الموانيء .. والمدن الساحلية حكايات مليئة بالدموع والذكريات.. سفر ووداع.. تلاق وفراق »أحبة وأشقاء«.. خروج للمجهول وعودة للمحبوب، حلم بالعالم البعيد الجديد.. وفرار من قسوة الواقع الأليم من أحلام تشبه الأمواج تتلاطم وتنكس علي الشاطئ في جمال بديع للصورة، وللأسف يأس الفكرة. »الرحيل« مابين شاطئين أحدهما يفتح ذراعيه جاذبا.. والآخر طارد.. ماله متحركة تبلع مواطنيها وتدفنهم فيها حيث لاغد أفضل للواقع الأسود، والشاطئ الجاذب في الجانب الآخر خائن: أضواؤه البعيدة تخفي قسوة عدم الترحاب بالغريب الذي سيظل دائما غريبا بسبب لونه .. وجنسه .. وعرقه. لكن مهما قيل ويقال يظل للأفق البعيد سحر لايقاوم.. وكأنه »النداهة« تقوم بالغواية »الغريب« يستمع لغنائها العذب من بعيد.. ليكتشف عند الاقتراب أنه مجرد »نواح« لكنه »سحر المجهول«. ولعل من أشهر حكايات الموانئ والمدن الساحلية في العالم مدينة »الهافر« التي تعد أقرب مدينة ساحلية فرنسية إلي إنجلترا. الحالمون بالحياة في المملكة والهاربون والفارون من أراضيهم البعيدة يقصدونها وهم يحلمون بحياة أفضل في هذه المدينة تنكسر الأحلام ويبتلع البحر (المانش) آمال .. وأجساد الراغبين في الابتعاد عن أوطانهم والرحيل منها.. حيث عانوا من فقرها رغم خيراتها.. وفساد حكامها.. فأصبحت لقمة العيش البعيدة المغموسة بالحرية أملا لهم حتي لو كان الوصول إليها بطرق غير شرعية محفوفة بالمخاطر وثمنها يصل لحد الموت. وفي الفيلم الذي حمل اسم المدينة »لوهافر« للمخرج الفنلندي »آكي كوريسماكي« الذي شارك في المسابقة الرسمية والذي حصل من قبل علي الجائزة الكبري للمهرجان عام 2002 عن فيلمه »رجل بلا ماض« وكان متوقعا أن يحصل فيلمه »لوهافر« علي جائزة أيضا لكنها اختيارات لجان التحكيم!.. وإن كانت لجنة تحكيم النقاد الدولية (الفيبرس) قد منحته جائزتها. وآكي كوريسماكي هو الشقيق الأصغر للمخرج الفنلندي ميكا كوريسماكي وقد اشترك معه عام 1981 في إخراج فيلم saima gestute. »لوفاهر« يروي قصة مارسيل ماركس الكاتب السابق البوهيمي كما كان يطلق عليه .. وهجر القلم والأوراق والكتابة ليستقر في هذه المدينة الساحلية يقوم بتلميع الأحذية وحياته تسير علي وتيرة واحدة مابين عمله وزوجته والحانة التي يرتادها كل يوم يتسامر فيها مع بعض الأصدقاء ويتبادل كأسا من النبيذ.. حياة هادئة بعيدة عن كل صخب الأحداث التي تدور في العالم.. حتي يأتي يوم تذهب زوجته للمستشفي مصابة بالمرض اللعين وتطلب منه ألا يزورها لمدة أسبوعين أثناء تناولها علاجا جديدا. وتشاء الظروف أن يلتقي طفلا صغيرا لم يتعد أعوامه العشرة نجح في الهروب من »هناجر« لتهريب أشخاص قادمين من أفريقيا للوصول إلي إنجلترا. وفي الوقت الذي يتم القبض علي الجميع ينجح الصغير في الهرب.. ويقرر مارسيل بعد العثور عليه أن يساعده في الوصول إلي إنجلترا.. حيث توجد والدته.. ولذلك يخبئه في منزله رغم صدور قانون شديد الصرامة الآن في فرنسا عن مساعدة من لايحمل أوراقا حتي ولو بإعطائه جرعة ماء ليشرب، الغرامة تصل إلي مئات الألوف من اليوروهات بالإضافة لعقوبة الحبس.. في رحلة إيصال الطفل وتهريبه يتعاون معه جيرانه في الحي العتيق الذي يسكن فيه منذ زمن.. رغم أن واحدا من هؤلاء الجيران يبلغ عنه المحقق الذي يبدو شديد الصرامة لايخلو من إنسانية كبيرة.. تساعد الرجل في أن يجعل الصغير يرحل.. وكأن الأعمال الطيبة لاتموت ويكافيء الله أصحابها. فعندما يذهب ماكس للمستشفي مصطحبا زوجته لايجدها ويعتقد أنها توفيت، لكن الطبيب يصارحه بأن ماحدث معها هو معجزة حقيقية فلا أحد يشفي من هذا الداء. وكأن الشفاء هو هدية السماء لهذا الرجل الذي ساعد طفلا صغيرا في البقاء علي الحياة والحصول علي مستقبل أفضل مضحيا بكل ما كان يمتلكه من أموال لتهريبه. لقد نجح آكي كوريسماكي في تقديم ملحمة إنسانية وهي الهجرة غير الشرعية التي تعاني منها السواحل الجنوبية لأوروبا وضحايا الزوارق والموت غرقا كل يوم بالعشرات.. فأحلامهم حتي لو كانت كاذبة أكبر بكثير من مخاوفهم والسبب المباشر قسوة الحياة وصعوبتها في بلادهم. وكثيرة هي الأفلام التي تناولت حياة هؤلاء المهاجرين وطرق هجرتهم، لكن لعل أقساها وأسوأها هؤلاء الأفارقة الذين يأتون عبر الصحراء في هناجر ثلاجات خاوية حتي أن البعض يحترق أو يختنق داخل هذه (الهناجر) في الرحلة من داخل أفريقيا إلي الساحل .. لتبدأ رحلة أخري قاسية لمن بقي علي قيد الحياة.. ونجا من محاولات القبض عليه.. ليكمل سفره إلي (الهافر) ليصل إلي الشاطئ البريطاني. ولقد أسند آكي بطولة فيلمه إلي كل من الفنانين الفرنسيين »أندريه ويلمز« في دور مارسيل .. والعملاق جان بيير داروسان في دور المفتش مونيه والجدير بالذكر أن داروسان هو بطل فيلم الثلج فوق جبال كليمنجارو للمخرج روبرت جيديجيان الذي عرض في مسابقة نظرة ما وهو أيضا تدور أحداثه في مارسيليا أشهر مدن موانئ فرنسا. أما الطفل الصغير الذي قام بدور »إدرسا« فهو طفل موهوب للغاية واسمه بلوندين ميجل مع مشاركة للفنانة القديرة كاتي اوتينيني في دور زوجة مارسيل. والطريف أن الكلبة »لايكا« هي حفيدة الكلبة لايكا الشهيرة لأفلام حملت اسمها.. وإن كانت تنتمي للجيل الخامس للكلبة الشهيرة. وعن الفيلم يقول آكي إن الفكرة كانت في رأسه منذ عدة سنوات.. لكنه كان محتارا قليلا أين يمكن تصويرها وفي سبيل ذلك قام برحلة طويلة لتفقد مدن عديدة اشتهرت بوصول المهاجرين إليها بداية من اليونان.. أسبانيا.. البرتغال لكنه عندما وصل إلي »الهافر« وشاهد أماكن إيواء هؤلاء المهاجرين المقبوض عليهم أو المختبئين لحين الرحيل أخذ القرار ببداية التصوير. وعندما سأله البعض في المؤتمر الصحفي هل اخترت لبطولة فيلمك طفلا لكي يحمل الفيلم رمز الأمل.. أجاب بصدق شديد ودون أي افتعال إن أفلامي لاتعرف الرمزية.. لقد أحببت الصبي واعتقدت أن من حقه أن يكون محور الفيلم لتبدو الحكاية أكثر إنسانية! الناس الفقراء توفيت جارتنا.. وتركت صغيرين.. الأول اسمه جيللوم.. والثانية مادلين.. الأول لم يتعلم بعد المشي.. والثانية لم تتعلم بعد حروف الكلام.. في ركن الغرفة المظلمة يقف الصياد الفقير حزينا.. يطلب من امرأته أن تذهب وتحضر الطفلين.. ليكونا شقيقين لأطفالهما الخمسة الصغار.. يصيح في زوجته غاضبا لماذا لاتتحرك وهي التي تسمع الكلام.. بهدوء تزيح الستار.. بطيبة قلب قائلة.. لقد أحضرتهما بالفعل.. في قصيدة الناس الفقراء لفيكتور هوجو صاحب الرواية الرائعة البؤساء .. فربما لاتهون إلا علي الفقير.. فطيبة القلب والحنية والإنسانية لاترتبط بغني وفقير.. فأفقر الناس ماديا قد يملك قلبا من ذهب وكرما في النفس تجعله أغني وأعز الناس.. وأكثر الناس ثراء قد يكون بخيلا له قلب من حجر.. مما يجعله فقيرا معوزا لحب الناس. هذه القصيدة بكلماتها الإنسانية وصورتها الحية علي التضامن كانت وحي الإلهام للمخرج الأرمني روبرت جديجيان والذي يعيش في فرنسا في تقديم فيلمه الثلوج فوق جبال كليمنجارو وهو وإن كان اسم إحدي روايات إرنست هيمنجواي إلا أن أحداثها تدور في مدينة مارسيليا هذا الميناء الفرنسي الذي يعيش به أكبر نسبة من العمال الأجانب المهاجرين إلي فرنسا.. وبالمناسبة هي المدينة التي نشأ بها جديجيان وعاش فيها معظم سنوات حياته وأحب والتقي بها بشريكة حياته الفنانة القديرة إريان أسكاريد بطلة جميع أفلامه، ولقد كان من حسن حظي أن التقيت بها منذ عدة سنوات في مهرجان مونبيلبيه وكان لها أكثر من حوار انفردنا به علي صفحات آخر ساعة. وقبل الحديث عن الفيلم لابد من التنويه عن جديجيان وأسلوبه في العمل فهو اعتاد أن يعمل مع عدد محدود من الممثلين المقربين له من أصدقائه .. بالإضافة إلي كونه يمتاز بالوفاء الشديد للأطقم الفنية التي تعمل معه. وقد اشترك في بطولة الفيلم مع إريان أسكاريد كل من جان بيير داروسان وجيرار ميلان و مارلين كانتو .. وقد شارك في كتابة السيناريو مع جديجيان جان لو ميلس ويعتبر جديجيان هذا الفيلم عودة لجذوره وتحية إلي المدينة التي عاش وتربي فيها. والفيلم يروي قصة حب وزواج لميشيل وماري كلير استمرت ثلاثين عاما .. يعيشان معا في سعادة غامرة وسط أولادهما وأحفادهما وأصدقائهما.. ولما كان ميشيل يعمل في الميناء وظروف العمل سيئة والنقابة العمالية غير قادرة علي حماية الجميع، كان طبيعيا أن يتم الاستغناء عن بعض العمال، وقد قرر ميشيل بصفته مسئولا أن يتم ذلك عن طريق القرعة.. وبالفعل يتم فصل بعض العمال ويضيف اسمه إليهم. لينضم إلي طابور العاطلين للمرة الأولي منذ سنوات طويلة.. وفي الاحتفال بعيد زواجه يحصل من أبنائه علي تذاكر سفر إلي تنزانيا بالإضافة لمبلغ من المال.. لكن في اليوم الثاني يتعرض لهجوم هو وزوجته وشقيقها وزوجها لاثنين من اللصوص يجردانهم من كل شيء حتي دبلة الزواج وبالصدفة يكتشف ميشيل أحد اللصين وهو شاب تم فصله من العمل ويعول شقيقين صغيرين ويرعاهما .. فقد سرق الشاب للحاجة الشديدة.. وعلي الرغم من تنازل ميشيل وزوجته عن البلاغ إلا أن الحق الجنائي للدولة يظل قائما لايمكن إسقاطه.. ولذا يقرر أن يصطحب الطفلين إلي منزله لرعايتهما .. وفي نفس الوقت يكتشف أن زوجته كانت تتوجه إليهما كل يوم لترعاهما.. فهما صغيران لاذنب لهما. وحقيقة.. بالقلوب الرحيمة تستمر الحياة.