نذر حرب عالمية جديدة تنطلق ملامحها الآن بقوة.. ملامح تبدو مختلفة عن كل ما سبقها من حروب.. حرب صامتة بلادوي ولا صخب.. لا يستخدم فيها دبابة أو طائرة أو حتي صاروخا.. لا تعبأ لها الجيوش وتجهز بالعتاد.. فحرب العصر تدار بفأر صغير يطلق قذائفه اللامرئية.. فيروسات مدمرة تستهدف أنظمة ودفاعات وبني العدو فتصيبه بالشلل والإرباك وتلحق به خسائر لا حصر لها. ويبدو أن إيران ستكون الهدف الأكبر لمثل هذه الحروب.. والتي بدأت إرهاصاتها بعدما هاجم فيروس ستكس نت stuxnet وحداتها الصناعية ليصيب 30 ألف جهاز كمبيوتر بها. وبالرغم من أن الفيروس لم ينجح في الوصول لهدفه الرئيسي وهو مفاعل بوشهر النووي أو هكذا تزعم طهران إلا أن ما حدث يفتح الباب بقوة أمام حرب الإنترنت sybar war من المؤكد أنها تنطلق بشراسة ومرشحة للتصعيد. لم يكن غريبا أن تكون طهران هي الهدف الأكبر لمثل هذه الحروب.. أملا في عرقلة برنامجها النووي الذي لا تدخر الولاياتالمتحدة والدول الغربية جهدا إلا وبذلته إلا أنه لم تصل حتي الآن لهدفها. فبين عقوبات اقتصادية وعسكرية طالت نظام طهران المالي والمصرفي بعدما استهدفت قدراتها العسكرية من خلال حظر بيع أسلحة ثقيلة وأنظمة صواريخ حديثة.. فضلا عن حظر فرضته علي بعض المسئولين الإيرانيين وأعضاء بالحرس الثوري الإيراني زعمت علاقتهم بالبرنامج النووي الإيراني. إلي جانب حملة دعائية مناهضة للبرنامج استهدفت تأليب الشعب الإيراني من ناحية، بالتشكيك في عدم نجاحه واستنزافه للقدرات الإيرانية الاقتصادية وفي الوقت نفسه إطلاق المخاوف عن احتمالات حدوث تسرب نووي بهدف إشاعة القلق بين دول الجوار. ولم يفت إسرائيل بالطبع المشاركة فيما أسمته الحرب الخفية ضد إيران لعرقلة برنامجها النووي فقامت بتصفية وخطف علماء نوويين إيرانيين لتساهم من ناحيتها في تطبيق البرنامج السري الأمريكي الذي أطلق عليه »تصفية الأدمغة« والذي بدأ تنفيذه منذ عام 2005 بأمر من البيت الأبيض ويهدف إلي تشجيع العلماء والفنيين الإيرانيين علي الفرار إلي الغرب وتقديم الإغراءات المادية والمعنوية لهم. ولأن البرنامج لم يحقق الهدف المنشود، اتجهت إسرائيل لاغتيال عدد من هؤلاء العلماء، ففي عام 2007، اغتيل عالم نووي إيراني يدعي »أراد يشير حسين والذي يعد واحدا من أفضل العلماء في المجال التقني العسكري ويعمل في محطة أصفهان، أيضا لقي العالم الإيراني مسعود محمدي أستاذ الفيزياء النووية بجامعة طهران حتفه بعد انفجار دراجة مفخخة وضعت بالقرب من منزله. تعددت الوسائل والهدف واحد.. إلا أن الإخفاق في الوصول إليه من ناحية وعدم الرغبة حتي الآن في توجيه ضربة عسكرية ضد إيران يعرف الجميع مدي الخسائر الناجمة عنها.. ولأن النية لم تعقد بعد للقيام بها لذلك لم يكن غريبا أن يتعرض البرنامج النووي الإيراني لحرب خفية. يظل الفاعل فيها مجهولا.. من خلال إطلاق فيروس مصمم للهجوم علي أنظمة التحكم الصناعية تحديدا بهدف نقل البيانات السريعة للخارج. وبالرغم من أن الفاعل في مثل هذه الحروب يظل مجهولا فمن الصعب تحديد مصدر هجمات الإنترنت والتي تعد مسألة مستحيلة، إلا أن أصابع الاتهام أساءت بقوة للولايات المتحدة وإسرائيل. فمن ناحية تحدثت تقارير كثيرة عن أن الولاياتالمتحدة بصدد شن حرب إلكترونية ضد إيران باستخدام طرق متطورة لتخريب القوة النووية الإيرانية، وأشارت إلي حجم الاتفاقات الأمريكية الضخمة لتطوير القدرة الهجومية الإلكترونية ضد الدول المراد استهدافها والتي تصل إلي مليارات الدولارات بحسب ما أكد الرئيس الأمريكي أوباما والدولة العبرية إذن لها باع طويل في مجال الحرب الإلكترونية وتولي اهتماما خاصا بها منذ سنوات، ونجحت في تجنيد قوات متخصصة بالأنشطة المتعلقة بالحرب الإلكترونية ولم يفت إسرائيل بالطبع بذل كل الجهود لتأمين نفسها ضد هذه الحروب فأنشأت وحدة خاصة كجزء من جهاز الشين بيت الأمن الداخلي مهمتها حماية الأنظمة الحكومية والبنية التحتية كهرباء ماء وتقديم كل المساعدات لحماية المعلومات. ومع ذلك لم تسلم إسرائيل من محاولات الاختراق وهو ما دعاها أيضا لتشكيل وحدة متخصصة تشبه وحدة الكوماندوز تضم عددا كبيرا من ذوي المهارات الفنية والتكنولوجية المتميزة والذين يتمتعون أيضا بقوة وصلابة الحالة الذهنية، وبهذه الوحدة يمكنها مواجهة أي حرب إلكترونية تستهدفها والتعامل معها بفاعلية. وبالطبع لن تقتصر مهمة هذه الوحدة علي الأغراض الدفاعية لكن من أهم مهمامها أيضا شن هجوم ضد أي دولة تستهدفها إسرائيل. وتأتي تصريحات الجنرال عاموس بادلين رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية لتؤكد ضلوع إسرائيل بالحرب الإلكترونية حيث اعترف صراحة في أحد تصريحاته التي أطلقها العام الماضي في مؤتمر عقد بمعهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب بأن إسرائيل تقوم باستخدام شبكات الكمبيوتر المدنية لأغراض التجسس واختراق قواعد البيانات أو القيام بأعمال تخريبية من خلال ما يطلق عليه البرامج الخبيثة التي زرعت في نظم التحكم الحساسة ضد أعداء إسرائيل مثل إيران وسوريا. الحرب الإلكترونية بحسب بادلين أصبحت تشكل البعد الخامس للحرب بعد البر، البحر، الجو، الفضاء الخارجي وهو ما أكده أيضا جاري أفرون مستشار أمني إسرائيلي سابق من أن بلاده لديها نشاط واسع لاستخدام شبكة الإنترنت لتعطيل نشاطات العدو، لذلك لم يكن غريبا أن تخصص الدولة العبرية وحدة خاصة أطلق عليها اسم الوحدة 8200 وهي تابعة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وتشكل فرقة الحرب الإلكترونية هذه قوة كبيرة يمكنها القيام بعمليات التجسس فضلا عن خبرتها الواسعة في شن هجمات تخريبية مؤثرة وضرب البنية التحتية للهدف. حرب تبدو في نظرنا جديدة إلا أن الخبير الاستراتيجي اللواء طلعت مسلم يراها امتدادا لحرب المعلومات والتجسس وإن جاءت الآن بشكل عصري جديد يتلاءم والتطور التكنولوجي، وهدف هذه الحرب هو اختراق شبكة المعلومات للأنظمة الحساسة والمهمة للدولة وإدخال معلومات علي حواسبها بهدف إرباكها وإصابتها بالشلل، وفي رأيه أن عملية الاختراق من خلال التلاعب في المعلومات بإدخال بيانات جديدة تعد أشد خطرا من محاولة القيام بتغيير هذه المعلومات لأن من شأن ذلك دفع المسئولين لاتخاذ قرارات خاطئة ينجم عنها نتائج خطيرة تكون أشد كارثية مما يمكن أن تلحقه عملية الإرباك أو الإتلاف أو حتي الإيقاف الكامل ففي مثل هذه الحالات يمكن البحث عن البديل أما إدخال بيانات خاطئة فمن شأنه أن يقود لكارثة ويتوقع مسلم أن تتزايد هذه الحروب الإلكترونية ضد إيران بشكل خاص خلال الفترة القادمة كإحدي وسائل المواجهة والضغط لدفعها للتراجع عن برنامجها النووي، هذا الاختيار البديل عن المواجهة العسكرية والذي يبدو أن الولاياتالمتحدة وإسرائيل تفضلانه عن المواجهة العسكرية والتي يمكن أن تؤدي إلي نتائج خطيرة ولا يحمد عقباها، ومن ثم تكون الحرب الإلكترونية والتي يمكن حصر حدودها داخل إيران من خلال إلحاق الخسائر بأنظمتها عن طريق الحواسب الإلكترونية إلا أن هذه الخسائر بالطبع لا تقارن بما تخلفه العمليات العسكرية من دمار. فضلا عن أن المفاعل يظل مجهولا وإن أحاطت به الشبهات. إلا أن طهران لن تقف بالطبع مكتوفة اليد أمام هذا الخطر وستلجأ للمواجهة والرد ومن المؤكد أنها تمتلك القدرة علي شن هجمات مضادة. صحيح أن قدرة الخصم المتمثل في الولاياتالمتحدة وإسرائيل ستكون أكبر، إلا أن ذلك لن يمنعها من محاولة الرد وإلحاق أكبر خسارة ممكنة خاصة أن اعتماد كل من واشنطن وتل أبيب علي الحواسب الإلكترونية يفوق بكثير اعتماد طهران عليها. أما عن فشل طهران في مواجهة الفيروس قبل أن يتمكن من اختراق أنظمتها الإلكترونية بالرغم من قيامها في أبريل الماضي بمناورات عسكرية ضخمة كان من بينها اختبارات تتعلق بأنظمة جديدة في مجال الحرب الإلكترونية تهدف لمراقبة وكشف أي تحركات عسكرية ضدها واستعرضت الوحدات المشاركة فيها كيفية التصدي للعدو الوهمي والحيلولة دون إخلاله بمنظومة الرادار بالمنطقة. هذه المناورة التي يبدو أنها لم تحقق الهدف منها علي المستوي التطبيقي بعدما نجح فيروس ستكس نت في اختراق أكثر من 30 ألف جهاز كمبيوتر للعاملين بالوحدات الصناعية الإيرانية، هذا الفشل يرجعه الخبير الاستراتيجي لاحتمال استخدام الطرف الآخر وسائل لم تكن موضوعة في الاعتبارات الإيرانية عندما أجرت هذه المناورة، لكن من المؤكد أن يدفعها ما حدث لمحاولة البحث عن حل لمواجهتها وإيجاد وسائل جديدة لها قدرة دفاعية أكبر قبل أن تتمكن في وقت لاحق من الرد وهو أمر متوقع، فاحتمالات تصعيد الحرب الإلكترونية بالطبع واردة وهي تعد إحدي وسائل الصراع وتزداد مع ازدياد التوتر وتقل بالتالي إذا ما انخفض حجم هذه التوترات وبرغم ضراوة الحرب الإلكترونية المتوقع تأججها وتصعيدها إلا أن احتمالات المواجهة العسكرية أيضا مازالت قائمة ولا أحد يمكن استبعادها وهو ما اعترف به صراحة رئيس الأركان الأمريكي والعديد من المسئولين الأمريكيين الذين أكدوا مرارا أن كل الخيارات مازالت مفتوحة لمواجهة إيران بما فيها الخيار العسكري وإن كان غير مرحب به حتي الآن.