فى اليابان.. الإمبراطور هو رمز الدولة، وهذا الرمز لا قيمة له على الإطلاق. أسعدوه باللقب ونزعوا عنه كل صلاحياته، ولا يملك أى سلطات سياسية على الإطلاق، ولا حتى فى حالات الحروب والأزمات الكبرى.. مجرد رمز لا قيمة له. أما السلطة التنفيذية فيمثلها رئيس الوزراء بمجلس وزرائه، وجميعهم من المدنيين ومن أعضاء البرلمان. والبرلمان بدوره مسؤول عن مراقبة أداء مجلس الوزراء بوزرائه ورئيسه أيضا. أما السيادة -طبقا للدستور اليابانى- فهى للشعب. الشعب هو السيد على كل هؤلاء الحكام.. ما أجمل الديمقراطية. ما أجمل التحضر الذى يبدأ باحترام الإنسان جسدا وروحا وينتهى بسيادة الشعب قولا وفعلا، وما أسوأ أن يقسو الإنسان بكلمات غير محسوبة على بشر مثله، منتهكا حرمتهم وهيبة خالقهم. هل يعتقد البعض أن هؤلاء البشر سيحتملون الإهانة دائما؟ ألا يعتقد أنهم قد يثورون يوما ما؟! هذا ببساطة هو السؤال الذى يطرحه الفيلم الإيطالى «Things from Another World» المعروض ضمن أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان طوكيو فى دورته الرابعة والعشرين مع أربعة عشر فيلما آخرى. الفيلم يطرح سؤالا إنسانيا جدا: هل يمكن أن يحتمل الإنسان -مهما كانت درجة حاجته وفقره- الإهانة؟ هل يبتلعها لمجرد أنه فقير ومُطَارد؟ وبناءً على هذا السؤال يحيلنا الفيلم إلى السؤال الذى تدور الأحداث حول إجابته: ماذا لو اختفى كل العمال المهاجرين فى أوروبا؟! ما النتائج؟ ما الخسائر؟ كيف ستحل الدولة المتحضرة مثل هذه الأزمة؟ يبدأ الفيلم بمشاهد لمصنع تعمل فيه مجموعة من الأفارقة بدأب مبالغ فيه، تتبعها مشاهد صاخبة لرجل أعمال إيطالى يملك مصانع يعمل فيها مجموعة من المهاجرين الأفارقة، وهو رجل قاس ومفزع، نموذج مثالى لرجل الأعمال الذى يملك المال ولا يملك غيره. يملك الرجل أيضا محطة تليفزيون يقدم فيها بعض بياناته التى لا تخرج عن ضرورة طرد المهاجرين إلى إيطاليا وسحقهم وتشريدهم لأنهم يقتنصون فرص الإيطاليين فى العمل. قمة التناقض أن يستعين بالمهاجرين لتسيير مصنعه ويطالب بطردهم. هكذا يمتص الرأسماليون حياة البشر، وهكذا يستهينون بجهدهم. يقابَل كلام رجل الأعمال غليظ القلب بترحيب من أهل المدينة، ثم فجأة يختفى كل الأفارقة «المهاجرين» من المدينة. بنى المخرج الإيطالى فرانزيسكو بارنيو فيلمه على هذه الفكرة الخيالية الطفولية جدا. اختفى المهاجرون من المدينة بسبب خطاب الكراهية وعنصرية رجل الأعمال ومباركة المجتمع الإيطالى فى المدينة لخطابه. وفى خط مواز نلمح دفقة أمل فى مدرِّسة بريئة ورقيقة، فى فصلها تلميذة سوداء واحدة، بعد قليل سنعرف أنها تحمل طفلا من أحد الأفارقة المهاجرين فى المصنع عجز صديقها الإيطالى عن أن يهديه إليها. تضحك العجوز وابنتها والدة وأم صديق المدرِّسة الإيطالى عندما يعلمان بحمل المدرِّسة، تضحكان بسخرية وذهول وتتساءلان فى آخر المشهد: هل ستنجب طفلا أسود؟ هذه مجتمعات تدّعى التحضر وتنصح به، وتشجب العنف والعنصرية، لكنها تمارسها بشكل منظم، حتى يبدو أنه فطرى. اختفى المهاجرون إذن من المدينة.. هل أصبحت إيطاليا أكثر هدوءا وراحة؟ يقدم المخرج تفاصيل كثيرة للأزمة التى عاشها الناس بعد اختفاء المهاجرين. الشوارع أصبحت قذرة ولا يوجد زبالون، المصانع توقفت ولا يوجد عمال، مصنع رجل الأعمال صاحب الدعوة إلى طرد المهاجرين توقف عن العمل، أصبح يكوى ملابسه بنفسه بعد اختفاء خادمته المهاجرة، تعطل السوبر ماركت عن العمل لأنه معتمد على المهاجرين فى تسييره. ما الحل؟ قرر أهل المدينة تشغيل المواطنين المحليين، وكانوا خائبين جدا، فلا هم قادرون على تسيير المصانع وكنس الشوارع ولا هم مخلصون لمثل هذه الأعمال الشاقة. فى النهاية يعلن الجميع استسلامهم، وينادون بعودة المهاجرين، ويحتقر أهل المدينة رجل الأعمال صاحب الدعوة العنصرية ويسبونه فى الشارع لأن دعوته أفسدت حياتهم. هم مثله تماما عنصريون وتافهون وباحثون عن راحتهم ومصلحتهم فقط. بعد أن تأزمت الأمور يقرر رجل الأعمال الاعتذار عما بدر منه فى قناته، ولكن بعد فوات الأوان. حتى السحر استعمله أهل المدينة لإعادة المهاجرين إليها، ليكتشف رجل الأعمال أن ابنته تحمل فى أحشائها طفلا أسود لأب من المهاجرين، وقبل نهاية الفيلم بقليل نسمع ضحكة رقيعة من زوجته وهى تسأله: هل تعرف ما الذى يحمله بطن ابنتك؟ قصد الفيلم بالتأكيد نبذ العنصرية وتقبل الآخر فى المجتمعات الأوروبية التى تواجه فعلا أزمة الهجرة غير الشرعية، وكان مشهد الطفل فى المدرسة وهو يحكى للمدرِّسة كيف أن صديقه الأسود محمد كان يصبغ وجهه بالطباشير ليصبح مثله بديعا حقا ومؤلما جدا، لكن الفيلم كان مثل الدبة التى قتلت قضيتها، فمعالجته للعنصرية كانت شديدة العنصرية. الفيلم ببساطة يقول إن الشعوب الأوروبية لا بد أن تتقبل المهاجرين بينها لأن الأوروبيين لا يجيدون الأعمال الصغيرة. ابتهج المخرج بأن جعل بطلة فيلمه تحمل من مهاجر أسود، معتبرا أن هذه قمة المساواة وأبرز معالم الفوضى التى حلت بالمدينة الإيطالية بعد اختفاء المهاجرين، لكنه كان فوقيا ومتعاليا فى توضيح دور المهاجرين فى كنس شوارع أوروبا وخدمة أسيادهم من الأوروبيين. رغب المخرج فى نبذ العنصرية، لكنه ظل موصوما بها طوال أحداث الفيلم. كانت نية الفيلم سليمة، لكن النيات السليمة قد تفسد القيم كلها. ومن فيلم إيطالى حاول نبذ العنصرية فنجح دون قصد فى تشويه معالم القضية كلها، إلى فيلم تركى نجح بجدارة فى إثبات نجاح البشر فى تشويه الطبيعة التى وهبها لنا الخالق. الفيلم التركى «Home» المعروض ضمن أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان طوكيو والذى ينافس على جائزة ساكورا، يسأل سؤالا واضحا ومباشرا دون فجاجة: كيف يعبد الناس الله ويصْدُقون فى عبادته، بينما يخرِّبون طبيعته وخلقه بهذا الشكل؟! سؤال مخرج الفيلم التركى المقصود به الطبيعة بمعناها المجرد.. الجبال والأنهار والوديان، لا نفوس الناس، وإن انسحب الفيلم إلى فساد نفوس الناس أيضا، فمن يفسدون الأرض، لا بد أنهم فاسدون. الفيلم يحكى عن مهندس تركى يصاب بالانهيار بسبب ضغط العمل، فينصحه طبيبه بإجازة يقضيها فى قريته ليبعد عن صخب المدينة، يذهب هناك ويجد أن قريته تعانى من نفس مصائب المدن. لم تعد بريئة كما كانت، فحتى المياه فيها تلوثت ولم يعد السمك طبيعيا، فالمزارِع السمكية تفى بالغرض. انتهك البشر حُرمة الطبيعة وتلاعبوا بها وأهملها بعضهم، فعاقبتهم بالقلق الأبدى، ولن يفيد ذهاب البطل إلى مكان منعزل حيث الطبيعة البِكْر، فهو شخصيا سيشارك يوما فى تدميرها بصمته وتواطئه. كان فريدا أيضا أن يكون بطلا الفيلم الإيرانى «Mourning» المشارك فى مسابقة «رياح آسيا» لا يتكلمان ولا يسمعان، فى فيلم من أفلام الطريق لزوجين يتجهان من قريتهما إلى طهران مع طفل فقد أبويه. رحلة مدهشة مليئة بالسخرية والكوميديا الموجعة لرحلة اثنين من الخرس والطرش مع طفل يتيم فى بلد مخيف. المخرج مرتضى فرشباف يقدم فى الفيلم تجربته الأولى من خلال ورشة المخرج الإيرانى الكبير عباس كيروستامى، كما أن بطلى الفيلم هما زوجان حقيقيان ويقفان أمام الكاميرا لأول مرة. ومن أفلام الطريق إلى أفلام الرحلات، يقدم الفيلم الإسرائيلى «Lonely Planet» المشارك فى مسابقة «رياح آسيا» رحلة مجموعة عمل لفيلم وثائقى داخل غابات سيبيريا يحاولون من خلالها استكشاف حقيقة أسطورة الطفل مشكا الذى نشأ فى أحضان الذئاب وأصبح ذئبا مثلها، أو متخلقا بصفاتها وسلوكها. الفيلم ممتع بصريا، بل ومدهش أيضا، مع رحلته المتوترة بين الحقيقة والخيال، وبين الوثائقى والروائى، لكن أهميته مشكوك فيها، ومردّها فى جملة جاءت على لسان أحدهم عندما قال للمخرج فى الفيلم: ماذا تفعل؟ فقال له: أصنع فيلما وثائقيا عن... ولم يتركه ليكمل جملته، وقال له: ومَن الذى يرغب فى مشاهدة أفلام وثائقية؟ رحلات ثلاث لمخرجين من إيران وإسرائيل وتركيا.. كل يعبِّر عن نفسه وعن العالم من حوله بطريقته. العام قبل الماضى كرم مهرجان طوكيو السينما المصرية تكريما رائعا بحضور ضيوف من النجوم والمخرجين والإعلاميين، لكن هذا العام لم تتقدم مصر بأى فيلم للمهرجان الذى يشتاق كل العاملين فيه إلى طرف خبر من مصر، كما قالت لى يوكو إحدى المنسقات للمهرجان، فمَن المتسبب فى تغييبنا عن أهم مهرجانات آسيا وأحد أهم المهرجانات الدولية؟ مَن الذى غيّب مصر عن مهرجان تهتم به إيران وتركيا وإسرائيل وتغيب مصر؟! غدا إن شاء الله نجيب عن السؤال.