چورج بوش يعلن انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية فى العراق حرب لم يسبق لها مثيل، علي الأقل في التاريخ الحديث، تلك التي شنتها الولاياتالمتحدةالأمريكية علي العراق، «حرب اختيار وليست إجبارا» بحسب ما كتبه توماس فريدمان علي صفحات النيويورك تايمز، إذ لم يكن هناك من ضرورة تدفع واشنطن لتلك الحرب، فبغداد لم تهاجمها ولم تبد نية في أن تفعل، وبعد 10سنوات من حصار خانق لم يعد عراق صدام حسين يشكل أي خطر علي جيرانه، وباعتراف قيادات عليا في مخابرات وجيش إسرائيل لم يكن العراق يشكل أي قلق للدولة العبرية. كان من الواضح أن الرئيس السابق جورج دبليو بوش قد اتخذ قراره بمهاجمة العراق منذ وقت طويل، لحظة وقوع هجمات سبتمبر علي الأرجح، ولم تكن معاركه الدبلوماسية مع فرنسا وروسيا، أبرز المعارضين للحرب، في أروقة مجلس الأمن، في اتجاه الذهاب للقتال أولا، بل كانت بهدف الحصول علي «صك الشرعية الدولية من المنظمة الأممية». ذهبت أمريكا للحرب مع توجيه اتهامين لصدام حسين، الأول: تطوير أسلحة دمار شامل بالخرق لاتفاقيات وقعت عليها بغداد، والثاني: الاشتباه في أن ما يملكه صدام من أسلحة محرمة دولياً قد يقع في أيدي متطرفين إسلاميين، ورغم تفنيد حجج واشنطن فإنها تذرعت في النهاية بأنها تخوض حرباً وقائية ضد الإرهابيين، غير عابئة برأي عام لا يري في نظام صدام حسين خطراً علي أمن وسلامة المواطنين الأمريكيين، ولا بتقارير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذين أكدوا أن بغداد متعاونة معهم لأقصي مدي. اعتراف الإدارة الأمريكية نفسها اعترفت بأن هناك دوافع أخري للحرب، ووقع بوش الابن بلسانه حينما قال في حوار تليفزيوني أنه يريد تغيير النظام في بغداد تنفيذاً لرغبة المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري وجناح المتشددين المهيمن عليه، أولئك الذين طالما وجهوا اللوم لبوش الأب علي عدم إتمامه المهمة في حرب الخليج الثانية عام1991، التي عُرفت بحرب تحرير الكويت، حيث يعتقد ذلك الجناح المتشدد أنه كان علي القوات الأمريكية الذهاب حتي بغداد والعودة برأس صدام حسين. غير أن بوش الأب ومساعديه لم يستمعوا إلي هذا الرأي، فالإطاحة بصدام ليست من ضمن التفويض الذي منحته له الأممالمتحدةلتحريرالكويت، كما أن ذلك من شأنه أن يفتت التحالف العربي الذي شارك معه في طرد القوات العراقية منها، وسيؤدي إلي حرب أهلية سيكون لها تبعات علي المنطقة برمتها، وارتاح بوش الأب للرأي القائل بأن نظام صدام لن يعيش طويلا بعد الهزيمة العسكرية وفي ظل ما فُرض عليه من حصار، وأن إرسال قوات أمريكية لاحتلال واحدة من أهم العواصم العربية لهي حماقة كُبري أصر ابنه علي أن يرتكبها من بعده. وطوال حقبة التسعينات، ولاسيما في عهد الرئيس بيل كلينتون (1992-2000) لم يتوقف المحافظون الجدد وقطاع كبير من الحزب الجمهوري عن المطالبة علناً بالإطاحة بصدام حسين عن سدة الحكم، بل ساندهم في ذلك عدد لابأس به من الحزب الديمقراطي المفترض أنه أقل تشدداً وأكثر اعتدالاً، ولم يتوقف هؤلاء عن إدانة اتفاقية أوسلو للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين عام 1993، وكانت وجهة نظرهم تتلخص في أن تسوية الصراع العربي الفلسطيني يمر عبر الإطاحة بما يعتبرونه ديكتاتوريات المنطقة العربية ووضع أنظمة يرونها أكثر اعتدالاً، وهو ما نجح نائب الرئيس ديك تشيني في الترويج له في بداية تولي بوش الابن زمام الأمور في البيت الأبيض، حيث أقنعه أن إزاحة صدام من الحكم وزرع أنظمة ديمقراطية سيكون بمثابة نموذج يحتذي به في كل دول المنطقة من طهران إلي دمشق. في عهد بوش الابن، كان البيت الأبيض واقعاً في قبضة عدد من الشخصيات الأكثر تطرفاً في تاريخ الولاياتالمتحدة، ولم يكن الرئيس الأمريكي يخطو خطوة واحدة دون أن يأخذ برأي وول بول وفيتز، مساعد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وريتشارد بيرل أحد أبرز المستشارين في وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون»، والصحفي اليهودي ويليام كريستول صاحب جريدة ويكلي ستاندارد الذي لم يفت أسبوع من يناير 2001 وحتي مارس 2002إلا وحرض في مقاله علي غزو العراق وفعل نفس ما فعلته الولاياتالمتحدة في ألمانيا واليابان عقب الحرب العالمية الثانية، وهو بناء ديمقراطية أمريكية علي أنقاض أمة منكوبة. أغلب الظن أن بوش الابن ومساعديه لم يعرضوا ما كان يختمر في رؤوسهم علي الكونجرس، وكان واضحاً أنهم بنوا خطتهم علي كل نقاط الضعف في نظام صدام حسين، وأولها اقتصاده المنهار عقب 8 سنوات من حرب طاحنة مع جارته إيران، وحالة غليان طائفية-عرقية في العراق، بسبب اضطهاد وقتل عشرات الآلاف من الشيعة في انتفاضة الشعبانية عام 1991 في مدينة البصرة جنوب البلاد، وقبلها اختفاء 180 ألف كردي في الشمال بعمليات إبادة جماعية فيما عُرف بمذبحة حلبجة الكيماوية عام 1988 بتهمة التعاون مع إيران. عقب وقوع هجمات واشنطن ونيويورك في سبتمبر 2001 كانت رسالة الولاياتالمتحدة واضحة للعالم أجمع: سنخوض حرباً لردع أعدائنا..لا يمكن لمن يهاجم أمريكا في عقر دارها أن يفلت من العقاب، خاصةً أولئك الذين يطورون أسلحة دمار شامل، وكان العراق هو المقصود من العبارة الأخيرة، حتي وإن أكدت تقارير مفتشي الأممالمتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية أن العراق لا يملك ولن يكون له القدرة في المستقبل علي أن يملك أسلحة دمار شامل. أهداف أخري غير أن واشنطن كان لها هدفان آخران من وراء تلك الرسالة، الأول: أن تعلن للجميع أن هناك عالما آخر ما بعد انتهاء الحرب الباردة وما بعد 11سبتمبر، عالم تصيغ هي وحدها قواعد لعبته، وتضطلع فيه بدور الشرطي الأوحد، وأنها في سبيل تحقيق ذلك لن تلتزم بأي اتفاقيات أو مواثيق دولية ولن تستمع لنصح أقرب حلفائها حتي لو كانوا من الاتحاد الأوروبي أومن حلف شمال الأطلنطي، وهو ما لخصه الصحفي البريطاني مارتن ولف علي صفحات جريدة الفايننشيال تايمز بالقول :»القانون الأعظم في تلك الفترة كان أمن الجمهورية الأمريكية، وليذهب من لا يعجبه الأمر إلي الجحيم، حتي لو كان الثمن أن تعيش الولاياتالمتحدة في أمن مطلق وأن يعيش آخرون في لا أمن مطلق». الهدف الثاني: أرادت الولاياتالمتحدة التأكيد علي مبدأ أنها القوة العسكرية الأعظم علي وجه البسيطة، وكان إنشاء قواعد عسكرية لها في بغداد والبصرة بهدف منع أي قوة أخري من الظهور. وأعلن بوش الابن عن المبدأ الثاني ضمناً من خلال جملة في خطاب ألقاه في يونيو 2002 ثم من خلال وثيقة استراتيجية نُشرت في سبتمبر من نفس العام، وتضمنت عبارة:» أمريكا تملك من القوة العسكرية (وستحتفظ بذلك) ما يمكنها من مواجهة ما يفوق تحديات الحاضر والمستقبل، بحيث يصبح أي سباق للتسلح لا فائدة منه فلن يلحق بنا أحد في مجال التجارة في هذا المجال وفي مجالات أخري». باختصار كانوا يريدون القول إن صواريخ كروز التي قتلت 100ألف عراقي مع اندلاع الشرارة الأولي للحرب، ثم فتحت الباب لقتل 2 مليون آخرين، هي غيض من فيض، ومازال في جعبتنا الكثير. انسحاب اللصوص «رحلوا مثل اللصوص في جنح الليل ..لم يقولوا لأحد وداعاً ولم يشأ أحدهم أن يلتفت ولو بنظرة واحدة للخلف ..عشرات من المدرعات و500 جندي من الفرقة الأولي- كتيبة الفرسان الثالثة، عبروا الحدود الكويتيةالعراقية فجر الثامن عشر من ديسمبر 2011 واضعين بذلك حداً لمغامرة أليمة بدأها جورج دبليو بوش واستمرت 8 سنوات و9أشهر»..هكذا وصفت صحيفة لوموند الفرنسية اليومية، من خلال مبعوث خاص، مشهد رحيل آخر جندي أمريكي عن العراق..انسحاب وصفته الصحيفة الفرنسية بالمخزي وجالب العار، رغم حديث باراك أوباما في ذلك الوقت عن «نجاح»، و»عراق مستقر مستقل ذو سيادة»، وكان من الواضح أنه يقصد بالنجاح أنه حقق الوعد الذي قطعه علي نفسه في حملته الانتخابية بإعادة»الأولاد» إلي الوطن قبل أن تنتهي رئاسته.. يوم انسحاب آخر جندي أمريكي من العراق كان شاهداً علي محصلة كارثية لكل الأطراف، فحتي ذلك اليوم سقط ما يقرب من 2مليون عراقي، وتم تهجير 2مليون آخرين من منازلهم، بينما خسرت الولاياتالمتحدة 5 آلاف من جنودها، وأصيب 32 ألفا معظمهم بعاهات مستديمة، فيما أنفقت علي الحرب 1000 مليار دولار، فضلاً عن سجل حافل بالفضائح تمثل في أكذوبة أسلحة الدمار الشامل، وفضيحة التعذيب في سجن أبو غريب، والاستعانة بأعداد غير معروفة من المرتزقة للقتال بدلاً من القوات الأمريكية النظامية التي تحطمت معنوياتها في الكثير من الأوقات أثناء الحرب. رحل الأمريكيون عن العراق بعدما زعموا تحريره وتركوه بلداً مريضاً بالطائفية والفساد وانعدام الأمن، والقتل علي الهوية، ويحكمه رئيس وزراء يدعي نوري المالكي وهو شيعي متعصب، لا يستمع إلا للتعليمات الواردة من إيران، وأشد استبداداً وديكتاتورية من صدام حسين. مراسل لوموند الفرنسية تجول في شوارع ومقاهي مدينة الصدر ذات الأغلبية الشيعية في العاصمة بغداد، ليعرف رأي الناس في الانسحاب الأمريكي من بلادهم، فقال أبو علي « إننا لم نكن نراهم حتي قبل أن يرحلوا، لقد كانوا متقوقعين داخل ثكناتهم خوفاً من التفجيرات اليومية، الآن أندم علي أيام صدام حسين، نعم كانت الأفواه مكممة، ولكن كان هناك أمن وطعام، ما فائدة الحرية إن لم أكن أملك أبسط مقومات الحياة؟!».