تخوضُ الأجهزةُ الأمنية في جميع محافظات الجمهورية حرباً لتحرير الشوارع والميادين من قبضة الباعة الجائلين، الذين انتشروا في أجساد الأرصفةِ كخلايا سرطانية فشلت الحكومات المتعاقبة في استئصالها، وكلما استأصلتها عادت من جديد مبتكرةً طرقاً جديدة للمراوغة والتحايل علي القانون. فرغم الحملات الموسعة التي قامت بها شرطة المرافق لإزالة الإشغالات بقيت الأزمة قائمة، الرصيف الذي يُحرر صباحاً يتم احتلاله مرة أخري في المساء أو ربما بعد بضع ساعات من مغادرة أفراد القوة الأمنية، لتعاد مشاهد الكر والفر التي اعتدناها بين الباعة الجائلين والحكومة. تفاقم ظاهرة الباعة الجائلين وما أحدثته من فوضي عارمة وتكدساتٍ مرورية في معظم الشوارع دفع المسؤولين لعدم الاعتماد علي التعامل الأمني مع الظاهرة كحلٍ أوحد، والبحث عن حلولٍ جذرية لها بحيث تراعي فيها الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لهذه الفئة مع الحفاظ علي هيبة الدولة وتطبيق القانون، تمثلت هذه الحلول في تقنينِ أوضاعهم بتوفير أماكن بديلة تخصص لممارسة نشاطهم التجاري تحت إشراف الحكومة. لكن الأزمة لاتقتصر علي التعامل مع الباعة الجائلين أنفسهم كما جاء في تصريحٍ للدكتور جلال سعيد محافظ القاهرة، والذي أشار إلي ضرورة تفكيك العصابات التي تحكم الظاهرة برمتها، والتي تتكون في معظمها من بعض أصحاب المحلات الذين يستغلون الرصيف بجشع كمنفذٍ إضافي لهم. "آخر ساعة" قامت بجولة لرصد عودة الباعة الجائلين وعربات الطعام في عدد من الشوارع رغم استمرار حملات الإزالة. من ميدان رمسيس بوسط البلد كانت البداية. نظرةٌ بانوراميةٌ فاحصة هي كل ماتحتاجه لتدرك أبعاد المشهد العبثي الذي اعتادته عيناك ربما لفرطِ تكراره في أغلب ميادين العاصمة. بضائعُ الباعةِ الجائلين تأكلُ أرصفةَ جامع الفتح والرصيف الموازي لمحطة السكة الحديد وتطرد المارة الذين يبحثون عن رصيفٍ واحدٍ يصلح للمشي، إلي نهر الشارع حيث يصارعون السيارات العابرة وأصواتِ أبواقها التي تنطلق ضجراً من الزحام. بينما تتكدس مخلفاتُ الباعة الذين تركوا أماكنهم علي جانبي الطريق. يتفادي اسماعيل محمد أتوبيس النقل العام الذي يسير بسرعةٍ نسبية وهو يصف لي معاناته في الذهاب إلي مقر عمله الواقع في منطقة وسط البلد. ويقول: أعيشُ كابوساً يومياً وأنا أتوجه إلي مقر عملي في شارع 26 يوليو بسبب اختناق الشوارع والأرصفة هنا. حملات الإزالة التي تقوم بها الشرطة خطوة إيجابية لكنها غير مجدية ولاتكفي للقضاء علي هذه الظاهرة، لأن البائعين ليس لديهم مورد رزق إلا الشارع وبالتالي يعودون إليه بعد انتهاء الحملة، ومن المستحيل أن تضع في كل شارع قوة أمنية تراقب هؤلاء البائعين. يجب أن توفر الحكومة لهم أماكن بديلة تضمن عدم عودتهم إلي الشارع مرة أخري. "الحكومة تعبتنا يا أستاذة" يبادرني وليد رمضان أحد الباعة في ميدان رمسيس وهو يخرج من جيبه كارنيه "نقابة البائعين الجائلين" يصف تضرره من ملاحقة شرطة المرافق لهم رغم أنهم لايقومون بارتكاب أي جرم علي حد قوله. يخبرني أنه اضطر لمزاولة هذه المهنة بعد أن ضاقت به سبل الحياة وفشل في الحصول علي وظيفة رغم أنه خريج كلية الخدمة الاجتماعية. يضيف: الحكومة تريد إبادتنا من الشوارع علي أننا خارجون علي القانون وهي لاتريد إيجاد حل لمشكلتنا، كل يوم نسمع وعودا من المسؤولين بتوفير سوق لنا في "وابور الثلج" ولا نري أي شيء، كما نعاني من سطوة البلطجية الذين يفرضون علينا إتاوات للبيع في الشارع ويأخذون علي كل "فرشة" من 50 إلي 100 جنيه يومياً. أما منطقة الإسعاف بوسط البلد والتي كانت بمثابة فاترينة عرض مفتوحة قبل الحملة التي قامت بها شرطة المرافق لإزالة استاندات ملابس "البالة". رصدنا قيام الأجهزة الأمنية بإخلاء الشارع تماماً من بضائع الباعة الجائلين، بينما سمحت لهم بالبقاء مؤقتا علي الرصيف شريطة الالتزام به دون التعدي علي نهر الشارع. هذا ماأكده عدد من الباعة الجائلين. حيث يري حسن إبراهيم بائع أحذية في شارع 26 يوليو أن تعامل قوات الأمن خلال هذه الحملة كان مرناً ويختلف تماماً عن السابق، ويؤكد أن المشكلة الحقيقية لايسببها البائع الغلبان ولكن أصحاب المحلات الذين يؤجرون أرصفة كاملة موازية لمحلاتهم ويعرضون فيها البضائع لمضاعفة أرباحهم. بينما يري محمد سعيد صاحب ملابس في شارع طلعت حرب أن أصحاب المحلات هم أول المتضررين من تفشي الباعة الجائلين وبخاصة في منطقة وسط البلد. لأنهم سببوا كساداً في السوق لاستقطابهم الزبائن برخص أسعار السلع التي يقدمونها. ويضيف: كل الحملات الأمنية في رأيي ستفشل مادام لايوجد قانون رادع يطبق علي هؤلاء، ويكتفون بدفع غرامة بسيطة لاستعادة بضائعهم المصادرة. يجب تغليظ العقوبة علي الباعة الجائلين لإعادة الحياة إلي الشوارع التي اختنقت بهم. من جانبه أكد اللواء إبراهيم الزيات مدير شرطة مرافق القاهرة أن الحملات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية لإزالة التعديات علي الشوارع مستمرة، وهدفها إعادة الانضباط وفرض هيبة الدولة في الأماكن التي احتلها الباعة الجائلون، لأن هذه الظاهرة تسيء إلي المظهر الحضاري والجمالي لمصر وشوارعها. ولفت إلي أن الأجهزة الأمنية قامت بتنفيذ تكليفات وزير الداخلية واللواء علي الدمرداش مساعد أول وزير الداخلية لأمن القاهرة بتطبيق القانون بحسم وتم التعامل مع الباعة بصورة حضارية لتفادي أي صدامات وبالمقابل لمسنا استجابة من الباعة الجائلين. وأوضح الزيات أن وزارة الداخلية بدأت في تطبيق خطة لتكثيف التواجد الشرطي في الشوارع لضبط الباعة الذين يخالفون القانون ويعودون إلي افتراش الطريق وإعاقة حركة المارة، كما أن الحملات لا تكتفي بإزالة البائعين بل نكلف فرع هيئة النظافة المختص بحمل المخلفات وتجميل المنطقة. ولكن مسؤولية توفير الأماكن البديلة للباعة تقع ضمن مهام الدولة ممثلة في رئيس الوزراء والمحافظين وهم يسعون بالفعل في هذا الصدد وقد تم رصد مبلغ نصف مليار جنيه لتأهيل منطقة "وابور التلج" للباعة الجائلين. وعن طبيعة التعامل مع أصحاب المحلات الذين يؤجرون الأرصفة لحسابهم أكد الزيات أنه بمجرد إزالة البائع يتكشف من الذي يوظفه، ونستطيع إحكام السيطرة علي هؤلاء أكثر من الباعة الجائلين لأن صاحب المحل لديه شهادات تجارية وهويته معروفة لدينا.