لا حل له بالانعاق من هذا الهوان الا بالبحث عن حلول اخرى اكثر روحانية.