فى غرفة مجاورة، لمقر اجتماعات قمة شرم الشيخ للسلام، التى استضافتها مصر الأسبوع الماضى برئاسة مشتركة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، كانت هناك كثير من المشاهد، التى دارت فى كواليس هذا الحدث الاستثنائى فى تاريخ المنطقة، غير أن أكثر ما كان يلفت الانتباه، ذلك الانتصار للإرادة المصرية نحو الاستقرار والسلام، حينما اجتمع أكثر من ثلاثين من قادة الدول ورؤساء الحكومات والمنظمات الدولية، لاتخاذ خطوات جادة نحو السلام، وإنهاء الحرب المستمرة فى قطاع غزة على مدار عامين. ولا نستطيع أن ننظر لمؤتمر شرم الشيخ، بعدّه مؤتمرًا عابرًا فى أجندة السياسة الدولية، بل يمكن تصنيفه من المحطات الاستثنائية الفارقة فى تاريخ المنطقة، هكذا كنا نستشعر فعاليات ما جرى فى غرف هذه «القمة»، وتفاعلات رؤساء الوفود الدولية المشاركة فيها، ومستوى التمثيل الدولى فيها، والأهم المعانى التى تحدث بها رئيسا القمة، الرئيس عبد الفتاح السيسي، ونظيره الأمريكى دونالد ترامب، والتى عبرت عن تحول جذري فى إرادة المجتمع الدولي، نحو «السلام العادل» فى الأراضى الفلسطينية والمنطقة. كانت مشاعر الشغف الصحفى والإعلامي، حاضرة لدى العشرات من ممثلى الإعلام المصرى والدولي، فى قاعة المؤتمرات الدولية بشرم الشيخ، حيث عُقدت «قمة السلام»، غير أن القراءة المنصفة لما جرى فى ساعات القمة، لا يمكن حصرها فى البيانات أو التصريحات والأحاديث التى أدلى بها رؤساء الوفود الدولية فى القمة، فهناك كثير من المعانى والمكتسبات والرسائل التى تستوجب التوقف أمامها بالفحص والدرس، لتقييم نتائجها بشكل شامل وعادل.
داخل مقر انعقاد «القمة»، كنا كوفود إعلامية وصحفية مصرية ودولية، نراقب ونتابع ما يحدث من مشاركات دولية، وفعاليات ولقاءات ومحادثات على هامش الاجتماع، لكن أكثر ما استدعى توقفي، تلك الرسالة التى تحدث بها الرئيس السيسي، حينما وصف الاجتماع، بأنه «الفرصة الأخيرة للسلام»، وحديث الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بأن القمة تؤسس لطريق السلام، بعد أن كان العالم يتجه إلى حرب عالمية ثالثة». وهنا نتحدث عن مجموعة من الأبعاد، التى تستدعى التوقف أمامها، لتقييم ما حدث فى شرم الشيخ، بداية من رسالة الزمان والمكان التى عقدت فى سياقها القمة، ورسالة المشاركة الدولية رفيعة المستوى، وصولًا إلى تقديرات الموقف التى تحدث بها الرئيس السيسي، ونظيره الأمريكي، عن واقع السلام والصراع فى المنطقة.
رسالة الزمان والمكان
لم يكن حضورى هذه المرة لمركز المؤتمرات الدولى بمدينة شرم الشيخ، كغيره من الفعاليات والمؤتمرات التى سبق وأن عاصرتها وتابعتها صحفيًا وإعلاميًا بتلك المدينة، ورغم أن منها ما اتخذ طابعًا دوليًا، مثل قمة المناخ cop27، ومنتدى شباب العالم، غير أن قمة السلام، سجلت حضورًا تاريخيًا على مستوى المشاركة، وعلى مستوى التفاعل الدولى مع مخرجاتها ونتائجها، ما يجعلها حدثًا فارقًا فى مسار السلام بالمنطقة. هكذا كنا نستشعر قيمة هذا الحدث، وهكذا كنا نسجل كل لحظاته، بعدّه حدثًا تاريخيًا ستسجله صفحات تاريخ المنطقة، وباعتباره يكلل جهود الدولة المصرية على مدار عامين، كانت فيها صوت السلام والتهدئة، على حساب منطق الحرب والصراع والعدوان، ومن هنا تأتى نقطة التوقف الأولى التى يجب أن تسجل أمام حدث القمة، والخاصة برسالة الزمان والمكان التى جرت فيها فعالياتها. على صعيد التوقيت، جاءت قمة شرم الشيخ، بعد أيام من نجاح الجهود المصرية، بالشراكة مع الوسطاء الدوليين، (الولاياتالمتحدة وقطر وتركيا)، لقيادة مفاوضات وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، لتحقق اختراقًا طال انتظاره على مدار عامين، ولتنهى مأساة إنسانية عجزت أمامها كل المساعى الدولية خلال الأشهر الماضية، وبالتالى جاءت القمة، لتأكيد الدعم والتأييد المطلق من الدول المشاركة فيها، لاتفاق «شرم الشيخ» الخاص بإنهاء الحرب فى قطاع غزة، والذى تم إبرامه فى التاسع من أكتوبر، أى قبل أربعة أيام من انعقاد القمة. والواقع أن ترتيب انعقاد تلك القمة جاء فى توقيت قياسي، يعكس ما تمتلكه الدولة المصرية من قدرة ومكانة إقليمية ودولية، ففى عدة أيام، جاءت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي، لنظيره الأمريكى دونالد ترامب، للمشاركة فى التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة، والتأسيس لمسار السلام، وفى نفس الفترة جاءت الترتيبات والدعوات للدول المشاركة فى هذا المسار. أما رسالة المكان، فجاء انعقاد القمة فى مدينة السلام (شرم الشيخ)، والواقع أن المدينة كانت على الموعد، كوجهة عصرية حضارية، لترسخ مكانتها ورمزيتها كمنصة للسلام، ذلك أنها سبق وأن كانت شاهدة على مساعٍ دولية وإقليمية فى فترات سابقة، من بينها قمة «صانعى السلام» فى مارس عام 1996، التى شارك فيها الرئيس الأمريكى وقتها بيل كلينتون، لدفع جهود مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفى عام 1999، شهدت توقيع اتفاق «واى 2» بين رئيس الوزراء الإسرائيلى وقتها إيهود باراك والرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، وهى فعاليات جعلها تشتهر ب«مدينة السلام»، وحصلت بموجبها على جائزة مدن «السلام العالمي» لعامى 2000، و2001.
زخم المشاركة الدولية
نقطة التوقف الثانية، تتعلق برسالة المشاركة الدولية الرفيعة فى قمة شرم الشيخ، لتكون شاهدة على اتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، والواقع أن الحضور الدولى فى القمة أعطى زخمًا استثنائيًا لهذا الحدث، ويحقق عدة مكاسب لاتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة. وهنا نتوقف مع مجموعة من الأبعاد المهمة، بداية مع ما طرحه بعض المراقبين، حول أهمية وجدوى القمة، فى ظل غياب الطرفين الرئيسيين للحرب على غزة، والمقصود هنا ممثلى حركة حماس، وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، والواقع أن «قمة السلام» تجاوزت تلك الخطوة، ذلك أنها جاءت لإعطاء شرعية دولية لاتفاق شرم الشيخ الذى جرى توقيعه قبل القمة بعدة أيام، وبالتالي، جاءت القمة لتثبيت ذلك الاتفاق، ومنحه الدعم والزخم الدولى لتنفيذه. وبالتالى نحن نتحدث عن واحدة من المكاسب التى تتجاوز حدود ما جرى فى فعاليات قمة شرم الشيخ، ذلك أننا نتحدث عن منح اتفاق وقف إطلاق النار، الدعم الدولي، الذى يضمن تنفيذه واستكمال مراحله، وذلك من خلال أطراف دولية وإقليمية مؤثرة تستطيع أن تمارس ضغوطًا وتأثيرًا من أجل تحقيق باقى مراحل الاتفاق. من هذا المنطلق، جاءت تأكيدات الرئيس عبد الفتاح السيسي، فى كلمته، حينما أشار إلى أن «القمة تأتى فى إطار تكريس مسار السلام فى الشرق الأوسط»، وذلك من خلال التركيز على منح اتفاق وقف إطلاق النار «التأييد والدعم المطلق» بهدف إنهاء الحرب، وذلك من خلال مشاركات رؤساء دول وحكومات نحو 27 دولة، من مختلف أنحاء العالم، إلى جانب رؤساء منظمات دولية وإقليمية. وهنا أتوقف مع واحدة من المشاهد التى كانت محل ترقب وتفاعل واسع داخل قاعة انعقاد القمة، وهى لحظة وصول الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى شرم الشيخ، بعد زيارته القصيرة إلى تل أبيب، ذلك أن تلك الزيارة تتجاوز رسائلها وأبعادها مسألة حضوره لرئاسة القمة إلى جانب الرئيس السيسي، لكنها تشكل محطة جديدة، فى مسار العلاقات المصرية الأمريكية، إلى جانب معانى الدعم والتقدير لمكانة الدولة المصرية الإقليمية والدولية. وبدت تلك المعانى فى تصريحات ترامب فى شرم الشيخ، عن الحضارة المصرية والرئيس السيسى نفسه، حينما أشاد بجهوده فى المنطقة، وأيضًا بتاريخ الحضارة المصرية، وعن حالة الاستقرار الذى تشهده مصر فى محيط إقليمى مضطرب، حينما قال إنه تم اختيار مصر لاستضافة هذه القمة، ذلك أنها تشهد أقل معدلات من الجريمة الداخلية.
الفرصة الأخيرة للسلام
نقطة التوقف الثالثة، تتعلق بالمعانى التى ارتبطت بكلمة الرئيس السيسي، فى قمة السلام، ذلك أنها صاغت تقديرًا لواقع الأمن بالمنطقة، وخارطة الطريق المأمولة لاستعادة الاستقرار الإقليمي، وكان أول ما استوقفنى فيها حديث الرئيس عن فرص السلام العادل والشامل فى المنطقة. وهنا نتوقف أمام التقدير المصرى الذى صاغه الرئيس السيسى فى كلمته، حينما أشار إلى أهمية وتأثير «اتفاق شرم الشيخ» لوقف النار فى غزة، ذلك أنه أشار إلى أن «الاتفاق يشكل فرصة تاريخية فريدة ربما تكون الأخيرة للوصول إلى شرق أوسط خالِ من كل ما يهدد استقراره وتقدمه»، ما يعنى أن فرص السلام ليست عديدة، ولكن اللحظة التى تم الوصول فيها إلى وقف إطلاق النار، يجب استثمارها، ذلك أنها تشكل بارقة أمل لشعوب المنطقة، ويغلق صفحة أليمة فى تاريخ المنطقة. وفى إطار تكريس مسار السلام فى الشرق الأوسط، قدم الرئيس السيسي، التجربة المصرية فى السلام، كنموذج يحتذى بالمنطقة، حينما أشار إلى أن السلام هو خيار مصر الاستراتيجي، وأن مصر دشنت هذا المسار فى الشرق الأوسط قبل ما يقارب النصف قرن، حينما أقدم الرئيس الراحل أنور السادات على هذا المسار، بخطى غير مسبوقة فى تاريخ المنطقة. فى هذه التجربة، تقدم مصر رسالة أخرى، أن «أمن الشعوب لا يتحقق بالقوة العسكرية فقط، وإنما خيار السلام لا يمكن أن يتأسس إلا على العدالة والمساواة فى الحقوق»، وبالتالى فإن الشعب الفلسطينى ليس استثناءً حينما نطالب بحقوقه المشروعة، بإقامة دولة فلسطين المستقلة، بما يحقق الاستقرار فى المنطقة. والمعنى هنا، أن الرؤية المصرية، قائمة على أن الاستقرار الحقيقى فى المنطقة، لن يتحقق إلا بتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، والقائمة على تهيئة المناخ السياسي، لتنفيذ مشروع حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهنا تريد الدولة المصرية استثمار حالة الزخم الدولي، الداعم للقضية الفلسطينية، والاعترافات الدولية الأخيرة بدولة فلسطين، فى البناء عليها للسير فى طريق السلام.
الشرق الأوسط المصري
نقطة التوقف الرابعة، كانت فى المحددات التى صاغها الرئيس عبد الفتاح السيسي، للشرق الأوسط الجديد، والمحددات التى تضمن إقامة الاستقرار والسلام فى المنطقة، وليس الشرق الأوسط القائم على العدوان واحتلال أراضى الغير. وهنا نتوقف أمام عدد من النقاط التى تشير خارطة الطريق إلى أنه يجب السير فيها، كى لا تتسع رقعة الصراع فى المنطقة مرة أخرى، وحتى لا نعود إلى دوامة الحرب والعدوان، وأهم هذه المحددات ما يلي: تحدث الرئيس عن شرق أوسط تنعم فيه جميع شعوبه بالسلام والعيش الكريم، ما يعنى توفير فرص الحياة الكريمة لشعوب المنطقة. الحدود الآمنة، وهى من المحددات التى أكد عليها الرئيس، بضرورة الحفاظ على أمان حدود دول المنطقة وسيادتها على أراضيها، دون اعتداء أو عدوان. حقوق مصانة، ما يعنى حماية حقوق شعوب دول المنطقة المصانة وفقًا للقانون الدولي. شرق أوسط منيع ضد الإرهاب والتطرف، بالقضاء على منابع الإرهاب والتطرف فى المنطقة، خصوصًا فى ظل تواجد تنظيمات تهدد أمن واستقرار بعض دول المنطقة وتخوض نزاعات مسلحة فى الجيوش الوطنية لبعض دول المنطقة. شرق أوسط خالِ من جميع أسلحة الدمار الشامل، وهى من المبادرات القديمة الحديثة التى تتبناها الدولة المصرية، حماية للاستقرار الإقليمي. من منطلق تلك المحددات، يعتقد الرئيس السيسي، أنه يمكن بها الوصول إلى شرق أوسط خالِ من كل ما يهدد استقراره وتقدمه، والذى تسعى مصر إلى تجسيده بالتعاون مع شركائها إقليميًا ودوليًا، لذلك أشار الرئيس السيسى إلى أن «اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة» يمهد الطريق إلى الشرق الأوسط الذى نريده، وبالتالى يجب العمل على تثبيته وتنفيذ كافة مراحلة، والوصول إلى تنفيذ حل الدولتين، على النحو الذى يحقق رؤية الأمن المشترك لجميع شعوب المنطقة.
الحرب العالمية الثالثة
نقطة التوقف الخامسة، تتعلق بتقدير الموقف الذى تحدث عنه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والخاص بأن الصراع فى الشرق الأوسط، كان قد يتسبب فى مشاكل ضخمة مثل الحرب العالمية الثالثة، ما يعنى أن رقعة الصراع التى كانت تشهدها المنطقة طوال العامين الماضيين فى جبهات عديدة، كانت أقرب إلى صراع دولى تتعدد فيه أطراف النزاع. وهذه واحدة من الأبعاد التى تعكس حجم التحول الذى حققته الدولة المصرية حينما قادت جهود التفاوض الأخيرة فى ملف غزة، لإنهاء العدوان على القطاع، والتمهيد لتسوية سياسية للصراعات فى المنطقة، وبالتالى نتحدث عن انتصار لصوت السلام والاستقرار، على حساب منطق العدوان والصراع فى المنطقة. والشاهد على ذلك حديث ترامب نفسه، حينما أشار إلى أنه «كان يتحدث الكثيرون فى السابق عن أن الشرق الأوسط سيكون مصدر الحرب العالمية الثالثة، ولكن هذا لن يحدث، وحاليًا أمامنا فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة لإنهاء الخلافات القديمة وتحقيق السلام»، حتى أنه تحدث بلغة الصفقات، حينما أشار إلى أن «الصفقة تفرض نفسها، وإذا تحققت ستكون أعظم الصفقات على الإطلاق» الخلاصة، أن قمة شرم الشيخ، يمكن أن تشكل نقطة التحول الحقيقي، وبداية لمرحلة جدية من السلام الحقيقى الشامل والعادل فى المنطقة، شريطة استثمار حالة الزخم الدولي، وإرادة الإدارة الأمريكية الحالية، من أجل تهيئة المناخ السياسي، لتسوية شاملة للقضية الفلسطينية، وهذا يستدعى جهودًا حثيثة من دول المنطقة، وتحركًا فى مختلف المسارات السياسية والدبلوماسية والإنسانية، لتحقيق الغاية الأهم، وهى الوصول لشرق أوسط خالٍ من النزاعات والصراعات.. وهى بالفعل فرصة أخيرة قد لا تتكرر.