يقع الميناء - كمدينة أو كمرفأ - علي هامش تاريخ الفيلم العالمي والعربي، ليس فقط لصعوبة تصويره كمكان، ولكن أيضاً لصعوبة بنائه داخل الأستوديو، مهما اتسع أو ارتفع. تكاد مفردات الميناء الجغرافية والمكانية تجبر المصورين السينمائيين علي تصويرها في أماكنها الطبيعية: أرصفة الموانئ، السفن الصغيرة أو الكبيرة، الرافعات والشاحنات، المسافرون والتجار والعاملون في الميناء، كلها مفردات ثرية بصرياً عصية علي التصوير إلا في إطارها الطبيعي بشكل أقرب إلي التسجيلية. في الخمسينيات، قدمت السينما المصرية الميناء باعتباره موقعاً ثرياً بالمتناقضات يصلح لإنتاج دراما اجتماعية هي خليط من أفلام المغامرات البحرية والأفلام الواقعية ذات الرسالة الإصلاحية. قدم المخرج نيازي مصطفي فيلم "رصيف نمرة خمسة" (1956) تحية منه لدور "خفر السواحل" في مقاومة عمليات التهريب. وفي العام نفسه، أخرج يوسف شاهين "صراع في الميناء" وفيه يتعرض لصراع عمال الميناء مع أصحاب الشركات الكبري المستغلين. واستعرض فطين عبد الوهاب في فيلم "اسماعيل ياسين في الأسطول" (1957) بطولات البحرية المصرية ضمن سلسلة من الأفلام الكوميدية التي سعت للترويج لمختلف فصائل الجيش والشرطة في مرحلة البدايات الحماسية للثورة الناصرية. في نفس تلك المرحلة، قدم عز الدين ذو الفقار فيلمه الفريد "بورسعيد" (1957) تحية لبطولة المدينة الباسلة في مواجهة العدوان الثلاثي، وهي نفس المدينة التي استغلها عاطف سالم خلفية لقصة حب في فيلمه "شاطئ الأسرار" (1958). في المقابل، صورت السينما مدناً ساحلية هامة مثل الإسكندرية والإسماعيلية ومرسي مطروح بوصفها شواطئ للمرح والمتعة، لا يختلف في ذلك شاطئ الإسكندرية عن شاطئ بحيرة قارون! نذكر من تلك الأفلام الخفيفة فيلم "شاطئ الغرام" لبركات (1950)، و"حب ودموع" لكمال الشيخ (1955)، و"البنات والصيف" لصلاح أبو سيف وآخرين (1960)، و"شاطئ الحب" لبركات (1961)، و"شاطئ المرح" لحسام الدين مصطفي (1967) و"أبي فوق الشجرة" (1969) وغيرها. وبنفس هذا المنطق "السياحي" سافرت السينما المصرية إلي شواطئ تونس واليونان وقبرص في السبعينيات والثمانينيات لتصوير أفلام المغامرات العاطفية والبوليسية، مزودة المتفرج بصور كارت بوستال لهذه المدن الاصطيافية مع إضافة مسحة فولكلورية للتمييز بينها وبين الشواطئ المحلية. في التسعينيات، قدم محمد كامل القليوبي في "البحر بيضحك ليه" (1995) شخصية موظف محترم يضرب بتقاليد طبقته عرض الحائط ويختفي داخل عباءة الإسكندرية الساحرة متحولاً إلي فنان بوهيمي "ندهته" الإسكندرية فتاه فيها. بنفس الروح المسحورة، يمزج المخرج سيد سعيد في فيلمه الأول "القبطان" (1997) بين شاعرية مدينة وميناء بورسعيد وبين تاريخها النضالي ضد الاستعمار، من خلال شخصية القبطان الأسطورية في اللحظة التي يستقبل فيها ميناء بورسعيد عرب فلسطين الهاربين من عنف الدولة الصهيونية في 1948 . الإسكندرية تحتل موقع الصدارة في أفلام الموانئ، نراها في أفضل أحوالها في أفلام يوسف شاهين، بداية من "الاختيار" (1971) حتي "إسكندرية كمان وكمان" (1990) مروراً بإسكندرية ليه" (1979) و"الوداع يا بونابرت" (1985). الإسكندرية حلم يراود يوسف شاهين وكأنها معادل مكاني ورمزي لحياته وفنه. إسكندرية شاهين هي الإسكندرية الكوزموبوليتانية، المخلصة لتاريخ طويل من التسامح والانفتاح علي الآخر، الموقع الطبيعي لنمو ظاهرة التنوع والاختلاف، الإسكندرية التي تواجه البحر بوجه مرح وتواجه الأرض بظهر صلب، تنحني أمام أمواج القمع السياسي والاحتلال، وتحتضن شطحات الفن والخيال بعبقرية فذة. الإسكندرية في هذه الأفلام وفي غيرها حد تتمركز عنده حركة الخروج والدخول الدءوبة ولولا تلك الحركة التي تستعصي علي الثبات لما كان أهلها من صناع الأحلام، يسعون للتحرر من قيد التاريخ والمجتمع والتقاليد، وللخروج دوماً من أسر الصراعات القومية والعرقية والدينية. حلم "يحيي" في "إسكندرية ليه" يتحقق بركوب البحر متجهاً إلي أمريكا حيث عالم السينما الذي ينتظره ويخف إليه معبئاً بصور مدينته وأهلها. حلم يحيي يشبه حلم القبطان في فيلم سيد سعيد بأن تختفي الحدود وينطلق الخيال متمرداً علي كل قيد بما في ذلك قيد الهوية. يعتبر الميناء أيضاً واجهة علي الآخر القادم حديثاً إلي المدينة أو العابر منها إلي مكان آخر... مرفأ بلا رأفة، تلتهمه الصراعات الداخلية، واجهته مرحة وقلبه جهم. الميناء عندما يستقبل الغريب لا يحتضنه، لأن الغريب يظل آخر بصورة أو بغيرها. يظل في موقع أدني من المقيم، حتي لو بدت المدينة الخادعة وكأنها تفتح له ذراعيها. والميناء حين يودع ابن البلد المسافر، لا يودعه نهائياً فالحبال السرية تمتد دوماً بين المسافر وبين الميناء، والبحار المغامر لابد له أن يرسو علي الشاطئ من جديد. الغريب القادم من بعيد والمقيم المسافر إلي أقاصي الأرض كلاهما يحتفظ بصورة خاصة للميناء، كثير منها خيالي وبعضها يفوق في غرابته الواقع. في الحالتين، يعتبر الميناء مرتكزاً للحديث عن الآخر، الغريب عنا القريب منا في الوقت نفسه، وهو ما يجعل الميناء حاملاً لرموز معقدة ومتصارعة تتمحور حول أفكار الهوية والتعدد والتسامح والتآلف والانفتاح علي العالم، لكنها تظل في مجملها، مثلها مثل الميناء مجرد واجهة تخفي قسوة وتمرد سكان الموانئ. لا يجب أن ننسي أن الميناء دولة داخل الدولة، يكتفي بذاته وبتاريخه ويكاد ينفصل بهما عن باقي المدن. فيه خليط من البشر والجنسيات، من البضائع والشركات والهيئات، وفيه أيضاً (خلف تلك الواجهة) خليط من الصدف والاحتمالات، كل شيء ممكن، كل الحركات متاحة ولا محل لليقين ولا للثبات. ولأن للميناء قوانينه وهيراركيته التي يصعب اختراقها، فهو يظل في الواقع - وفي السينما - محكوماً بالصيرورة والتحول والقدرة علي التكيف والمرونة السياسية بمعناها التكتيكي. وفي نفس الوقت يحتفظ باستقلاله ويتشبث بهويته وقسوته وتمرده وعصيانه. وهو ما نراه في معظم الأفلام التي تتعامل مع الميناء بوصفه منطقة عبور، ومع الزمن في الميناء بوصفه لحظة تحول دائم، فتكتسب حكاياتها سحراً خاصاً ينشأ من الاحتمال والنسبية ويجعل لأحلام الانفلات مذاقاً لا ينسي.