الثلاثاء الماضي 25 مارس وافق مرور خمسين عاماً علي إنشاء إذاعة القرآن الكريم من القاهرة كأول إذاعة للقرآن الكريم علي مستوي العالم أجمع مختصة بإذاعة تلاوات القرآن الكريم وعلوم فقه القرآن والسنة.. وانطلق صوتها حتي الآن قوياً مؤدياً رسالة لم تحد عنها ببرامجها متبنية المنهج الوسطي وتطورت عبر نصف قرن لا يتعلم منها المصريون فقط بل كل ناطقي العربية في البلاد العربية والإسلامية.. وللإذاعة برامجها المتعددة التي تبدو في مجمل تنوعها علي مدي سنواتها الخمسين كجامعة إسلامية مسموعة. ويظل أبرز ما قدمته وتقدمه إذاعتنا الجليلة في رسالتها هو فرصة الاستماع للتلاوات النادرة.. وهذا ما يأخذ بقلبي في الاستماع لكلمات الله الشريفة بأصوات لكل منها جمال الصوت وخشوعه.. خاصة وآذاننا تلتقط الصوت دون تمهيد أو استئذان كما خلقها الله سبحانه وتعالي.. وهنا يأخذني ما يحمله الصوت البشري من رسالة روحانية قبل الذهنية.. تكثف روحانية الكون .. فالصوت البشري أحد نعم الله علينا.. به نتواصل ويكون أعلي ما يكون التواصل والآخر إن حُمل الصوت بمعانيه ولا يكون كصوت مطرقة أو كرد فعل يستدعي التواصل بالكلمات مجردة من المعاني أو المشاعر.. وأكثر بل وأروع الأصوات في تحميلها لمعاني الكلمة المقروءة هو صوت مقرئ القرآن الكريم.. فهو يعبر بصوته عما لم يره من جنات نعيم أو عن عذابات الجحيم.. لكنه الصدق المحمل بأمانة التعبير عن صدق وحق كلمات الله سبحانه وتعالي المنزهة الشريفة. وتحدث لي حالة ارتباط بين البصر والأذن كلما شاهدت اللوحات أمامنا لمقرئ القرآن ويستدعي للتأمل الروحي لهذا المشهد امتزاجه بإضاءة داخلية وليس مجرد المشهد المرئي.. تلك الإضاءة الروحية بأطيافها السحرية التي يفتح بها الصوت البشري - الذي نكاد نسمعه - لآفاق يُنشر عبرها وداخلها صوت المقرئ لكلمات الله في كل الاتجاهات متخللاً لأرواحنا حتي نكاد نستشعر رؤية ما تنطقه الكلمات من جزاء أو عقاب.. من نعيم الجنات أو عذابات الجحيم ناقلة للحالة صوت المقرئ بطبقاته المتعددة بين اللطيف الطبقة المبشرة برحمة الله وبين الطبقة الخشنة المحذرة من عقاب الله.. بين التجويد والترتيل.. والتي تؤكد معانيه العدة الوقفات والسكتات المشكلة للسكون المقطوع كي يلملم المقرئ روحه من عظمة ما يقرأ قد لاتتحملها النفس التي تعي ما تقول مدركة لما بين آية وأخري.. وليحدث التكرارات من قارئ القرآن النبيه ليصل معناه الي مستمعيه أو حتي لو كان يقرأ القرآن لنفسه.. كما يحدث ذلك التواصل بين تلاوة القرآن وحركة الجسد تماماً كتفاعل جدلي يمثل جوهر الوجود بين الإرسال والتلقي.. وهذا التقابل بين الحركة التي يهتز لها جسد المقرئ تفاعلاً وكأن بداخله موجات طاقة تحمل الكلمات فيهتز لها الجسد جميعه بين اليمين واليسار في تلخيص لهذين الاتجاهين الأساسيين في مسلك الاختيار .. كذلك نجد من إغماض القارئ لا إرادياً لعينيه ما يتبع الأداء .. واقتران وضعية كف اليد بالقرب من مخرج الكلمات والحروف لتشكل توترا محببا في الصوت وأيضا عندما يقرأ مبتدئا "بالجواب " أي رفع الصوت إلي منتهاه حتي يصبح الصوت كموجة رطبة منعشة عظيمة تتهادي صعوداً وهبوطاً بين آية وأخري بتأثير المعني ورغبة التأثير .. والذي يصبح صوته شاشة رؤية أو كأمواج طاقة تتواصل ومستمعيه من ذوي الرؤية والصفاء الداخلي .. ويسود انفعال ممتع بين مستمعي المقرئ عبر أثير الإذاعة أو داخل سرادق أو مسجد بين كلمات الاستحسان أو بعض الإيماءات أو حتي يبكي البعض او يفيض به التأثر فيصيح باستجابات معبرة لما يسمع من كلمات الله أو معلنا عن إعجابه لبراعة القارئ .. والمستمع لا يحاول أن يسابق الكلمات التي قد يكون حافظاً لها ومحيطاً بها إلي درجة ما بمعانيها ولكنه يفصل بين ما يحفظ أو يعلم كي يستمتع بالحالة في لحظة تجعل كلمات الله تفاجئنا بما لم ندركه من قبل رغم ما نحفظه لكن تلك المعايشة الروحانية لقارئ القرآن تساعده أن تتفتح للمستمع آفاق جديدة لم يدركها قبلا .. ومع كل قراءة يفتح الله علينا بمعانيه وآياته كأنه نبع مائي دفاق يفيض بعطاءاته وفي كل دفقة طعم مذهل جديد يروي أرواحنا وتمتلئ به القلوب العطشي التي لا ترتوي أبدا ولا تفكر في الاكتفاء من ذلك النبع الروحي والذي يُنسينا ماديات الحياة القاسية أو المُلهية المُغرية.. أفاض الله عز وجل علي مقرئينا بكل الخير والرحمة وبارك فيمن يبثون عبر الأثير ما يهدي بنا الطريق .. وبارك الله في إذاعتنا بخيرة رجالها وكل عام وهي في خير وبرضا من الله .. وأثيرها يصل لأطراف الأرض بالنور والهداية لأنه وحتي قيام الساعة سيظل «خيركم من تعلم القرآن وعلمه ..».